على مدى الأيام القليلة الماضية، وفي ظل تصاعد التوتر والتصعيد العسكري الإسرائيلي في جنوب لبنان، شهدت الحدود السورية اللبنانية موجة نزوح غير مسبوقة من لبنان باتجاه سوريا.
هذه التحركات المكثفة كانت عبر معابر ريف دمشق وطرطوس وحمص، وتضمّنت موجة النزوح الآلاف من المواطنين، بينهم لبنانيون فارّون من الوضع المتدهور، وسوريون عائدون بعد سنوات من اللجوء أو الإقامة في لبنان.
أرقام وإحصائيات
حتى الآن، لا توجد أرقام دقيقة يمكن الاعتماد عليها حول عدد الأشخاص الذين دخلوا إلى سوريا، ورغم وجود إحصائيات رسمية تتعلق بأعداد المارّين عبر المعابر النظامية، إلا أنها لا تشمل العدد الكامل للنازحين، حيث يُعتقد أن المئات دخلوا عبر المعابر غير النظامية.
مكتب الإحصاء المركزي بيّن لـ”نون بوست” أن الحركة الحدودية لم تقتصر على الرعايا اللبنانيين، بل شهدت موجة عودة سورية كبيرة لنازحين كانوا مقيمين في لبنان أصلًا.
وطابق “نون بوست” معلومات مكتب الإحصاء مع مكاتب خُصّصت لاستقبال النازحين في المعابر الثلاثة، وكشفت الأرقام، حتى السبت 29 سبتمبر/ أيلول، أن 70 ألف شخص سوري و35 ألف لبناني دخلوا من معابر دمشق وريفها، و14 ألف سوري و12 ألف لبناني من معابر حمص، وأما طرطوس فحظيت بنسبة دخول أقل فلم يتخطوا 4 آلاف شخص بين سوري ولبناني.
هذه الإحصائيات لا يمكن اعتبارها نهائية، بسبب دخول الآلاف من السوريين واللبنانيين عبر المعابر غير النظامية التي انتشرت خلال سنوات الحرب الماضية، ما يجعل من الصعب تبيان تعدادهم بشكل دقيق في ظل ذوبان النسيج المناطقي هناك، تحديدًا في ظل وجود قرى حدودية يسكنها أساسًا سوريون ولبنانيون.
وإلى جانب معابر الزبداني بريف دمشق وطرطوس، تعتبر معابر حمص أبرزها وأكثرها كثافة، بسبب اتّساع الامتداد الجغرافي والبنيوي على طول الشريط الحدود من وادي خالد في شمال شرق لبنان إلى الهرمل في شرقه، وما يقابلهما من الجانب السوري ابتداءً بتل كلخ وصولًا إلى القصير.
وتتواجد على هذا الشريط عشرات القرى التي تتحالف عسكريًا أو سياسيًا أو عقائديًا أو عشائريًا مع قرى الجنوب والبقاع اللبناني، وشهدت خلال السنوات الماضية حروبًا واشتباكات بين عدة جهات.
بين تل كلخ والقصير تحديدًا تتواجد 23 قرية سورية-لبنانية متداخلة الحدود و13 مزرعة، أبرزها قريتا زيتا وربلة اللتين تبعدان أمتارًا قليلة عن الحدود اللبنانية و95% من سكانها لبنانيون.
وإلى الجنوب من القصير نحو القلمون تتواجد بلدة عسال الورد التي تمتد على مساحةٍ تعادل 50 كيلومترًا، وتنقسم إلى جزء لبناني وآخر سوري، ويقطن الجزء السوري نحو 1300 مواطن بينهم 800 لبناني.
وكان ملف القرى المتداخلة بين الحدود من الملفات الشائكة التي جرى تداولها بين البلدين قبل عام 2010، عندما كان يجري تفاوض على ترسيم الحدود.
يونس كركي نازح قَدِمَ وأسرته من منطقة الهرمل البقاعية شرق لبنان إلى قرية ربلة السورية، وهي إحدى قرى القصير، يؤكد لـ”نون بوست” عبوره للحدود بشكل غير نظامي لعدة أسباب، منها: “اعتدنا خلال سنوات الحرب الدخول والخروج من هذه المعابر، ولأني لا أعرف أين ستسير الأمور، وكم سنبقى، فلا أريد أن يتم تسجيلنا كلاجئين في لحظة ما، وخصوصًا أننا عند أولاد عمومتنا بكامل كرامتنا وكامل حسن ضيافتهم”.
من جانبه أكد الشاب علي، الذي استضاف أقاربه من لبنان في منزله، أنّ ذلك واجبًا عليه لأنه “حين استعرت الحرب في ريف القصير، نزح مع عائلته إلى أقاربه في لبنان”.
ويضيف علي لـ”نون بوست”: “ما بيننا وبين من نستقبلهم أكبر بكثير من التوصيفات، فهذا الدم الواحد يجمعنا بعد أن سال منه الكثير، وهم الآن في بيتهم، ضيوفٌ أعزاء لا نازحون ولا لاجئون كما عومل أهلنا في المخيمات القريبة”.
وتُعد ّمدينة القصير معقلًا رئيسيًا لتواجد “حزب الله” منذ عام 2012، بعد تدخله في الحرب السورية لدعم النظام، حيث تمّ تهجير غالبية سكان المدينة، لتصبح المدينة قاعدة عمليات استراتيجية للحزب في سوريا، يستخدمها كنقطة انطلاق لتعزيز وجوده في مناطق أخرى داخل سوريا، خاصة تلك القريبة من الحدود اللبنانية.
فرصةٌ للاستغلال
أما النازحون الذين دخلوا عبر المعابر الرسمية توجّه أغلبهم إلى منطقة السيدة زينب، التي تعتبر أحد المعاقل الرئيسية للتواجد الإيراني في سوريا، ومركزًا لنفوذ طهران وقواتها الحليفة.
ولاقى النازحون اللبنانيون استقبالًا لائقًا في السيدة زينب، وفي قرى حمص، أما اللبنانيون الذين لا يمتلكون ارتباطات عشائرية وعائلة صعب النزوح عليهم بسبب استغلالهم من بعض السوريين، الذين وجدوا من النزوح فرصة لتحصيل مكاسب.
بدا ذلك جليًّا في حمص التي لا يتواجد فيها سوى 5 فنادق، اثنان منها مصنفان 4 نجوم والبقية أقل، ورغم تحديد وزارة السياحة أجور الليلة الواحدة لغير السوري أيًّا تكن جنسيته، لكن الوافدين فوجئوا بأسعار جديدة.
وقال مصدرٌ في وزارة السياحة في حكومة الأسد لـ”نون بوست” إنّ أجرة الليلة الواحد لا يجب أن تتخطى بين 50 و100 دولار، تبعًا لأهمية الخدمات المقدمة، لكن ما حصل أنّ هذه الفنادق تقاضت 200 دولار لقاء الليلة الواحدة، بصورة استغلالية مبالغ فيها.
الاستغلال دفع وزير السياحة محمد مارتيني إلى التوعُّد بمحاسبة أصحاب الفنادق لكن في الوقت المناسب، مشيرًا إلى أن العقوبة قد تصل إلى إغلاقها لكن ليس الآن، كونها تشكّل مراكز إيواء متسعة وضرورية، حسب كلامه.
زينب قاسم التي تعمل في منظمة غير حكومية في لبنان، ونزحت رفقة أسرتها من البقاع نحو حمص، استهجنت ما أسمته “استغلال الحاجة”، مبيّنةً أنها كانت تتردد إلى سوريا بحكم عملها، ولم تكن تدفع ثلث هذا الرقم أو ربعه حتى للإقامة في فندق.
وتقول قاسم لـ”نون بوست”: “أدرك أن هذه فرصة تاريخية للقطاع الخاص، لكن ليس على حسابنا، نحن أتينا نحتمي هنا، أدرك أن السوريين لم يُعاملوا بأفضل شكل في بلدنا، لكن الوضع مختلف تمامًا هنا، فالدولة السوريّة تريد تذليل العقبات، لذلك عليها أن تتصرف سريعًا”.
لم يقتصر الأمر على إيجارات الفنادق، فمع تزايُد أعداد النازحين قفزت أسعار إيجار الشقق بشكل كبير، لتصل في بعض الأحيان إلى 1000 دولار، بعدما كان يبلغ سعر الآجار سابقًا نحو 250 دولارًا.
كما بدأ أصحاب المكاتب العقارية بتفضيل تأجير اللبنانيين على السوريين، وتواصل “نون بوست” مع أكثر من مكتب عقاري بهدف السؤال عن استئجار منزل، إلا أن إجابة الغالبية كانت “الأفضلية الآن للإخوة اللبنانيين”.
تحرُّك يثير تساؤلات
منذ اللحظات الأولى لبدء توافد النازحين اللبنانيين، بدأت الوزارات في حكومة الأسد بالعمل على استيعاب هذه الأعداد، حيث وجّهت وزارة الصحة لكل المستشفيات برفع الجاهزية والاستعداد لتقديم المعونة والاستطباب والعلاج للنازحين، على أن تكون مجانيةً مع توافر سيارات إسعاف على المنافذ الحدودية وعلى مدار الساعة.
كما تمّ تجهيز 14 مركز إيواء في حمص وأخرى في دمشق وريفها وطرطوس، مجهّزة جميعها بالخدمات الكاملة من ماء وكهرباء وأسرّة وأغطية ومستلزمات مطبخية وخلافه، إضافة إلى بيع خطوط هاتفية بشكل مباشر إلى القادمين عن طريق الهوية اللبنانية أو جواز السفر مع منحهم باقات إنترنت مجانية.
هذه الاستجابة السريعة من حكومة الأسد لتقديم خدمات شاملة للنازحين اللبنانيين أثارت تساؤلات مشروعة لدى المواطنين السوريين، حول قدرة الحكومة على تقديم هذه الخدمات للنازحين بينما لم تستخدم لصالح المواطن السوري سابقًا.
خلال السنوات الماضية، كان الأسد يربط عودة اللاجئين بضرورة توفُّر بنى تحتية ملائمة وإعادة الإعمار، وأكد خلال لقاءاته مع مسؤولين أمميين على أن البلاد غير مستعدّة لاستقبالهم في ظل الظروف الحالية، ومع ذلك جاء قرار فتح الحدود أمام النازحين اللبنانيين والسوريين العائدين بشكل مفاجئ، ما أثار تساؤلات حول الدوافع وراء هذه الخطوة.
يرى البعض أن الأسد يسعى من خلال هذه الخطوة إلى ممارسة ضغوط على منظمات الأمم المتحدة العاملة في سوريا، مستغلًّا استقبال أعداد كبيرة من النازحين للضغط من أجل جلب التمويل والمساعدات اللازمة لإعادة الإعمار وتحسين البنية التحتية.
كما أثارت الاستجابة السريعة للحكومة تساؤلات حول مصير السوريين العائدين من لبنان، والذين بلغ عددهم حوالي 80 ألف شخص، حيث تساءل الشارع السوري بمرارة، ليس رفضًا لاستقبال اللبنانيين، بل يأتي في إطار “ماذا عنّا؟”.
ولم يطلق النظام صفة النازحين أو اللاجئين على اللبنانيين إنما أطلق عليهم “الأشقاء الوافدون”، وهو ما يصفه الاقتصادي سالم المصري بالتكتيك المدروس، الذي يقول لـ”نون بوست” إن “اعتبار الوافدين لاجئين سيرتّب أعباءً على سوريا بغنى عنها، ولن تعود عليها بفائدة منطقية في بلد يتسع بالكاد لمن بقيَ فيه، بيدَ أنّ هؤلاء الوافدين من شأنهم أن يرفدوا الخزينة ولو مرحليًا بالقطع الأجنبي القادمين به، بمعزل عن قيمته الكاملة إن عوملوا كزوّار فقط”.
ويضيف: “سينعكس ذلك على الأسواق عامةً والحركة الاقتصادية الصغرى، كما يمكن الاستفادة من ترسيم دخول آلاف السيارات اللبنانية الذي سيكون مستمرًّا، لكنّ الذي سيدفع الثمن باهظًا هو السوري الذي بدأ يلمس ارتفاع أسعار كل شيء ولحدود الضعف أحيانًا، حتى لو كان الحديث عن الخضار فقط”.