ترجمة حفصة جودة
لسنوات عديدة كانت جماعات حقوق الإنسان تعتبر أن منع المرأة السعودية من القيادة يعد قمعًا ضد المرأة وكانت دائمًا تدعو لإلغائه، لكن قبل ساعات من إعلان إلغائه لم يعتقد أحد أن الأمر سيصبح ممكنًا.
بالنسبة للجين الهذلول لم يكن الأمر مفاجئًا، فقد أخبرتها الحكومة السعودية بنفسها بشأن الإصلاح القادم قبل إعلانه، لكنها أصدرت تعليماتها لها بأن تمتنع عن إصدار أي تعليق عن الأمر حتى لو كانت إشادة.
كافحت الهذلول للالتزام بالصمت وتذكرت كفاحها في تلك القضية وكيف تعرضت للاعتقال لمدة 73 يومًا قبل عامين بعد محاولتها قيادة السيارة في شوارع السعودية، ورغم التحذير الذي تلقته، ما زال لديها الأمل في أن يتبع الأمر إصلاحات أخرى كثيرة.
لم تكن الهذلول الوحيدة التي تلقت هذا الاتصال، فقد قامت الحكومة باتصالات مشابهة لعدة نساء من نشطاء حقوق الإنسان اثنتين منهن خارج البلاد، وقالت إحداهن: “كان الانطباع الذي وصلنا أنهم لا يرغبون في أن يكون الفضل للنشطاء في هذا التغيير، وأن القرار أصدره الملك وليس فيه أي مكافأة للنشطاء”.
عام 2016 بعد أن أصبح محمد بن سلمان وليًا للعهد انطلقت حملة كبيرة بعنوان “رؤية 2030” من أجل القيام بإصلاحات اجتماعية واقتصادية وطنية شاملة وكذلك التوسع في منح بعض الحقوق للمرأة، لكن في الوقت نفسه استمرت الحكومة في فرض رقابتها على المدنيين المختلفين معها على المستوى السياسي أو الديني واعتقلت العديد من الرموز الدينية وكذلك الصحفيين.
أعضاء منظمة حقوق الإنسان أمام السفارة السعودية في برلين يحملون صور المدون السعودي المسجون رائف بدوي والناشط وليد أبو الخير
كانت الهذلول وغيرها من النشطاء يأملون في أن تؤدي تلك الإصلاحات إلى التقدم في قضايا أخرى مثل السجناء السياسيون وقانون الوصاية (وصاية الذكور على النساء)، وتقول إحدى الناشطات: “لم نكن واثقين بشأن جدية تلك الإصلاحات لكننا فكرنا في أن نعمل داخل النظام ونستخدم كلماته الخاصة للدفع بتلك الإصلاحات”.
كانت هذه الآمال قصيرة المدى، ففي منتصف شهر مايو وقبل أسابيع من انتهاء الحظر وبداية العمل بالقانون الجديد، بدأت الحكومة سلسلة من الاعتقالات، حيث احتجزت لجين الهذلول وإيمان النفجان وعزيزة اليوسف، وتستخدم الحكومة قانون مكافحة الإرهاب لإخراس معارضيها، حيث أعلنت أنهم يتعاونون مع قطر.
هذا القانون يسمح للحكومة باعتقال الناس لعدة أشهر دون محاكمة ومحاكمتهم أمام محاكم خاصة وتوقيع أقصى العقوبات عليهم، ويُستخدم ضد المحافظين والليبراليين على حد سواء.
في نهاية شهر يونيو أشاد العالم بحصول المرأة السعودية على الحق في القيادة، لكن في الوقت نفسه كانت الهذلول ورفيقاتها بمعزل عن العالم الخارجي وبعد بضعة أيام اعتقلت هتون الفاسي بتهم غير معروفة وبعدها بشهر اعتقلت سمر بدوي ونسيمة السدة رغم توقفهما عن ممارسة أي نشاط منذ فترة.
لجين الهذلول
في هذا الوقت التزم الكثير من النشطاء الصمت بينما غادر البلاد عدد من الصحفيين والأكاديميين والنشطاء ورجال الأعمال، حيث يقول أحد النشطاء: “حتى لو لم يكن لك أي نشاط الآن فمجرد أن يكون لك رأي هو أمر خطير”.
تقول هبة زيدان – باحثة في هيومان رايتس ووتش -: “هذه الحملة ليس لها مثيل في شدتها وإجراءاتها الصارمة، فحتى الناس خارج المملكة يخشون التعبير عن آرائهم”، ونتيجة لذلك فبعد عامين من خطة إصلاح المملكة، انتقلت جميع المعارضة خارج البلاد.
تستخدم الحكومة قانون مكافحة الإرهاب لإخراس معارضيها وتوقيع أقصى العقوبات عليهم
لم تقدم المملكة العربية السعودية الكثير في مجال المشاركة المدنية لكنها شهدت بعض التحركات، ففي السبعينيات قام الأكاديميون وبعضهم من النساء بعمل “صالونات ثقافية” في منازلهم الخاصة من أجل النقاش السياسي والفكري، وانطلقت أول مظاهرة ضخمة للمطالبة بحق المرأة في القيادة عام 1990 حيث قادت 47 امرأةً السيارات في شوارع الرياض، ومؤخرًا ظهرت مجموعات صغيرة مثل “الإصلاحيون في جدة” والجمعية السعودية للحقوق المدنية والسياسية واتحاد حقوق الإنسان ومركز العدالة لحقوق الإنسان.
هؤلاء النشطاء دفعوا الثمن غاليًا، فقد تعرضت السيدات اللاتي شاركن في مظاهرة 1990 إلى الاعتقال، بينما تعرض أصحاب الجمعيات إلى المضايقة والاعتقال والعقاب البدني وأعلنت الحكومة أن تلك الجمعيات غير قانونية.
تفتقر السعودية إلى وجود دستور رسمي، فهي تعتمد على الفتوى الدينية إلى جانب القرارات الملكية، هذا الوضع سمح للحكومة بمعاقبة النشطاء والمعارضة كما تحب وحتى وقت قريب لم يكن هناك أي خطوط واضحة بشأن الجريمة والعقاب.
لكن السنوات الأخيرة شهدت تغيرًا حادًا، ففي عام 2008 ضغطت أمريكا على السعودية لمكافحة التطرف؛ فأنشأت السعودية محاكم متخصصة مكلفة بقضايا الإرهاب، لكن النشطاء وجماعات حقوق الإنسان أعربوا عن قلقهم من إساءة استخدام تلك المحاكم وزاد الخوف مع صدور قانون العقوبات الخاص بجرائم الإرهاب وتمويله، وفي عام 2014 كان وليد أبو الخير أول ناشط يتعرض للمحاكمة بتلك القوانين وحُكم عليه بالسجن 15 عامًا والمنع من السفر 15 عامًا أخرى وذلك بعد أن تحدث عن حقوق الإنسان ووقع عريضة تنتقد الحكومة.
وفي عام 2017 تم تجديد القانون وتشمل النسخة الأخيرة عددًا من التهم الغامضة مثل إزعاج النظام العام للدولة وتعريض الوحدة الوطنية للخطر، ويسمح القانون بالاحتجاز لمدة 12 شهرًا دون محاكمة مع إمكانية التجديد لعدد لا نهائي من المرات، وقالت الأمم المتحدة في تقريرها عام 2017 إن قانون مكافحة الإرهاب في السعودية ينتهك المعايير الدولية لحقوق الإنسان.
تفتقر السعودية إلى وجود دستور رسمي، فهي تعتمد على الفتوى الدينية إلى جانب القرارات الملكية
استخدمت الحكومة هذا القانون ضد الهذلول لأول مرة عام 2014 حيث قبضت عليها عند الحدود السعودية الإماراتية في أثناء قيادتها السيارة بصحبة صديقتها مايسة العامودي، وبذلك تعد أول امرأة يتم تهديدها بالملاحقة القضائية في محاكم مكافحة الإرهاب، كما أنها قضت 73 يومًا رهن الاحتجاز، وتقول إحدى الناشطات: “كنا نتوقع أن يكون هناك رد فعل على نشاطنا، لكننا توقعنا أن يكون مجرد استجواب وتحقيق وليس التعرض للسجن”.
نقل العديد من النشطاء نشاطهم إلى الإنترنت واستخدموا كذلك أسماءً مستعارةً، وفي عام 2014 انطلقت حملة لإنهاء وصاية الذكور على النساء وقدمت الناشطة عزيزة اليوسف عريضة تحمل 14 ألف توقيع وسلمتها بنفسها إلى الديوان الملكي، وفي عام 2015 نظمت النساء حملة بعنوان “بلدي” للمطالبة بمشاركة النساء في الانتخابات البلدية وبالفعل تمت الموافقة على الطلب لكن الناشطات ومن بينهن الهذلول مُنعن بشكل صريح من الترشح.
ورغم أن الانتخابات البلدية لم تُحدث تغيرًا كبيرًا، فإننا شهدنا بعض التغييرات الصغيرة، ومع ذلك ازداد شعور النشطاء بالخوف، فالتحدث بلغة الوطنية ومحاولة العمل كحلفاء للحكومة وداخل نطاق الدولة لم يعد آمنًا أيضًا خاصة بعد صعود محمد بن سلمان.
في بعض الحالات تستهدف الحكومة أفراد عائلة الشخص المعارض كما تمنعهم من السفر ومغادرة البلاد، وربما لا يكتشف الأشخاص الأمر إلا وهم في المطار، أما المشاركون في الصالونات الأكاديمية وغيرها فيتعرضون للمراقبة من الحكومة ويتلقون تهديدات هاتفية تحذرهم من الاستمرار في نشاطهم.
دفع الخوف المتزايد العديد من النشطاء لمغادرة البلاد ومن بين هؤلاء جمال خاشقجي الصحفي السعودي، يقول خاشقجي إنه كان هناك اتفاق ضمني بين الحكومة والإعلام يسمح بنشر قصص معينة بموافقة الحكومة لكن بعد ذلك ضغطت الحكومة على الصحفيين لنشر القصص الموالية للحكومة فقط وطلبت من بعضهم توقيع تعهد بالولاء للحكومة، ازدادت الأمور سوءًا وأرسلت الحكومة رسالة مفادها أنه من ليس معنا فهو ضدنا، وعليه غادر خاشقجي إلى الولايات المتحدة وكذلك العامودي بعد خروجها من السجن بفترة قصيرة.
متظاهر يقف أمام صورة الصحفي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول
يبدو أن جهود القمع السعودية تتجاوز حدود المملكة، فقد قال الكثير من النشطاء في أوروبا وأمريكا إنهم تلقوا مكالمات من السفارة في البلاد التي ذهبوا إليها تطلب منهم الحضور إلى السفارة لأسباب غير معلومة، ويقول أحد النشطاء: “لن أذهب أبدًا فأنا أخشى من الترحيل إلى السعودية مرة أخرى” (في عام 2015 اختفى 3 أمراء سعوديين انتقدوا الأسرة الحاكمة خارج البلاد ويُقال أنهم أعُيدوا قسرًا إلى المملكة).
كانت هذه المخاوف بالتأكيد في عقل خاشقجي عندما ذهب يوم 2 من أكتوبر إلى السفارة السعودية في إسطنبول لاستخراج أوراق ضرورية من أجل زواجه من خطيبته التركية، وقالت خطيبته إنه طلب منها استدعاء السلطات التركية إذا لم يعد وبالفعل انتظرت خطيبته أمام السفارة حتى منتصف الليل ولم يخرج منها خاشقجي وما زال مكانه مجهولًا حتى الآن.
قدم ابن سلمان نفسه كمهندس الإصلاحات في المملكة منذ إعلانه رؤية 2030 وعزز من سلطته بشكل سريع وقام بتغييرات في قطاع العمل والاقتصاد والقطاع الديني، وأطلق العديد من القرارات الجريئة مثل السماح للمرأة بقيادة السيارة وحضور الأحداث الرياضية كما افتتح قاعات السينما وقاعات الحفلات الموسيقية، كما شجع الشركات على استخدام عمالة سعودية للحد من العمالة الأجنبية ويسعى لإنشاء مدينة تديرها الروبوتات باسم “نيوم”.
أحد أهم أركان رؤية 2030 هي تحسين صورة السعودية في الخارج التي كانت مرتبطة دائمًا بالتطرف الديني والتمييز الاجتماعي، وقال ابن سلمان في عدة لقاءات بالصحافة الغربية إنه يسعى لتجديد الإسلام في المملكة وإبراز حقيقته المعتدلة، ولتنفيذ تلك الوعود أسكتت الحكومة الأصوات المحافظة والشخصيات الدينية من خلال الاعتقال كما قلصت دور الشرطة الدينية.
على كلٍ فلكي يحقق ابن سلمان رؤيته غير من تقاليد الحكم في المملكة، فقد كان الملك يحكم بمساعدة مستشاريه وبالتوافق مع بقية الأمراء وكذلك رجال الدين، لكن ابن سلمان الآن يمسك بكل مقاليد الحكم ويسيطر على السياسة والدين والاقتصاد والنفط والجيش ووسائل الإعلام.
عزز ابن سلمان سلطته بشكل سريع وقام بتغييرات في قطاع العمل والاقتصاد والقطاع الديني
هذا الوضع سمح لابن سلمان بإجراء إصلاحات جذرية بسرعة خاطفة، لكن هذا النوع من الحكم كما يقول رامي خوري – الزميل بكلية كنيدي هارفرد وأستاذ في الجامعة الأمريكية ببيروت – لا يسمح بأي مجال لخطاب سياسي أو مدني، فابن سلمان لا يرغب في الخضوع لأي مساءلة ويجب أن تُعلن الأمور وفق روايته فقط لذا فهو على خلاف أسلافه يعتقل بشكل استباقي أولئك الذين قد يعارضونه في المستقبل.
هذا التنوع في المعتقلين ما بين محافظين وليبراليين يعد تنوعًا مذهلًا، لكن ما تتعرض له الهذلول ورفيقاتها يعد قاسيًا للغاية، فهن متهمات بالتعاون مع قطر ويطلقون عليهن لقب “خائنة” مما يسمح بإبقائهن في السجن لفترة طويلة دون مساءلة.
هذا الشعور بالضعف يمنع حدوث أي حركة شعبية فقد أصبح الثمن غاليًا، تقول إحدى النشطاء: “هناك شعور عام بأن الحكومة إذا استهدفتك فقد يحدث لك أي شيء، حتى إن المملكة عضو في مجلس حقوق الإنسان فلماذا تتغير الحكومة إذا لم يكن هناك أي ضغوط خارجية”.
لكن هناك من يدافعون عن نهج الحكومة الخانق، حيث يقول أحد المواطنين: “إذا لم نتخلص من رجال الدين المحافظين قبل السماح للمرأة بقيادة السيارة، لتحول تويتر إلى ساحة من الفوضى، هذا النوع من التغيير يجب أن يأتي بقرار من الأعلى، فلو انتظرنا أن يستعد المجتمع لما حدثت تلك التغييرات أبدًا، فمثلاً قبل ذلك كنا نخشى الشرطة الدينية، أما الآن فقد تغيرت الأمور لقد أصبح الأمر مثيرًا”.
شباب سعوديون يجلسون على كورنيش جدة
ولا يمكن إنكار أن بعض السعوديين خاصة النساء يتمتعون بحقوق وامتيازات أكثر من الماضي، كما أن الكثير منهم لا يعلمون شيئًا عن حملة القمع ضد النشطاء، فمعظم الاعتقالات لا يعرفها العامة وإذا عرفوها فإن المعتقلين يوصمون بلفظ خائن وهذا يكفي لينصرف الناس عنهم، لقد أصبح الناس يتمتعون بحياة اجتماعية أفضل، فهم يذهبون للسينما ويجلسون مع الجنس الآخر في نفس المكان، لكن عند الحديث عن السياسة تجد الوضع حساسًا للغاية والجميع يلتزمون الصمت عند طرح موضوعات سياسية.
أما خارج المملكة فيحاول النشطاء والأكاديميون والمدونون وبعض الطلاب الحديث عن القمع السياسي في المجتمع الدولي ليرى المجتمع الغربي ما يحدث لحقوق الإنسان هناك للضغط على محمد بن سلمان.
يرى رامي خوري أن النشطاء لا يملكون فرصًا كثيرة، فيقول إن ابن سلمان مثل ترامب جريء للغاية لكنه قليل الخبرة ويمتلك الكثير من القوة لذا لا يمكن التنبوء بحجم المعارضة التي قد تظهر في المجتمع السعودي وربما لا تظهر أبدًا خاصة إذا توافرت احتياجات الناس الأساسية وتم تحسينها ولم تحدث أي جرائم جماعية.
على كل حال فقد بدأ البعض يتشككون في قدرة ابن سلمان على الوفاء بخطة الإصلاح الاقتصادي، وإذا لم يشعر الناس بالتغيير بعد عدة سنوات على المستوى الاقتصادي فسوف يصبحون أقل استعدادًا لتحمل ابن سلمان، فالإصلاحات الاجتماعية مثل القيادة والحفلات مثيرة لبعض الوقت، لكن الناس لن يعيشوا على الخبز والحفلات فقط، يجب أن يشعر الناس بأن لهم حياة كاملة ولهم صوت مسموع ولهم رأي في حياتهم الخاصة.
إذا استمر ابن سلمان في حملة قمع جميع المعارضين بتلك الطريقة، فربما سيجد نفسه مرفوضًا بين الجماهير الغربية التي يحاول إرضاءها، فملاحقة رجال الدين ربما يكون أمرًا مقبولًا في المجتمع الغربي لكن اعتقال النساء والمسنين والأكاديميين يناقض خطابه عن الانفتاح والمدنية، ولا يمكن لابن سلمان أن يقمع كل من ينتقده، فالعالم لا يعمل بتلك الطريقة، وحتى لو ألقى بجميع النشطاء في السجن، فقد بدأ عملهم وسيستمر ولن يستطيع أحد إيقافه.
المصدر: ذي إنترسبت