ترجمة وتحرير: نون بوست
على مدار نصف القرن الماضي، غالبا ما توقع النقاد سقوط حكم آل سعود وأكدوا هشاشة حكمهم. لكن، ثبُت أنهم كانوا مخطئين، لأن النظام الملكي السعودي كان يتمتع بعائدات نفطية لا محدودة، كما يحظى بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن عمله على تجنب الظهور في الخطوط الأمامية في أزمات الشرق الأوسط. وقد تكون نقاط قوة السعودية وضعفها محل نقاش طويل. لكن نادرا ما كانت مواطن ضعف المملكة واضحة بشكل صارخ كما كانت يوم الثلاثاء الماضي، وذلك بسبب تزامن وقوع حدثين مختلفين صدفة.
أمام تجمع حاشد احتضنته ولاية مسيسيبي، صرّح الرئيس ترامب بطريقة مهينة ودون أي تحفظ أن المملكة العربية السعودية تعتمد على الدعم الأمريكي وأنه من الضروري أن تدفع المال مقابل الأمن. وفي المناسبة ذاتها، قال ترامب أمام الحضور: “نحن من يحمي السعودية، ستقولون إنهم أغنياء. أنا أحب الملك، أعني الملك سلمان، لكنني قلت له: نحن من نقوم بحمايتك، وربما لم تكن لتظل في الحكم لأسبوعين من دوننا. لذلك يجب عليك أن تدفع لجيشك”. من المرجح أن تكون تصريحات ترامب، التي تغلب عليها الانفعالات، مدروسة أكثر مما تبدو عليه، وأنه يعمل في الواقع على إذلال حلفائه بهذه الطريقة، خاصة عندما يكون على يقين بأن الطرف الآخر لن يرد على تصريحاته.
تتجلى الحقيقة التي أشار إليها ترامب بازدراء، والمتعلقة بانعدام الاستقرار في المملكة العربية السعودية، أكثر من خلال الحدث الدرامي الآخر الذي جد منذ أيام قليلة على بعد ستة آلاف ميل في إسطنبول. لم يتمكن الصحفي السعودي البارز والناقد للحكومة/ جمال خاشقجي من الخروج من مقر القنصلية السعودية، حيث كان يقوم ببعض الإجراءات المرتبطة بطلاقه من زوجته السابقة وزواجه الوشيك.
بغض النظر عن نتائج الضجة الحالية التي سبّبتها حادثة خاشقجي، تحمل هذه الواقعة بين طياتها رسالة مهمة عن الحالة الراهنة التي تعيشها المملكة العربية السعودية
لم يُشاهَد خاشقجي منذ ذلك الحين. ومن جهتها، صرحت السلطات التركية، التي من المؤكد أنها تفتخر بالبروز على اعتبارها دولة مدافعة عن حرية الصحافة، أن خاشقجي لا يزال داخل القنصلية. لكن، المسؤولين السعوديين تمسكوا بالقول إنه قد غادر مقر المبنى، على الرغم من أن كاميرات المراقبة أثبتت أنه لم يفعل ذلك مشيا على الأقدام. لذلك، وفي حال مغادرته، من المفترض أن يكون قد تم ذلك في سيارة دبلوماسية أو في صندوق خلفي لإحدى السيارات، علما وأن خطيبته كانت تنتظره خارج أسوار القنصلية.
تعيد هذه الحادثة للأذهان التجربة الغريبة التي عاشها الرئيس اللبناني سعد الحريري في تشرين الثاني / نوفمبر من السنة الماضية، عند اختفائه خلال زيارته للرياض وخروجه مباشرة على شاشة التلفزيون ليُعلن عن استقالته من منصبه، قبل الظهور، مجددا بفضل الضغوط الفرنسية على الجانب السعودي.
بغض النظر عن نتائج الضجة الحالية التي سبّبتها حادثة خاشقجي، تحمل هذه الواقعة بين طياتها رسالة مهمة عن الحالة الراهنة التي تعيشها المملكة العربية السعودية. وإذا كان قد تم احتجازه قصرا، كما تُفيد الحكومة التركية، يُعد ذلك حقا تصرفا غبيا سيُلحق الضرر بالمملكة. كما ستُحول عملية الاختفاء هذه خاشقجي من مصدر إزعاج بسيط إلى قضية رأي عام. علاوة على ذلك، يُؤكد الغموض المستمر حول مصيره أن هذه القصة لن تنتهي.
على الرغم من أنه لم يمر الكثير من الوقت على هذه الحادثة، إلا أن اختفاء خاشقجي قد تسبب في ظهور سيل من الدعايات السلبية المتعلقة بالسعودية وولي العهد محمد بن سلمان. والغريب في الأمر أن أحداثا مرعبة، على غرار الحرب التي قادتها السعودية في اليمن والتي تسببت في تعرض خمسة ملايين طفل للمجاعة، قد فشلت في جذب انتباه برامج الأخبار العالمية، نظرا لأن المجازر هناك هائلة ومتعددة فضلا عن أن مكان الأحداث بعيد. بناء على ذلك، لن يكون من المفيد بالنسبة لمعظم الأشخاص إعطاء أهمية لمثل هذه الأحداث والتفاعل مع الأهوال الواقعة هناك.
كان خاشقجي واحداً من الأشخاص الذين استطاعوا خلق توازن بين النقد العقلاني والمعارضة الصريحة
لكن تُعتبر أحداث أخرى على نطاق ضيق، على غرار اختفاء أحد منتقدي الحكومة السعودية بينما تنتظره خطيبته في الشارع، ذات وقع معين وقادرة على كسب الكثير من التفاعل في الكثير من الأحيان. ويكمن الهدف البسيط وراء الاختفاء الشائع للصحفيين، في إسكاتهم وترهيب البقية. ويُعد ذلك تطبيقا وحشيا لمقولة: “دعهم يكرهوننا، طالما أنهم يخشوننا”.
من جهته، كان ولي العهد السعودي يأمل في أن يعكس صورة أكثر إيجابية في وسائل الإعلام العالمية، ونادرا ما خابت آماله. فعلى سبيل المثال، يُمكنك إلقاء نظرة على مقال لكاتب عمود بصحيفة “نيويورك تايمز”، توماس فريدمان، الذي نُشر في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من السنة الماضية، والذي يتطرق فيه إلى الساعات الأربع التي قضاها الكاتب رفقة بن سلمان.
في هذا الصدد، كتب فريدمان: “التقينا ليلا في قصر عائلته المزخرف المبني من الطوب، الذي يطلق عليه اسم القصر المربع، الواقع شمال الرياض”. ويصف فريدمان كيف أن المملكة العربية السعودية تعيش في حالة مخاض، ستنبثق عنها نسخة من مملكة تعيش ربيعا عربيا جديدا، الأمر الذي “لن يغير طابع المملكة العربية السعودية فحسب، بل أسلوب تطبيق الإسلام ولهجته في جميع أنحاء العالم أيضا”. لكن، يمكن للأحمق فقط أن يتنبأ بنجاح مثل هذا المسار، خاصة وأن أحمقا بمفرده لن يستطيع ترسيخ رؤيته.
لقد كان خاشقجي واحداً من الأشخاص الذين استطاعوا خلق توازن بين النقد العقلاني والمعارضة الصريحة. وبالرجوع إلى حديث فريدمان، يُعد خاشقجي الوحيد الذي أقدم على إبداء رأيه علنية وأمام الرأي العام السعودي. وأفاد فريدمان أنه “على مدار ثلاثة أيام، لم أتحدث مع مواطن سعودي واحد إلا وعبر عن دعمه التام لحملة مكافحة الفساد هذه”. لكن قد يُفسَرُ هذا الإجماع المذهل بأن أي شخص قد يقدم على انتقاد النظام ولو بشكل غير مباشر، سيزج به في السجن بتهمة الإرهاب والخيانة، على غرار المختص في الاقتصاد عصام الزامل.
لطالما بدت الإصلاحات الاقتصادية المقترحة في المملكة العربية السعودية محض أمنيات، خاصة وأن سياسة التشكيك العميق تمثل النهج الصحيح للتغيير الجذري المدعوم من الحكومة في أي بلد يعتمد على عائدات النفط والموارد الطبيعية الأخرى.
تجدر الإشارة إلى أنه قد يكون من الصعب إيجاد تقارير تقدس النظام السعودي في المستقبل بعد فضيحة خاشقجي، خاصة وأن العديد من الصحفيين الذين اعتادوا دعم البلاد منذ فترة طويلة قد غيروا مواقفهم. وقد نُقل عن أحد هؤلاء الصحفيين، وهو إليوت أبرامز، قوله إن “الحكومة السعودية إما احتفظت بخاشقجي داخل أسوار القنصلية أو اختطفته ورحلته إلى السعودية”. وقد حذر أبرامز من أن سمعة الحكومة السعودية في الوقت الحالي، قد “تضررت بشكل لا يمكن إصلاحه”.
لطالما بدت الإصلاحات الاقتصادية المقترحة في المملكة العربية السعودية محض أمنيات، خاصة وأن سياسة التشكيك العميق تمثل النهج الصحيح للتغيير الجذري المدعوم من الحكومة في أي بلد يعتمد على عائدات النفط والموارد الطبيعية الأخرى. ولكن حملات مكافحة الفساد ببساطة تمثلت في إعادة توزيع الغنائم على عصابة جديدة تجمعهم علاقات وطيدة. اعتاد الكثير من السكان على الحصول على وظائف بأجور جيدة بفضل المحاباة مقابل القيام بمهام محدودة أو حتى من دون أداء أي عمل على الإطلاق. ولا يمكن للصناعة المحلية والزراعة أن تكونا تنافسية ما لم تحصلا على دعم كبير من الحكومة. كما يعتبر هذا النظام مريحا للغاية بالنسبة للكثيرين حتى يقع تغييره: طالما أن مساندة حملة معارضة الفساد والمحسوبية، لن تتطلب منهم تقديم أي تضحية شخصية، فذلك مناسب بالنسبة لهم.
تعتبر المشاكل الاقتصادية السعودية خطيرة، لكنها ليست بالضرورة كارثية. وتُشكل مسألة زعزعة استقرار المملكة العامل الذي دفع السعودية حاليا إلى العمل خارج نطاق قوتها الحقيقية في المنطقة، من أجل الحيلولة دون ذلك. وقد أدت سياسة المملكة الخارجية غير المدروسة على مدار السنوات الثلاث الماضية إلى نتائج عكسية. وتعد قائمة الإخفاقات السعودية مثيرة للدهشة، بما في ذلك الحرب التي تقودها السعودية في اليمن منذ سنة 2015. وقد فشلت هذه العمليات العسكرية في الإطاحة بالحوثيين، لكنها أنتجت أفضع مجاعة على الأرض سببها الإنسان.
في الأثناء، نتج عن المساعدات المتزايدة التي قدمتها السعودية إلى المعارضة السورية المسلحة خلال السنة ذاتها تدخل روسيا عسكريا، الأمر الذي ضاعف من حظوظ الرئيس السوري بشار الأسد في الفوز بهذه المعركة. كما يمكن اعتبار خلاف السعودية مع قطر السبب الرئيسي وراء الوهن الذي أصاب جميع الأنظمة الملكية في الخليج. وفي السياق ذاته، تعتبر المواجهة مع إيران صراعا لا يمكن أن ينتهي لصالح السعودية أبدا. وفقا لما توصل إليه ميخائيل غورباتشوف، بعد الأيام الأولى من محاولته إلحاق تغييرات بالاتحاد السوفياتي، من المرجح أن تقضي الإصلاحات على أنظمة حكم قائمة بدلا من تحسينها.
المصدر: الإندبندنت