ظهر الدولار الأمريكي لأول مرة عام 1785 ومنذ ذاك الحين بدأت هذه العملة بالاندماج مع التقلبات الاقتصادية والتحولات السياسية، إلى أن أصبحت العملة الاحتياطية العالمية بعد قرون من الزمن، ما جعلها تدريجيًا الورقة الأكثر شهرة ورمزية للثروة والقوة، وهدفًا تسعى إليه جميع الطبقات الاجتماعية بمختلف مستوياتها وخلفياتها، فهي تمثل نحو 62% من احتياطات النقد الأجنبي وهناك ما يقرب من 580 مليار دولار فواتير سنوية تدفع خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن، على ما يبدو أن الإدارة الاقتصادية الأمريكية التي سعت إلى رفع قيمة الدولار العالمية يومًا ما بدأت بفقدان السيطرة على سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانعزالية التي زعزعت الثقة العالمية بالعملة الأمريكية، لا سيما بعد أن فرضت حكومته رسومًا جمركية على عدة دول دون تراجع أو حسبان، فهل يرتكز النظام الاقتصادي العالمي على عملة جديدة أم يساير الدولار الأمريكي حتى النفس الأخير؟
كيف وصل الدولار الأمريكي إلى قمة الاقتصاد العالمي؟
كانت البداية عندما استنزفت الحرب العالمية الثانية قوى الدول الأوروبية، وأجبرتها على الاستنجاد بأمريكا والاقتراض منها لإعادة إعمار ما دمرته الحرب في بلادها، ونتيجة لذلك، أطلقت وزارة الخارجية الأمريكية “خطة مارشال” من أجل مساعدة البلدان الأوروبية على التعافي من الآثار المدمرة للحرب والتخلص من أثقالها المتبقية، وذلك من خلال تقديم هبات نقدية وعينية وقروض مالية، ومن هنا نجحت أمريكا في تعزيز الثقة العالمية بالدولار.
حيث دعت الحكومة الأمريكية 44 دولة بمدينة “بريتون وودز” في عام 1944 للاتفاق على نظام نقدي قائم على التجارة الحرة ويضمن السيولة الكافية لجميع الأعضاء، مقابل مجموعة من الشروط وأهمها ربط عملة كل دولة إما بالذهب أو الدولار، لكن في عام 1971 انتهى هذا النظام وقررت الحكومة الأمريكية وقف تحويل الدولار واحتياطات الدول الأخرى من الدولار إلى الذهب.
أجريت اتفاقية “جات” للرسوم الجمركية وبموجبها قبلت أمريكا تولي إدارة الاقتصاد العالمي بصفتها القوة العظمى الأولى بعد تراجع النفوذ البريطاني في المنطقة
مع العلم أن دول الاتحاد السوفيتي السابق لم توافق على الانضمام إلى هذا النظام منذ البداية، لأنها رأت فيه هيمنة واضحة للاقتصاد الأمريكي على التجارة العالمية، وبالطبع لم تمنع هذه المواقف الدولية الدولار الأمريكي من العلو والتوسع في الأسواق والاحتياطات الدولية، ففي عام 1947 أجريت اتفاقية “جات” للرسوم الجمركية وبموجبها قبلت أمريكا تولي إدارة الاقتصاد العالمي بصفتها القوة العظمى الأولى بعد تراجع النفوذ البريطاني في المنطقة.
ما الذي جعل الدولار الأمريكي يخسر جاذبيته في الوقت الحاليّ؟
قال الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ذات مرة: “يجب أن نلعب اللعبة كما صنعناها، ويجب أن يلعبوها كما وضعناها”، ولا شك أن الحكومات الأمريكية المتتالية لم تتجاهل هذه القاعدة إطلاقًا، وتحديدًا ترامب الذي يعيد حاليًّا تشكيل حركة التجارة العالمية من خلال فرض الرسوم الجمركية على عدة شركاء اقتصاديين، وأهمهم الصين وتركيا وإيران وروسيا.
فقد أبدت هذه الدول المتضررة اقتصاديًا امتعاضًا ورفضًا تجاه هذه السياسيات الصارمة، محاولةً التخلي عن التعاملات التجارية التي تعتمد على الدولار، ومن هذا المنطلق، يعتقد محللون اقتصاديون أن هذه الدلالات والتحركات قد تقلص من قيمة الدولار في السوق العالمية ويتم بالتالي استبداله لاحقًا بعملة أخرى، فقد قال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر: “من السخف شراء الطائرات الأوروبية بالعملة الأمريكية”.
حجم الاستثمارات في السندات الصينية سيتجاوز حد التريليون دولار خلال الخمس سنوات القادمة، أي أن ثلثها سينسحب من السندات الأمريكية وبالتالي ستفقد أمريكا مزيدًا من هيمنتها الاقتصادية
وبحسب وكالة “نوفوستي”، فإن خبراء اقتصاديين يرون أن السبب الرئيسي لزيادة حدة المناقشات بشأن تراجع قوة الدولار ليس الدين الأمريكي الضخم أو الرسوم الجمركية فقط، وإنما الخطوات التي اتخذتها الصين في الآونة الأخيرة عندما افتتحت بكين بورصة عالمية في شنغهاي للطاقة، بحيث يتم تداول معاملات النفط التجارية فيها بالعملة الصينية، ورغم قلة المؤشرات الإيجابية في نجاح هذه البورصة، فإن الصفقات القائمة على عملة الصين المحلية اليوان ارتفعت بنسبة 10% خلال 6 أشهر.
أما الضربة الثانية فتعود إلى تسارع تدفق الاستثمارات من السندات الحكومية الأمريكية إلى الأوراق المالية الصينية المقومة باليوان، ويضاف إلى ذلك قرار مجلس الدولة الصيني في تقديم حوافز ضريبية للمستثمرين الأجانب في السندات الصينية، فبحسب تقديرات “غولدمان ساكس” فإن حجم الاستثمارات في السندات الصينية سيتجاوز حد التريليون دولار خلال الخمس سنوات القادمة، أي أن ثلثها سينسحب من السندات الأمريكية وبالتالي ستفقد أمريكا مزيدًا من هيمنتها الاقتصادية.
إلى جانب ذلك، اعتبرت كل من روسيا وتركيا أن الدولار أصبح “أداة خطيرة وعائقًا”، فقد دعا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى تخفيض حيازات الدولار على اعتبار أن “الدولار أصبح أداة للضغط ليس فقط على المعارضين الجيوسياسيين للولايات المتحدة، ولكن أيضًا على الحلفاء”.
قررت كل من روسيا وتركيا وإيران والعراق استبدال الدولار باستخدام العملات المحلية في تجارتها مع جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وإفريقيا
وأشارت فرنسا إلى ذلك أيضًا من خلال تصريح وزير المالية الفرنسي برونو لو مير الذي قال: “أريد أن تكون أوروبا قارة ذات سيادة وليست تابعة”، ويشير بذلك إلى استقلالها تمامًا من الجانب الاقتصادي عن الولايات المتحدة، ففي ظل هذه التقلبات الاقتصادية زادت حدة التخوفات العالمية من أساليب حكم ترامب التي من المتوقع أن “تؤدي إلى نهاية هيمنة الدولار، إذ أن الكثير من البلدان بقيادة الصين والاتحاد الأوروبي تبحث عن طرق للالتفاف على العقوبات الأمريكية، ما سيؤدي بالمقام الأول للتخلي عن الدولار كأداة للدفع”، بحسب ما قاله محلل حائز على جائزة نوبل.
وبهذا الشأن فقد قررت بالفعل كل من روسيا وتركيا وإيران والعراق استبدال الدولار باستخدام العملات المحلية في تجارتها مع جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وإفريقيا، ولا داعي للذكر أن هذا لن يكون خبرًا سارًا للولايات المتحدة الأمريكية التي تفرط في فرض الرسوم الجمركية وتتدخل أيضًا في العلاقات التجارية بين الدول، فقد نوهت فيدريركا موغيريني رئيسة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي إلى ذلك، في منتدى بلومبيرغ العالمي للأعمال، قائلةً:”لا يمكننا أن نقبل كأوروبيين أن يحدد لنا الآخرون، حتى أقرب حلفائنا وأصدقائنا، من يمكننا التعامل معه”.
يرى المحللون أن استبدال الدولار بعملة أخرى على الصعيد العالمي ما زال أمرًا مبكرًا، لا سيما أن العملات المنافسة ضعيفة وليست جاهزة بعد لإزاحة الدولار الأمريكي عن طريقها
حيث تدلنا هذه التصريحات والتوجهات العالمية إلى أجواء السخط وعدم الرضا التي تسود قطاع التجارة، لكن رغم تراجع شعبية الدولار في المحافل الدولية يرى المحللون أن استبدال الدولار بعملة أخرى على الصعيد العالمي ما زال أمرًا مبكرًا، لا سيما أن العملات المنافسة ضعيفة وليست جاهزة بعد لإزاحة الدولار الأمريكي عن طريقها.
ويعود ذلك إلى أسباب عدة، منها أن الانهيارات الاقتصادية المتتالية – مثل اليونان وإيطاليا – في الاتحاد الأوروبي أثرت كثيرًا على متانة اليورو، أما بالنسبة إلى اليوان الصيني، فإن سياسة الصين غير الديمقراطية والحذرة من الانفتاح على التجارة العالمية والمقيدة لرؤوس الأموال الأجنبية لن تسمح لها بقيادة الاقتصاد العالمي، وعند المقارنة بين قوة اليورو واليوان، فنلاحظ أن احتياطات العملات الأجنبية تمثل نحو 83.5% من الدولار واليورو مجتمعين، ما يعني أنه لا يوجد مساحة كافية لليوان الصيني.
ونظرًا لذلك، تقودنا هذه المؤشرات إلى خلاصة نهائية تدلنا على أن خيار استبدال الدولار الأمريكي ليس أمرًا متاحًا في الوقت الحاليّ، وتحديدًا لو تراجعت أمريكا عن سياسة التعريفات الجمركية في سبيل الحفاظ على شعبية عملتها الوطنية وتحالفاتها الدبلوماسية، ولكن دون ذلك، ستظل الاقتصادات على الجهة الأخرى تحت وطأة الدولار الأمريكي.