“مزاعم قادة أمريكا ودول أوروبية بأنهم اقترحوا وقف إطلاق النار مقابل عدم رد إيران على اغتيال إسماعيل هنية كاذبة تمامًا”.. تصريح للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خلال مقابلة له مع شبكة “CNN” الأمريكية، أثار حالة من الجدل وتساؤلات حول إمكانية عقد صفقة مع الغرب.
وكشف هذا التصريح الصادر تعليقًا على اغتيال أمين عام “حزب الله”، حسن نصر الله، على أيدي جيش الاحتلال 27 سبتمبر/أيلول 2024، ولأول مرة، عن مقترح أمريكي أوروبي بشأن صفقة مع طهران تقضي بعدم الرد على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، الأربعاء 31 يوليو/تموز 2024، مقابل وقف لإطلاق النار في غزة وعلى الجبهة الشمالية مع لبنان.
ربما يفسر هذا التصريح الكثير من التساؤلات التي أُثيرت منذ اغتيال هنية حول تأخر الرد الإيراني على العملية، التي شكلت ضربة كبيرة للسيادة والهيبة الإيرانية ووضعت سمعتها الدولية على المحك، رغم سيل التهديدات الذي لم يتوقف بشأن ضرورة الرد ومستواه وتوقيته.
وكانت طهران تلقت ضربات موجعة على أيدي الكيان المحتل منذ بداية الحرب في غزة، سواء داخل أراضيها أم لدى أذرعها الإقليمية في لبنان وسوريا والعراق واليمن، فقدت خلالها قامات من رموزها القيادية، ومع ذلك لم تحرك ساكنًا، مكتفية بتصريحات دون ترجمة على أرض الواقع، وسط قراءات متباينة لتفسير هذا التناقض، ليأتي هذا التصريح ويكشف النقاب نسبيًا – بشكل غير متعمد – عن العقلية الإيرانية وعقيدتها في التعاطي مع مثل تلك التحديات.
هنية.. هل كان ضحية الصفقة؟
يُفهم من هذا التصريح، للوهلة الأولى أن عدم الرد على مقتل هنية لم يكن ناتجًا عن استراتيجية تأمل ودراسة لأفضل وسائل الرد وتوقيت التنفيذ، كما تروج طهران وقادتها. بل يبدو أن السبب الحقيقي قد يكمن في صفقة أو اتفاق أو تفاهم، رسمي أو غير رسمي، مباشر أو عبر وسطاء، قدمته الولايات المتحدة للإيرانيين بهدف تهدئة التوتر ووقف التصعيد على جميع الجبهات، سواء في غزة أو لبنان.
وعقب اغتيال هنية وجدت طهران نفسها في مأزق سياسي وأخلاقي للرد على اغتيال الضيف الذي منحته السلطات الإيرانية الأمن والأمان للمشاركة في تنصيب الرئيس الجديد، قبل أن يتعرض لعملية استهداف ممنهجة في قلب العاصمة، ما يمثل انتهاكًا فاضحًا للسيادة الوطنية والأمن القومي الإيرانيين، لتبدأ التصريحات الإيرانية على لسان المسؤولين الإيرانيين بالرد على نفس الدرجة.
وقبل هنية قتل العديد من الجنرالات الإيرانيين على أيدي الإسرائيليين خلال الأشهر الماضية، في مقدمتهم قائد الحرس الثوري في سوريا ولبنان محمد رضا زاهدي، ونائبه محمد هادي حاجي رحيمي، خلال قصف القنصلية الإيرانية بدمشق في الأول من أبريل/نيسان الماضي، تبعتها ضربات أخرى أكثر إيلامًا لأذرعها في المنطقة، أبرزها تلك التي تعرض لها “حزب الله” الذي خسر معظم قيادات الصف الأول، يتقدمهم أمين عام الحزب حسن نصر الله، ومن قبله فؤاد شكر وإبراهيم عقيل، وعدد كبير من قيادات الصف الثاني، وضربت بنيته الهيكلية بشكل شبه كامل.
بات من الواضح أن الترقب لرد إيراني على اغتيال هنية، ومن سبقوه أو لحقوا به في قائمة الاغتيالات الطويلة، أصبح مجرد خيال، إذ يبدو أن هؤلاء الضحايا كانوا جزءًا من صفقة أكبر بين طهران وواشنطن، يحفظ بها نظام الملالي أركانه ونفوذه ويتجنب بدمائهم غضب سيد البيت الأبيض.
وعقب اغتيال هنية خرجت بعض الأصوات تُلمح بشكل أو بآخر إلى تورط إيراني ملحوظ في تلك الجريمة، وغيرها من جرائم الاغتيال التي زادت وتيرتها بشكل مريب مؤخرًا، إما عن طريق التواطؤ لتحقيق مكاسب ما، سياسية أو اقتصادية، وإما عن طريق التقصير الأمني، المتعمد أو غير المتعمد، ورغم استبعاد كثير من المراقبين لتلك السردية فإن تصريحات الرئيس الإيراني الأخيرة قد تعيدها للأجواء مرة أخرى وتطرحها مجددًا على طاولة النقاش.
إيران وأمريكا.. تنسيق لم يتوقف
تبنى النظام الإيراني منذ نجاح الثورة الإسلامية عام 1979 خطابًا شعبويًا بامتياز، نجح من خلاله في أسر قلوب وعقول أنصاره في الداخل، وكسب إعجاب وولاء مريديه في الخارج من أبناء الطائفة المذهبية الشيعية، مستغلًا العاطفة الجياشة لديهم وكراهيتهم الإيديولوجية للاستعمار الغربي والاحتلال الإسرائيلي ومن خلفهما الولايات المتحدة.
وباتت الهتافات على شاكلة “الموت لأمريكا، أمريكا الشيطان الأكبر، سنمحوا إسرائيل من على الخريطة..” والصادرة عن قيادات وجنرالات ذات حيثية كبيرة في المطبخ السياسي الإيراني وفي الحرس الثوري، تمثل وقودًا لإشعال حماس الأنصار الذين استقر في يقينهم أن طهران الخصم الأكبر والأشرس لواشنطن، وأنها تعمل على مدار الساعة، ليلًا ونهارًا، طيلة أيام العام، وعلى مدار عقود طويلة، لمحو “إسرائيل” من خريطة العالم وتقزيم أمريكا والإعلاء من شأن المقاومة والتصدي للمشروع الاستعماري الامبريالي الغربي في الشرق الأوسط.
لكن وعلى الجانب المعاكس، هناك وجه آخر ربما غير مُدرك ولا مرئي من جانب المنقادين بأفئدتهم وعقولهم خلف تلك الشعارات النارية، هذا الوجه الذي يرسخ لتنسيق وتعاون على كل المستويات بين إيران وأمريكا، تعاون تجاوز في كثير من مراحله تعاون الحلفاء أبناء القومية الواحدة.
وتعود العلاقة بين إيران والمعسكر الغربي بصفة عامة إلى ما قبل الثورة الإسلامية، وحتى ما قبل نشأة الولايات المتحدة، إذ ترجع إلى التحالف الأول مع الصليبيين أيام الحروب الصليبية (1095-1291) ثم التحالف مع الدول الأوروبية (بريطانيا وفرنسا والنمسا والمجر) في عهد الدولة الصفوية (1499-1736) في صراعهم من الدولة العثمانية، وصولًا إلى الدعم المطلق المقدم لبريطانيا إبان الدولة البهلوية (1925-1979) ما أدى في النهاية إلى إسقاط الخلافة العثمانية.
وكان للغرب دور كبير في اختيار نظام الحكم في إيران، وفق معايير محددة تضع في الاعتبار مصالح الدول الغربية وعلى رأسها بريطانيا وأمريكا، ومن يتجاوزها أو يفشل في الالتزام بها يُطاح به، كما هو الحال مع الشاه محمد رضا بهلوي، الذي كان يتمتع بعلاقات قوية بالمخابرات البريطانية، وحين رأت لندن وواشنطن أنه لم يعد أمينًا على مصالحهم في إيران والمنطقة أطاحوا به، ودعموا المعارضة الملالية وقتها للقضاء على نظام حكمه وتدشين مرحلة جديدة من الحكم الإسلامي بما يخدم الأهداف الغربية.
ولم ينس الزعيم الأول للجمهورية الإسلامية الإيرانية، روح الله الخميني (1902-1989) فضل الغرب عليه في إنجاح الثورة الإسلامية، وبدأ على الفور عام 1985 في إعطاء الضوء الأخضر لفتح محادثات سرية مع أمريكا عن طريق “إسرائيل”، وهو ما تترجمه فضيحة “إيران جيت” أو “إيران كونترا” حين أبرمت إدارة الرئيس الأمريكي – آنذاك – رونالد ريغان اتفاقًا سريًا مع نظام الملالي، الذي كان يحارب العراق وقتها، ينص على تزويده بأسلحة متطورة، تشمل قطع غيار طائرات “فانتوم” ونحو 3 آلاف صاروخ من طراز “تاو TOW” مضاد للدروع، وصواريخ “هوك HAWK” أرض جو مضادة للطائرات، مقابل إطلاق سراح مواطنين أمريكيين كانوا محتجزين في لبنان.
وفي العام التالي مباشرة عام 1986، أجرى مستشار الأمن القومي الأمريكي، بد مكفارلن، زيارة سرية لطهران، برفقة وفد رفيع المستوى على متن طائرة عسكرية، حيث جلب معه كعكة صنعت على شكل مفتاح ترمز للصداقة بين البلدين، هذا بخلاف نسخة من الإنجيل تحمل توقيع الرئيس ريغان، وهي الفضيحة التي نشرتها مجلة “الشراع” اللبنانية في تحقيق نشرته في 11 مارس/آذار 1986.
ورغم ربط البعض بين هذا التعاون ووجود الخميني الذي تربطه علاقات قوية مع الأمريكان – كونهم سببًا في إنجاح ثورته – فإن التنسيق بين البلدين لم ينقطع حتى بعد رحيله، فمع تولي أكبر هاشمي رفسنجاني، زاد منسوب التعاون أكثر خلال حرب الخليج الثانية، حيث منحت أمريكا لإيران الفرصة على طبق من ذهب للتخلص من العراق، عدوها اللدود في ذلك الوقت، ولم تكتفِ بذلك فقط، بل منحت الإيرانيين نفوذًا اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا في الدولة العراقية يضمن عدم نهضتها مرة أخرى.
كما كان لإيران دور كبير في مساعدة أمريكا في احتلال أفغانستان والقضاء على معاقل الحركات الإسلامية المسلحة بها، التي كانت تشكل صداعًا في رأس النظام الإيراني، ووصل التنسيق بين البلدين لمستويات متقدمة خلال العقدين الماضيين تحديدًا، إذ أعطى الأمريكان للإيرانيين الضوء الأخضر للبدء في مشروعهم النووي والسير فيه بخطى ثابتة – مقارنة بالموقف من العراق مثلًا الذي استُهدف مفاعله – وذلك نظير اتفاقات وتفاهمات بينية تخدم بها طهران الأجندة الأمريكية والعكس.
الفكر البازاري ونظرية الخيمة والسوق
في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، طلب وزير الخارجية الأمريكي، آنذاك، هنري كيسنجر، الذي كان يعد زيارة إلى الشرق الأوسط، من قسم التخطيط السياسي في وزارته، إعداد تقرير يساعده على فهم العقلية العربية، ومن بين تقارير عدة اختار تقريرًا للباحث الشاب وقتها، ريتشارد هاريس، الذي أصبح لاحقًا أحد أكبر المحللين والمقرب من دوائر صنع القرار الاستراتيجي في الولايات المتحدة.
واختصر هاريس لوزير الخارجية الأمر في كلمتين (الخيمة والسوق)، لافتًا إلى أن التعامل مع العرب يجب أن يكون مع الحاكم والنظام دون أي اعتبار للشعوب، فإذا ما أردت أن تحقق أهدافك ومصالحك فعليك بالحكام، فهم أشبه برأس الخيمة، أما السوق فهم أشبه بالتاجر في الأسواق، يصعد بخطابه ابتداءً ثم سرعان ما يتراجع مع مرور الوقت، كأن يعرض سلعة بمبلغ ما ويقسم على أن هذا المبلغ نهائي، ثم يقلل ويقلل حتى يهبط بالسعر المطروح لأدنى مستوى ممكن، وعليه لا يُؤخذ كل ما يقوله الحكام العرب على محمل الجد منذ الوهلة الأولى، فهناك طريق شاق من المفاوضات تحقق فيها ما تريد في النهاية.
ويبدو أن نظرية هاريس قد استعان بها الأمريكان فيما بعد مع الإيرانيين، فمخاطبة رأس النظام ومغازلته سلطويًا، عبر المغريات والمحفزات، والتجاوب مع أطماعه وطموحاته، هو السبيل لاستقطاب الدولة، دون أي اعتبار لحساب الشارع الإيراني، كذلك التهديدات الإيرانية وغيرها من الرؤى والتخطيطات لا تؤخذ على محمل الجد بشكل نهائي إلا بعد مسار طويل من التفاوض يتراجع خلاله الإيرانيون عن مطالبهم الأولى.
وللإيرانيين تاريخ طويل مع الفكر البازاري (نسبة إلى البازارات التي هي عبارة عن محال للتجارة والبيع والشراء) حيث الميل دومًا نحو كل ما يحقق لهم المكاسب الاقتصادية، مهما كان الثمن، وعلى مر التاريخ تحالفت السلطات الإيرانية المتعاقبة مع رجال الأعمال والاقتصاديين لخدمة أجندات خاصة، وذلك قبل أن يطيح الحرس الثوري بتلك المعادلة بين السلطة والبازاريين خلال العقود الأخيرة.
وفطنت الولايات المتحدة ومن قبلها بريطانيا لهذا الفكر الذي هيمن على العقلية الإيرانية لسنوات طويلة، حيث وضعت أي سلطة تحكم الدولة في قائمة “العقليات البراغماتية” سهلة السيطرة عليها من خلال تعظيم نفوذها والحفاظ على مكانتها، مهما كان المقابل، ولو كان بتر أذرعها في الخارج.
هل تثأر طهران؟
تقول دروس التاريخ وتجاربه إن إيران دولة براغماتية في المقام الأول، مصالحها الخاصة فوق كل اعتبار، ليس لديها أي مشكلة في التعاون مع الشيطان لتحقيق المكاسب، تتبنى فكرًا قوميًا مصبوغ دينيًا لا يضع في الاعتبار أي حسابات دون مصالحها.
وهي الدروس ذاتها التي تؤكد على أن الشعارات الرنانة التي يهتف بها قادتها وجنرالاتها عن استعداء أمريكا و”إسرائيل” ليست سوى بروباغندا للاستهلاك المحلي وتسويق صورة الدولة المقاومة بما يوسع قاعدتها الشعبية على المستويين، العربي والإسلامي، وبما يخدم أجندتها، ومن بعدها أجندة حليفيها الأمريكي والإسرائيلي.
ليس شرطًا أن يكون التحالف بين القوى المختلفة عبر التقوقع داخل ذات المربع، فقد يكون التحالف عبر الخصومة أشد حميمية وعمقًا، إذ يحرص كل طرف على إبقاء خصمه على مستوى معين من القوة يضمن به الحصول على الدعم وحشد الجبهات الداخلية والخارجية وتوظيف القوة المتوازنة في العداء المعلن لتحقيق أكبر قدر من المكاسب.
وأثبتت حرب غزة الأخيرة وما سبقها من سجالات متبادلة بين إيران من جانب وأمريكا و”إسرائيل” من جانب آخر، أن الصراع بينهم لم يتجاوز أبدًا حاجز صراع النفوذ، ولم يقترب شكلًا ولا مضمونًا من صراع الوجود المزعوم الذي يروج له الإعلام الإيراني والموالي له عربيًا.
وعليه تحاول الولايات المتحدة قدر الإمكان الإبقاء على القوتين في حالة تنافس دائمًا، فكلاهما يخدم على مصالحها وإن بدا غير ذلك، إذ يقود هذا التنافس إلى إشعال المنطقة وتوتير أجوائها بصفة مستمرة، وهو ما يضمن استمرار مصانع الأسلحة في أمريكا وأوروبا وإنعاش خزائنهم بأموال بلدان الشرق الأوسط التي تنفق مئات المليارات على التسليح، فضلًا عن حلب موارد العرب والمسلمين عبر سلاح الاستقطابات.
في ضوء ما سبق، ومن دون الاعتماد على التوقعات المبالغ فيها حول رد إيراني مباشر انتقامًا لاغتيال قادتها الذين سقطوا في الآونة الأخيرة، يبدو أن الأولوية الكبرى لإيران تتمثل في الحفاظ على استقرار نظامها ونفوذها ومشروعها النووي، ومن المستبعد أن يقوم النظام الإيراني بأي خطوة قد تعرض استقراره للخطر عبر تنفيذ عمليات انتقامية تتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة له.
وعليه فإن الحديث عن الرد القاسي على الخسائر التي تعرضت لها إيران قد يكون مجرد محاولات لحفظ ماء الوجه عبر خطاب شعبوي يتناقض تمامًا مع الواقع الميداني، أو على أقصى تقدير التحرك في مساحة ضيقة ضمن قواعد الاشتباك المحددة وبمباركة ودعم من الحليف الأمريكي، حتى لو كبدت “إسرائيل” بعض الخسائر التي يراها البعض مؤلمة.
أخيرًا إذا وجدت إيران نفسها في مأزق وجودي حقيقي، واستشعرت هذا الخطر إذا ما حاولت الانتقام من “إسرائيل”، فإنها قد تلجأ إلى خيارات براغماتية، قد تشمل التضحية بدماء هنية ونصر الله وشكر وسليماني وعقيل وسرور والعاروري وغيرهم من العشرات من قيادات الصف الأول لها ولأذرعها في المنطقة، مقابل الحفاظ على نظامها ونفوذها المكتسب خلال السنوات الماضية.
وفي هذا السياق، يتعين على الفصائل الفلسطينية، خاصة حركة حماس، أن تضع هذه العقلية البراغماتية في اعتباراتها، وهي تدرس استراتيجياتها في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، الذي قدمت له طهران هدايا لا يمكن رفضها على طبق من ذهب، يحاول الاحتلال من خلالها غسل العار الذي لحق به في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.