بنهاية مهرجان تورونتو الدولي للأفلام منذ أسبوعين، أسدل الستار على دورات المهرجانات الكبرى لهذا العام، وبدأت ترتسم خريطة أفلام هذا الموسم وحتى ترشيحات الأوسكار، فماذا قدمت لنا كبرى التظاهرات السينمائية؟ وما نصيب السينما العربية منها؟
مهرجان سندانس للأفلام: “سوء التربية” و”الفراشات”
يعتبر مهرجان سندانس Sundance Film Festival أهم مهرجان للسينما المستقلة، ولقد تحول منذ زمن قريب إلى بؤرة أفكارٍ تقبل عليها كبرى الشركات الهوليودية التي لم تعد مضطرة للمخاطرة بإنتاج تلك الأعمال المستقلة ذات الطابع التجريبي، ولكنها تظفر بتوزيع الفيلم والمشاركة في جني الأرباح إذا ما رأت بشارةً بنجاحه في سندانس.
يعتمد المهرجان بشكل كبير على رأي الجمهور، إذ يخصص جوائزه مناصفة بين اختيار الجمهور واختيار لجنة التحكيم، ففاز بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم عن صنف الدراما الأمريكية فيلم “سوء تربية كامرون بوست” The miseducation of Cameron Post، بينما اختار المتفرجون فيلمَ برْدنْ Burden الذي يحدثنا عن الأثر الذي أحدثه حب امرأة عزباء في حياة أحد أعضاء منظمة KKK العنصرية المتطرفة، فقد كان هناك إجماعٌ على الأداء القوي لبطل الفيلم غارت هدلونت Garett Hedlunt.
وفي صنف سينما العالم، توج الفيلم التركي “فراشات” Kelebekler بجائزة لجنة التحكيم الكبرى، ويحمل الفيلم طابعًا كوميديًا خاصًا، ويروي قصة إخوة ثلاث يلتقون لأول مرة لدفن أبيهم المشترك، وفتح الحدث بابًا للتعرف على أنفسهم من جديد.
أما المتفرجون فقد آثروا تتويج الفيلم الدانمركي الذي سبق أن قدمته هذه الصائفة، بعنوان المذنب Den skyldig وهو أحد أجود أعمال هذه السنة لقيامه على كتابة ذكية عوضت الحاجة إلى ميزانية ضخمة.
في شهر فبراير/شباط من هذا العام، جرت الدورة الـ68 من مهرجان برلين السينمائي المعروف باسم برليناله Berlinale، وظهر إجماع بأن الفيلم الروماني “لا تلمسني” Touch me not يستحق حصوله على الدب الذهبي وهي الجائزة الأهم للمهرجان
في فيلم المذنب، يحدث كل شيء خارج إطار اللقطة، في الجهة الأخرى من سلسلة المكالمات الهاتفية التي كان بطل الفيلم يجريها من موقعه في قسم شرطة النجدة، وذلك لفهم حقيقة اختطاف امرأة من قبل زوجها، ومحاولة إنقاذها، عملٌ ذو طابعٍ تجريبيٍ محكم يعكس بشكل كبيرٍ دور مهرجانات السينما المستقلة مثل سندانس.
الدورة الـ68 من البرليناله: “رحلة البحث عن الذات”
في شهر فبراير/ شباط من هذا العام، جرت الدورة الـ68 من مهرجان برلين السينمائي المعروف باسم برليناله Berlinale، وظهر إجماع بأن الفيلم الروماني “لا تلمسني” Touch me not يستحق حصوله على الدب الذهبي وهي الجائزة الأهم للمهرجان، والفيلم رحلة درامية غير تقليدية في خفايا علاقة الإنسان بجسده وبجسد الآخر، وذلك عبر شخصيات أجادت المخرجة الرومانية أدينا بنتيلي Adina Pintilie إدارتها.
ولم يخرج الدب الفضي (جائزة لجنة التحكيم) عن أوروبا الشرقية ولا عن مبحث الذات والجسد، ففاز بها الفيلم البولسكي وجه Twarz الذي يحكي قصة رجل تعرض لعملية زراعة وجه، ثم نهض ليواجه مشاكل الهوية العديدة التي نبتت أمامه.
كما احتفى المهرجان بالظهور الجديد للمخرج الأمريكي وس أندرسون Wes Anderson فمنحه الدب الفضي لأفضل مخرج عن إنجازه لفيلم جزيرة الكلاب Isle of Dogs.
وجزيرة الكلاب عملٌ تمادى خلاله أندرسن في صنعته الفنية حتى التطرف. وإذا كانت الصورة في فيلمه السابق فندق بودابست الكبيرThe Budapest Hotel كرتونية الطابع، فإنها في جزيرة الكلاب كرتونية بالفعل، وللدقة فهو فيلم كرتون بإيقاف الحركةStop motion animated film، ورغم أن التقنية مستعملة بكثرة في هوليود خصوصًا منذ النجاح الكبير الذي حققه فيلم هروب الدجاج Checken Run سنة 2000، فإن جزيرة الكلاب مختلف فنيًا اختلافًا مدهشًا.
ويصف الفيلم عالمًا ديستوبيًا عبر مدينة يابانية منعت الكلاب وعزلتهم في جزيرةٍ/منفى تستعمل مكبًا للنفايات، ويتتبع فيه رحلةَ الطفل أتاري كوباياشي إلى الجزيرة للعثور على كلبه المرحل تْشيفْ Chief، وهناك يلتقي بعصابة الكلب بوص Boss ويطلب منهم المساعدة.
بين قنوات البندقية المائية أعلن المخرج المكسيكي الفائز مؤخرًا بأوسكار أفضل فيلم، غييرمو ديل تورو Guillermo Del Toro، ورئيس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية عن صاحب الأسد الذهبي، وقد كان مكسيكيًا مثله، قادمًا بفيلمٍ يحمل اسم مدينةٍ إيطالية أخرى
وإضافة للأداء الصوتي الباهر لبعض نجوم الفيلم وأبرزهم بيل مورايBill Muray، فإن للموسيقى دورًا جوهريًا في إدخال المشاهد إلى جو هذا الفيلم الاستثنائي، ولا يطرح العمل إشكاليات مثيرة للقلق، ولكنه لا يخلو من إحالات غير مباشرة لواقع عالمي يتزايد فيه العداء للآخر، ولكل ما هو خارجيٌ عن الأرض والثقافة السائدة والأصول، كيف لا وأحداث الفيلم تدور في اليابان أحد أشد الشعوب عداءً للأجنبي.
مهرجان كان Festival de Cannes: “الأمريكي الأسود ضحيةً”
كنت قد كتبت مقالاً عن دورة هذا العام من المهرجان السينمائي الأهم في العالم، وهنا أكتفي بالتطرق إلى أبرز التتويجات فيها، فقد شكل حصول الفيلم الياباني مسألة عائلية أو للدقة عائلة نشل المتاجرShoplifting Family على السعفة الذهبية مفاجأة في سهرة الختام، لا يتعلق الأمر بجودة الفيلم وإنما لأنه لم يشغل الناس طيلة أيام المهرجان كما فعلت أفلامٌ أخرى.
يأتي أحد هذه الأفلام من إيطاليا ويحمل اسم رجل الكلاب أو الرجل الكلب Dogman، وهو فيلم استثنائيٌ يكاد يكون محفوظيًا (من عالم نجيب محفوظ) لولا سياقه الإيطالي، إذ تقع أحداثه في ماليانا Magliana إحدى ضواحي روما، حيث يمكن لسيمونتشينو Simoncino الملاكم القديم أن يطغى على الناس في الحي ويعمل ما يحلو له دون أن يردعه رادع، وكانت صداقته مع بطل الفيلم الضعيف مارتشلو Marcello، تأخذ شكل العبد وسيده، بل ربما شكل الكلب بصاحبه، وهي ليست استعارة مجانية إذا ما علمنا أن مارتشلو نفسه صاحب محلٍ للعناية بالكلاب.
لقد عمل المخرج الإيطالي ماتيو غاروني Matteo Garrone بشكل ذكيٍ على هذه الاستعارة ليتطور بشخصية البطل، إذ كان على مارتشلو أن يتجاوز حقيقته الوضيعة ككلبٍ يخلص لسيده حتى النكران والمهانة، إلى مروضٍ حقيقيٍ لأشرس الكلاب، ولقد توج الممثل الإيطالي مارتشلو فونتي Marcello Fonte مؤدي دور مارتشلو بسعفة الممثل الأفضل.
كما توجَ فيلم المخرج الأمريكي سبايك لي Spike Lee بالجائزة الكبرى وهي ثاني أكبر جوائز المهرجان، وذلك عن فيلم بلاكككلنزمن BlacKkKlansman وهي تخريجة غريبة بمعنى “رجل أخوية الكو كلوكس الأسود”، والأمر لا يحتاج إلى توضيح أكبر لنفهم طبيعة هذا الفيلم، إنه المخرج الملتزم الأسود سبايك لي، وإنه فيلمٌ آخر عن العنصرية التي عادت تجتاح الولايات المتحدة منذ دخول ترامب إلى البيت الأبيض.
طريفة هي فكرة الفيلم والأكثر طرافة استنادها إلى قصة حقيقية، عن ضابط الشرطة الأسود الذي اخترق المنظمة الأكثر عداءً للسود في أمريكا، وبين المأساوي والهزلي يربط سبايك لي مشهده السينمائي بالمشهد السياسي الحاليّ، ويستعيد في زعيم الأخوية الفاشية دايفد ديوك، زعيم البيت الأبيض دونالد ترامب، بل إنه يفرط في إنذاره فلا يكتمل اختراق المنظمة إلا بمساعدة صديق البطل اليهودي، إنه أيضًا ضحيةٌ للفاشية، ولأننا نعرف حجم المأساة اليهودية، فالمخرج لا يستبعد أي شيءٍ مع ترامب، باستثناء ما قدمه الرجل البرتقالي للإسرائيليين من هدايا، ما يجعلنا نتساءل عن قيمة هذه الاستعارة.
شهد مهرجان البندقية العروض الأولى لأهم الأعمال السينمائية الأمريكية المرتقبة لهذا الموسم
ولا يمكن الحديث عن هذه الدورة دون الحديث عن النجاح الكبير لفيلم اللبنانية نادين لبكي “كفر ناحوم”، إذ نال جائزة لجنة التحكيم، وحظي بتصفيق حار من الجماهير، وفي حين بدأت ردود الفعل تأتينا من لبنان، فإن عليكم الانتظار أيامًا أخر لتقرأوا مقالاً مفصلاً على نون بوست.
الدورة الـ75 لمهرجان البندقية: بين روما ومكسيكو
بين قنوات البندقية المائية أعلن المخرج المكسيكي الفائز مؤخرًا بأوسكار أفضل فيلم، غييرمو ديل تورو Guillermo Del Toro، ورئيس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية عن صاحب الأسد الذهبي، وقد كان مكسيكيًا مثله، قادمًا بفيلمٍ يحمل اسم مدينةٍ إيطالية أخرى، إنه ألفونسو كوارون صاحب رائعتيْ “أبناء البشر” Children of Men وجاذبية Gravity.
وفي “روما” يبتعد كوارون كثيرًا عن عالم الخيال العلمي، وعن إيطاليا التي قد يوحي بها اسم العمل، فيعود إلى مدينة مكسيكو التي يعرفها، مكسيكو السبعينيات، ويصور طبقتها الوسطى بأسلوب سنكتشفه قريبًا، ونرى ما أقنع فيه لجنة التحكيم.
لقد شهد المهرجان أيضًا العروضَ الأولى لأهم الأعمال السينمائية الأمريكية المرتقبة لهذا الموسم، فعرض برادلي كوبر Bradely Cooper خارج المسابقة الرسمية، رؤيته السينمائية للفيلم الأيقونة “ولادة نجمٍ” A star is born، كما قدم داميان شازال Damien Chazelle (صاحب لالالاند) عمله الجديد “الرجل الأول” First Man عن رائد الفضاء نيل أرمسترونغ.
وكذلك الأمر بالنسبة للأخويْن كوهين، اللذيْن تحصلا على جائزة السيناريو عن فيلم ملحمة بسْترْ سْكْرَغْز The ballad of Buster Scruggs وكان لليوناني يورغوس لنتيموس Yorgos Lanthimos نصيبٌ من الجوائز، فحاز فيلمه المفضل The favourite جائزة لجنة التحكيم، وبطلته أوليفيا كولمان على جائزة أفضل ممثلة.
يتميز مهرجان تورونتو الكندي باعتماده الكبير على تقييم المتفرجين في منح جوائزه، لذلك فأهم جوائزه هي جائزة اختيار الجمهور
ولحسن الحظ أن الفرنسي جاك أودياغ Jacques Audiard أكثر لطفًا من هؤلاء وعرض فيلمه المشارك في البندقية في قاعات السينما منذ نهاية الشهر الماضي.
الأخوان سستر The Sisters brothers، فيلم ويسترن Western من الطراز القديم، حافل بالمغامرة، وبالأوغاد، وبالبلدات التي يموت فيها الناس ليعيشَ صانعو النعوش، وفي هذا الجو المألوف يحاول أودياغ بناءَ شخصيتين فريدتين، معتمدًا على العبقرية المسرحية للثنائي جواكين فينكس Joaquin Phoenix وجون ريلي John C. Reilly، الأخوان سستر، عودةٌ إلى لحظات التأسيس الأولى، وإلى أيام حمى الذهب Gold Rush، ربما بشكل يسمح بتفكيك القيم المؤسسة للقوة الأكبر والأهم في عالم اليوم.
مهرجان تورونتو للأفلام: العنصرية مرةً أخرى
يتميز مهرجان تورونتو الكندي باعتماده الكبير على تقييم المتفرجين في منح جوائزه، لذلك فأهم جوائزه هي جائزة اختيار الجمهور وقد فاز بها الفيلم الأمريكي “الكتاب الأخضر”، والاسم إشارةٌ إلى كتابٍ كان متداولاً بين الأمريكيين السود في الستينيات، يحمل جردًا للطرقات الآمنة لسفرهم، والفنادق والحانات التي تقبل خدمتهمـ ولكم أن تحزروا طابع الفيلم.
يمكن أن نلحظ من خلال الأفلام المعروضة في المهرجانات الكبرى أن الموسم الحاليّ في الولايات المتحدة لا يعد بالكثير، ويكفي القول إن الفيلم الأكثر ارتقابًا “ولادة نجمٍ” هو إعادةٌ رابعةٌ لفيلمٍ من سنة 1937، لكن السينما العالمية تعد بالكثير من التجريبية والخلق والإبداع، ولا يسعنا إلا الصبر وانتظار نصيبنا من الفرح القصير.