في فيلم “إشراقة أبدية لعقل نظيف“، يطرح المخرج “ميشيل غوندري” ديناميكية العلاقة بين الذاكرة والهوية الذاتية للفرد بجوهرها، ضاربًا بعمق بين العلاقة بين فقدان الذاكرة والهوية الشخصية، وأثر ذلك على مسارات حياة الفرد لاحقًا. إذ تقع أحداث الفيلم في عالمٍ يُعتبر فيه محو الذاكرة الانتقائيّ حقيقةً علمية يمكن حدوثها في المختبرات والمراكز الطبية. وبالتالي، يصوّر الفيلم الأضرار التي قد تلحق بالوعي نتيجة النسيان القسريّ.
جيم كاري في فيلم “the eternal sunshine of the spotless mind”
ففي حين يتصارع أبطال الفيلم مع أزماتهم وأسئلتهم الوجودية عقب الخضوع للإجراء الطبّي، إلا أنّ ثمة ما يثير العديد من التساؤلات حول أهمية ذاكرتنا، ليس فقط في فهمنا لماضينا، ولكن أيضًا في فهمنا عن أنفسنا وهويّتنا الذاتية. وبكلماتٍ أخرى، يحاول الفيلم الوصول لإجابةٍ محددة فيما يتعلّق بالسؤال القديم الذي تساءله الفلاسفة وعلماء النفس: هل خسارتنا لذاكرتنا يعني خسارتنا لذواتنا أو لهويّتنا؟
الحالة المحيّرة لجيمي جي.. أن تفقدَ ذكرياتك لتفقدَ معنى ذاتك
في الحالة الشهيرة لطبيب الأعصاب البريطاني “أوليفر ساكس” لمريضه “جيمي” البالغ من العمر 49 عامًا والذي يعجز عن تذكّر الماضي أو تكوين ذكريات جديدة، يصف “ساكس” مريضه بأنه “عالقٌ في لحظةٍ ما يكافح فيها للعثور على المعنى”؛ لأنه لا يستطيع تذكّر أيّ شيءٍ ممّا حدث معه بعد أو قبل مراهقته المتأخرة، فهو عالقٌ في تلك المرحلة، لا يملك أيّ ذكرياتٍ عما قبلها أو عمّا بعدها.
ولنفهم الحالة أكثر، فما يُعاني به “جيمي” يُعرف باسم “فقدان الذاكرة التقدّمي Anterograde amnesia”، وهو فقدان القدرة على خلق الذكريات بعد الحدث الذي تسبب في فقدان الذاكرة، مما يؤدي إلى عدم القدرة الجزئية أو الكلية على تذكر الماضي القريب في حين أنّ الذكريات طويلة الأمد من قبل الحدث لا تزال سليمة، لكنّ المريض غير قادر على خلق ذكريات طويلة الأمد جديدة. وهي الحالة التي أُصيب بها بطل فيلم “تذكار Memento” بالمناسبة.
لكن ما هو أكثر حيرةً في حالة “جيمي” أنه عانى في الوقت نفسه من نوعٍ آخر من فقدان الذاكرة هو “فقدان الذاكرة الرجعي retrograde amnesia”، وهو فقدان قدرة الوصول إلى ذكريات الأحداث التي وقعت قبل الحدث الذي أدى للإصابة بالمرض، إضافةً إلى عجزٍ في القدرة على تعلّم أو حفظ المعلومات الجديدة التي يتعرّض لها المريض بشكلٍ يوميّ.
الأشخاص الذين يعانون من شكلٍ من أشكال فقدان الذاكرة كمرض ألزهايمر أو غيره، فإنهم عادةً ما يفقدون إحساسهم بهويّتهم أيضًا
لا يعرف جيمي أنه فقد هذه الذكريات وبالتالي فهو غير قادر على الحزن على فقدانها. قد يشعر بعاطفةٍ أو شعورٍ ما في لحظةٍ ما كالحزن والسعادة، ولكن بعض دقائق أو ربما ثوانٍ معدودة ينسى الحدث، فتتبخّر العاطفة والشعور معه. قد يراوده شعورٌ عابر بأنه يكره شيئًا ما أو أنه غاضبٌ من شخصٍ ما، لكنه لا يستطيع تذكّر السبب أو ربما لا يستطيع تذكّر ذلك الشخص.
يُكمل جيمي حياته دون أنْ يتمكّن من تشكيل ذكرياتٍ جديدة، أو تذكّر القديم منها. فأينَ هويّته الفردية أو الذاتية؟ ومن أينَ يستشفّ المعنى لتلك الهوية؟ جيمي لا يستطيع إجابتنا عن هذا بالتأكيد، لكنّ علميْ النفس والأعصاب سعيا على مدى سنواتٍ عديدة جنبًا إلى جنب مع الفلسفة وفروعها للغوص في إشكالية الذاكرة والهوية هذه.
علم النفس والفلسفة يتّفقان: الذاكرة تصنع هويّاتنا
جميع هذه الأبحاث توصلت إلى أنّ الأشخاص الذين يعانون من شكلٍ من أشكال فقدان الذاكرة كمرض ألزهايمر أو غيره، فإنهم عادةً ما يفقدون إحساسهم بهويّتهم أيضًا. وعلى الرغم من أنّ الفلسفة لا تتقاطع كثيرًا مع الاستخدام العلميّ للأمراض، إلا أنها في حالات مثل فقدان الذاكرة والخرَف ومرض ألزهايمر، تقدّم لنا عدّة رؤى وتفسيرات ممكنة حول الذات والهوية. وبشكل عام، هناك عدة آراء وفرضيات حول كيفية تشكيل الهوية الشخصية واستدامتها، ما يهمّنا منها هنا هو دور الذاكرة في ذلك.
تعتمد الذات على قدرتنا على ترتيب ذكرياتنا وتوصيل مجموعة من التجارب لتشكيل سيرة ذاتية متماسكة نستطيع اللجوء إليها لمعرفة مَن كّنا وكيف أصبحنا وتقدير ما الذي يمكن أنْ نصبح عليه لاحقًا.
تجادل إحدى الفرضيّات أنّ الهوية والذاكرة ينشآن من نفس المصدر: مجموعة من الترابطات النفسية المستمرة داخل أدمغتنا. إذ تعتمد الذات على قدرتنا على ترتيب ذكرياتنا وتوصيل مجموعة من التجارب لتشكيل سيرة ذاتية متماسكة نستطيع اللجوء إليها لمعرفة مَن كّنا وكيف أصبحنا وتقدير ما الذي يمكن أنْ نصبح عليه لاحقًا. وإذا نظرنا إلى فقدان الذاكرة بصفته فعلًا مدمّرًا للارتباط الزمني الذي يحافظ على سيرتنا الذاتية تلك، نستطيع القول إذن أنّ فقدان الذاكرة يؤدي بشكلٍ أو بآخر إلى فقدان الهوية الذاتية، سواء جزئيًا أو كليًّا.
هل امتلاك ذاكرة سليمة يعني امتلاك هوية سليمة؟
الجواب لا. إذ تظهر لنا بعض الأبحاث الحديثة أنّنا بشكلٍ عام عاجزون عن الوصول إلى جميع الذكريات المتاحة لدينا، وأنّ البشر انتقائيّون بشكلٍ كبير حين يتعلّق الأمر في اختيارهم لما يريدون تذكّره وما يريدون نسيانه. فعندما نرغب برواية حدثٍ شخصيٍ، فإنّنا نمرّر ذلك الحدث في دماغنا ضمن نظامٍ للمراقبة والتنقية بحيث يصبح مناسبًا للرواية ومناسبًا لصورتنا أمام الآخرين. هنا، يظنّ الدماغ أنّ ما نرويه جزءٌ من ذكرياتنا لكنه ليس كذلك.
وبكلماتٍ أخرى، ما نختاره كذاكرة شخصية يمكن روايتها، سواء لأنفسنا أو للآخرين، يجب أنْ يتناسب مع فكرتنا عن ذواتنا وصورتنا عن أنفسنا. إضافةً إلى أنّنا غالبًا ما نؤلّف ذكرياتٍ للأحداث التي لم تحدث أبدًا. فبالنهاية، ذكرياتنا مرنة للغاية، يمكن تغييرها وتبديلها أو صنع أخرى جديدة تمامًا وهي ما يُطلق عليه بمصطلح “الذكريات الكاذبة” أو “الذكريات الزائفة”.
إذا لم تكن بعض المعلومات التي تصل الدماغ متطابقة أو ذات مغزى أو ملائمة لصورة الفرد، تتجاهلها الذاكرة أو تقوم بتغييرها بإضافة بعض المعلومات أو حذفها.
فقد أظهرت عدة دراسات في تصوير الدماغ إلى أنّ الذاكرة الشخصية لا تملك موقعًا واحدًا فقط في الدماغ، وإنما تعتمد على “شبكة دماغية” تضم العديد من المناطق المنفصلة وتعمل معًا بشكلٍ متّسق لخلق الذكريات الشخصية بناءً على العديد من العوامل مثل المعرفة التي نملكها والصورة الذاتية والاحتياجات والأهداف.
واحدة من تلك المواقع المهمّة هو “الفص الجبهيّ frontal lobes”، وهو جزءٌ من الدماغ يعمل على دمج جميع المعلومات التي يستقبلها الفرد ومن ثمّ تحليلها لتصبح ذات مغزى أو معنى، بحيث لا تكون متضاربة أو متناقضة، أو من حيث ملاءمتها للتذكّر الفرديّ. فإذا لم تكن بعض المعلومات التي تصل الدماغ متطابقة أو ذات مغزى أو ملائمة لصورة الفرد، تتجاهلها الذاكرة أو تقوم بتغييرها بإضافة بعض المعلومات أو حذفها.
تعمل العديد من أجزاء الدماغ في تكوين ذكرياتنا الشخصية بما فيها “الفص الجبهي” الذي يساهم في بناء هوية منطقية وذات مغزى للفرد
لنفترض، على سبيل المثال، أنّ بعض الأشخاص من حولك يستطيعون بطريقةٍ أو بأخرى زرعَ ذكرياتٍ زائفة في دماغك، حتى تأتيَ لحظةٌ ما تتشرّبها فيها وتعتقد أنها حدثت بالفعل وأنها جزءٌ من ماضيك وتاريخك ومن صورتك عن نفسك. لكنّك بالوقت ذاته لا زلتَ واعيًا بأنها مزروعة أو أنها ليست جزءًا أصيلًا من هويّتك الذاتية، فكيف ستشعر وقتها؟
ذاكرتنا ستبقى دومًا مرتبطة بالعديد من التحيّزات التي نلجأ إليها لتعزيز الذات وإعادة رواية ماضينا أو تاريخنا بالطريقة التي نشعر أنها تشبهنا وتشبه الصورة التي نتمنّى أن نصدّرها عن أنفسنا للآخرين
قد تكون الفكرة ليست غريبة على محبّي السينما، ففيلم “Inception” بالنهاية كان قائمًا على إمكانية زرع فكرةٍ ما في ذهن الشخص ليعتقد بها كما لو أنها جزء من بنات أفكاره تمامًا. عالم النفس الشهير “جان بياجيه” كان أيضًا قد ذكر مرةً أنه اعتاد لسنواتٍ طويلة تذكّر حدث اختطافه مع مربّيته، التي كانت تخبره عن الحدث أيضًا، لكنها اعترفت له بعد سنواتٍ عديدة أنها اختلقت القصة واستمرّت بروايتها له حتى أصبح يعتقد أنها جزءٌ من ذكرياته وماضيه وصورته عن ذاته.
لاحقًا، توقف بياجيه عن الإيمان بذاكرته، إذ آمن أنه مهما شعر أنّها حقيقية إلا أنه في أيّ لحظةٍ يمكن أنْ يكتشف زيفها، وبالتالي زيف صورته عن ذاته أو زيف هويّته بكلماتٍ أخرى. ما يعني أنّ ذاكرتنا ستبقى دومًا مرتبطة بالعديد من التحيّزات التي نلجأ إليها لتعزيز الذات وإعادة رواية ماضينا أو تاريخنا بالطريقة التي نشعر أنها تشبهنا وتشبه الصورة التي نتمنّى أن نصدّرها عن أنفسنا وهويّتنا الشخصية أمام الآخرين من حولنا.