ترجمة وتحرير: نون بوست
على مدار أسبوعين، شاهد الفلسطينيون الجرافات العسكرية الإسرائيلية وهي تدمر ميلًا بعد ميل من شوارعهم وأزقتهم، بينما تتسرب مياه الصرف الصحي إلى الحفر التي خلفتها الجرافات.
ويؤكد سكان طولكرم وجنين، وهما المدينتان اللتان كانتا محور الغارات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في الضفة الغربية، إنهم لم يشهدوا من قبل مثل هذا الحجم من الدمار.
وأشار السكان إلى مقطع فيديو يظهر جرافة مدرعة إسرائيلية وهي تسوي دوارًا والنباتات القريبة منه بالأرض.
وتدعم المقاطع المصورة التي حللتها صحيفة نيويورك تايمز روايات السكان حول الأضرار الناجمة عن الغارات الإسرائيلية الأخيرة؛ حيث تظهر مقاطع الفيديو التي تم تصويرها في طولكرم وجنين جرافات تدمر البنية التحتية والمحلات، بالإضافة إلى جنود يعيقون عمليات الاستجابة لحالات الطوارئ.
يقول كمال أبو الرب، محافظ جنين شمال الضفة الغربية: “لقد شاهدنا جرافاتهم تدمر الشوارع وتهدم المحلات التجارية والصيدليات والمدارس، وقاموا أيضًا بتجريف ملعب كرة القدم في البلدة، واقتلاع شجرة في منتصف الطريق”، وأضاف متسائلًأ: “ما الهدف من كل هذا التدمير”؟
وفي أواخر آب/ أغسطس، شن الجيش الإسرائيلي واحدة من أوسع غاراته وأكثرها دموية في الضفة الغربية منذ سنوات؛ حيث صعّد من الغارات الليلية التي أصبحت معتادة منذ هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر التي قادتها حماس.
ووصفت إسرائيل هذه العمليات بأنها جهود لمكافحة الإرهاب تهدف إلى استئصال حماس وغيرها من المسلحين الذين كثفوا هجماتهم ضد الإسرائيليين. وقال الجيش الإسرائيلي إنه عثر على مخزونات من الأسلحة في عملياته الأخيرة في شمال الضفة الغربية، وقتل 23 مسلحًا واعتقل 45 آخرين، بينما قُتل جندي إسرائيلي واحد في جنين.
وفي رده على قائمة من الأسئلة التي طرحتها “نيويورك تايمز”، قال الجيش الإسرائيلي إنه يعمل وفقًا للقانون الدولي و”يتخذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب الإضرار بالبنية التحتية الأساسية”. وأضاف أن المهندسين العسكريين اضطروا إلى القيام بمثل هذه العمليات لإزالة الألغام من الطرق أو تدمير مخازن الأسلحة المخبأة داخل ممتلكات خاصة، ولكنه أقر بأن هذه “العمليات في المنطقة تسببت في أضرار لا يمكن تجنبها لبعض المنشآت المدنية”.
لطالما اعتاد سكان جنين وطولكرم، وهما بلدتان معروفتان بتاريخ طويل من المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، على الغارات الليلية التي تستهدفهم، لكن العديد ممن تحدثوا إلى “نيويورك تايمز” قالوا إن الغارات الأخيرة، التي استمرت تسعة أيام في جنين ولفترة أطول في طولكرم، كانت الأكثر حدة وعنفًا على الإطلاق، مشيرين إلى أن حجم الأضرار التي لحقت بالطرق والبنية التحتية تجاوز أي اعتداءات سابقة.
وقال مسؤولون إنه تم إعلان عدة أحياء “مناطق منكوبة”، لأن العديد من المباني تعرضت للقصف أو التفجير لدرجة أنها هددت استقرار ما حولها من المباني. ووصلت عمليات التوغل التي تركزت في السابق على مخيمات اللاجئين، إلى أجزاء أخرى من المدينة.
كما رصدت المنظمات الحقوقية أيضًا استخدام القوات الإسرائيلية المكثف للغارات الجوية في الضفة الغربية، والتي تقول إنها تنتهك القانون الدولي.
وقال شعوان جبارين، مدير منظمة الحق الحقوقية التي تتخذ من الضفة الغربية مقرًا لها: “إنهم يفرضون واقعا ماديا ونفسيا يجعل الناس يشعرون أنهم سيواجهون نفس مصير غزة. فهناك شعور بين الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية بأن ما هو قادم سيء للغاية – وأنها ستكون خطة لقتلنا وطردنا”.
مداهمة صباحية
بدأت العمليات الأخيرة في وقت مبكر من يوم 28 آب/ أغسطس عندما استيقظ سكان طولكرم وجنين على الجرافات العسكرية الإسرائيلية وهي تقوم بأعمال تجريف في الشوارع.
وأدت أعمال الحفر إلى إتلاف أنابيب المياه والصرف الصحي. فقد أظهرت مقاطع فيديو تدفق المياه إلى أسفل أحد شوارع طولكرم، موطن أحد أكبر مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية، حيث بدا أنه خط مياه مدمر.
وعلى مدى شهور، دمرت الغارات الإسرائيلية الطرق وغيرها من البنى التحتية التي قال المسؤولون المحليون إنهم قاموا بإصلاحها مرارًا وتكرارًا، ليشاهدوا مبانيهم ومرافقهم تُدمر مرة أخرى في الهجوم التالي.
وقدر مهند مطر، مدير العلاقات العامة في بلدية طولكرم، أن أكثر من 90 بالمائة من خطوط المياه والصرف الصحي قد دُمرت في العمليات الأخيرة وحدها.
أما في جنين، فقد تضرر أو دُمّر نحو 70 بالمائة من الطرقات في الغارات الأخيرة، وفقًا لرئيس البلدية، نضال عبيدي. كما تم قطع خطوط الإنترنت والكهرباء والهاتف في بعض المناطق، بالإضافة إلى انقطاع إمدادات الصرف الصحي والمياه، مما ترك نحو 80 بالمائة من سكان جنين دون مياه جارية، بحسب مسؤولين محليين، بما في ذلك المستشفى الرئيسي.
وقال مطر: “المشكلة في محاولة تقدير التكاليف في أن عمليات التدمير لا تتوقف، فهي سلسلة لا تنتهي من المداهمات”.
تدمير المحلات التجارية
قامت الجرافات الإسرائيلية أيضًا بتجريف المحلات التجارية، وأظهرت مقاطع فيديو الجرافات وهي تحفر شوارع في ميدان السينما، قلب المنطقة التجارية في جنين.
وقال الجيش الإسرائيلي إن خطر إخفاء المسلحين للمتفجرات استدعى استخدام “أدوات هندسية عند دخول المناطق التي تعمل فيها المنظمات الإرهابية، من أجل الكشف عن المحاور التي زُرعت فيها العبوات الناسفة، وإزالة الخطر الذي ينشأ عن استخدام المنظمات الإرهابية للمباني المدنية”.
وسلط السكان الضوء على هذه العمليات باعتبارها أمثلة على التدمير غير المبرر. وقد أصر أصحاب المحلات الذين تحدثوا إلى “نيويورك تايمز” على أن هذه المنطقة لا تربطها أي صلات بالمسلحين في المدينة.
رامي كميل، 35 سنة، هو صاحب محل رامي التجاري المطل على الساحة – وهو المبنى الموجود في الزاوية بواجهة حمراء ويظهر في الفيديو أدناه.
يقول كميل إن متجره قد تضرر في 10 غارات إسرائيلية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وقد كلفه ذلك ما يصل إلى 20,000 دولار في كل مرة. وكغيره من أصحاب المتاجر الأخرى، توقف عن استبدال بعض زجاج النوافذ ولافتات المتجر، مضيفًا: “لم تكن هناك طريقة لتغطية تكاليف الإصلاح”.
وأصر كميل على أن هذا النوع من الدمار كان يهدف إلى الإضرار بالمجتمع والحياة اليومية، مضيفًا: “لقد شعرت أننا كنا مستهدفين، وكان ذلك واضحًا جدًا؛ حيث كان هناك جهد مقصود لتدمير المحلات التجارية. إنهم يعتقدون أنهم يلقنون الناس درسًا، فالرسالة التي يوججها الجيش هي أن لا أحد سيخرج من هذا دون أن يُعاقب”.
وقال صاحب متجر المجوهرات، الذي تم تجريفه في الفيديو أدناه إن جميع علب العرض الخاصة به قد تحطمت عندما تم تدمير الواجهة. وقد تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته خوفًاً على سلامته.
وأضاف: “أعتقد أننا فقدنا كل شيء”. وردًا على سؤال عما إذا كان سيعيد فتح المتجر، قال: “لا أعرف ما إذا كنا سنتمكن من ذلك. في الوقت الحالي الله وحده يعلم”.
في مخيم نور شمس للاجئين في طولكرم، كانت عائلة قنوع تبيع أسطوانات الغاز للطهي لمدة ثلاثة عقود من الطابق الأرضي للمبنى الذي كان منزلهم لفترة طويلة في حي المنشية، وهو واحد من عدة مناطق أعلنها مسؤولو البلدية “مناطق كوارث” يجب إخلاؤها.
وقالت العائلة إن النيران اشتعلت في المحل التجاري هذا الشهر، بعد أن قام الجنود الإسرائيليون بتفخيخ وتفجير عبوات في المحل – متجاهلين تحذيرات الجيران بوجود نحو 50 عبوة غاز في الداخل.
وقال أيمن قنوع، الذي كان يدير متجر العائلة: “بين عشية وضحاها، ننتقل ونبحث عن شخص آخر نقيم معه. لقد كنا نعيش في بيت كبير، ولكننا الآن مشتتون”.
مكالمات الطوارئ دون رد
لعل التكلفة الأصعب التي خلقتها المداهمات كانت التأثير على الرعاية الطبية؛ حيث أظهرت العديد من مقاطع الفيديو سيارات الإسعاف وهي عاجزة عن السير على الطرق المدمرة. وقال سائقو سيارات الإسعاف إنهم في بعض الأحيان لم يتمكنوا من إيجاد طرق بديلة عن تلك الطرق المدمرة.
وحتى عندما كانت الطرق سليمة، بدت الجرافات الإسرائيلية، كما أظهرت مقاطع فيديو أخرى، وكأنها تمنع سيارات الإسعاف من المرور.
وقال محمود السعدي، رئيس فرع الهلال الأحمر في جنين، إن نداءات الاستغاثة ازدادت بشكل كبير خلال الغارات الأخيرة، مبينًا أن فرقه فشلت في الاستجابة لنحو 500 إلى 600 مكالمة يوميًا بسبب عدم تمكنها من الوصول إليهم.
وقال المسعفون ومسؤولو البلدية إن الارتفاع المفاجئ في عدد المكالمات لم يكن بسبب بالعمليات القتالية فحسب، بل أيضًا بسبب تطويق الجنود للمستشفيات، مشيرين إلى أنهم كانوا يسمحون بدخول سيارات الإسعاف فقط وليس السيارات المدنية، لذلك كان على المسعفين مرافقة المرضى الذين يحتاجون إلى علاجات منتظمة، مثل غسيل الكلى أو العلاج الإشعاعي.
وأظهر أحد مقاطع الفيديو جنودًا إسرائيليين يفتشون سيارة إسعاف في جنين.
ورد الجيش الإسرائيلي على نيويورك تايمز بقوله إنه “لا ينوي إلحاق الأذى بالطواقم الطبية. ومع ذلك، فقد نفذ الإرهابيون في عدة حالات هجمات إرهابية من خلال استغلال سيارات الإسعاف والمؤسسات الطبية”.
وأضاف الجيش الإسرائيلي أنه “اضطر في بعض الحالات إلى تفتيش سيارات الإسعاف التي تغادر المخيمات والقرى”، لكنه قال إنه حاول تقليل التأخير إلى أدنى حد ممكن.
وقال السعدي إن بعض فرقه اضطرت للانتظار لفترات طويلة من الزمن، مما عرض حياة بعض المرضى للخطر.
ومع صعوبة عمليات الإسعاف، قال العديد من المتطوعين إنهم قاموا بتجميع أدوات الإسعافات الأولية لعلاج الناس في منازلهم. وفي الحالات التي لم تستطع سيارات الإسعاف الوصول إلى الناس، قال بعض مسؤولي الهلال الأحمر، إن الفرق ترشد الناس إلى العلاج عن طريق الهاتف إلى أن يتمكن المسعفون من الوصول.
وقال ليث حسن، 25 سنة، وهو متطوع في الهلال الأحمر في طولكرم: “هذا عقاب جماعي، ولا أعرف ماذا يمكن أن نسميه غير ذلك”.
كثافة الغارات الجوية
منذ انتهاء الانتفاضة الثانية، في أوائل سنة 2000، أصبحت الغارات الجوية الإسرائيلية على الضفة الغربية نادرة للغاية. وبعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ازدادت الغارات الجوية التي شنتها الطائرات المسيرة والطائرات المقاتلة والمروحيات بشكل ملحوظ، مما أسفر عن مقتل 41 فلسطينيًا في شهر آب/ أغسطس وحده، وهو أكثر من أي وقت مضى منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية ومنظمة الحق الحقوقية.
وفي غارته الأخيرة، قال الجيش الإسرائيلي إنه نفذ 50 غارة جوية “على مبانٍ وبنية تحتية ومواقع لتخزين الأسلحة”، مضيفًا أنه شن غارات استهدفت المسلحين.
ويُظهر مقطع فيديو نشره الجيش الإسرائيلي ما يبدو أنهم مسلحون يتم محاصرتهم من قبل مركبة عسكرية إسرائيلية. وعندما أطلقوا النار وحاولوا الفرار، قتلت غارة جوية أحدهم.
وقالت ساري باشي، مديرة برنامج في منظمة هيومن رايتس ووتش، إن مثل هذه الغارات الجوية تنتهك التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي، الذي ينص على أن قوة الاحتلال يجب أن تقوم بعمليات أمنية كقوة شرطية، وليس كجيش.
وقالت: “أحد بواعث قلقنا هو أن القوة المميتة هي في الواقع الملاذ الأول – أي أن الجيش الإسرائيلي يحاول قتل الناس، بدلاً من اعتقالهم، في ظل ظروف يكون من الممكن فيها اعتقالهم”.
وقال الجيش الإسرائيلي إنه التزم بالقانون الدولي، وأن الضربات الجوية “تُنفذ في الحالات التي يُستبعد فيها خيار الاعتقال في ضوء الخطر المباشر على القوات”.
وقد وثق كل من مكتب الأمم المتحدة ومؤسسة الحق مقتل أكثر من 150 فلسطينيًا جراء الغارات الجوية في الضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وقال الفلسطينيون في جنين وطولكرم إنهم يخشون بشكل متزايد من الطائرات المسيرة التي تحلق بشكل شبه دائم في سماء الضفة الغربية. وقال المسعفون وعمال البلدية الذين يقومون بإصلاح الطرقات إنهم تعرضوا لمراقبة الطائرات المسيرة، وأحيانًا تعرضوا لإطلاق النار.
وقال عبيدي، رئيس بلدية جنين: “حتى أنهم أطلقوا النار على سيارتي”.
ويقول بعض الفلسطينيين، مثل صاحب متجر الغاز، إنهم يتجنبون الآن الخروج أو التجمع في مجموعات.
وقال قنوع: “الخوف من غارات الطائرات المسيرة يلازمني 24 ساعة في اليوم، حتى عندما أنام”.
ويحذر بعض السكان من أن كثافة هذه الغارات الأخيرة قد تأتي بنتائج عكسية على جهود إسرائيل لضمان أمنها وتؤدي إلى انضمام المزيد من الأشخاص إلى جماعات مثل حماس.
وتساءل صاحب متجر كميل: “إذا تعمدت تدمير المكان، فماذا تعتقد أن هؤلاء الناس سيفعلون؟ لقد ساعدت إسرائيل على زيادة أعداد المقاومين”.
المصدر: نيويورك تايمز