مساء الإثنين الـ24 من شهر سبتمبر/أيلول الماضي، أطلّ الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي على التونسيين من على منبر قناة تليفزيونية خاصة معلنًا إنهاء علاقة التوافق التي تجمعه بحركة النهضة الإسلامية، بعد أن فضلت النهضة تكوين ائتلاف مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، بدل التحالف مع نجله حافظ الذي ساهم في إرباك “النداء” والبلاد على حد سواء.
منذ تلك اللحظة، بدأ العرض وبدأت الحملة التي تستهدف حركة النهضة الإسلامية في سيناريو مشابه لما حصل سنة 2013 قبيل انتخابات أكتوبر 2014 التي حلّت النهضة فيها في المرتبة الثالثة، حملة هدفها إضعاف الحركة الإسلامية وحشرها في الزاوية بعد الانتصار الكبير الذي حققته خلال الانتخابات المحلية الأخيرة.
سيناريو صيف 2013
صيف 2013، احتشد أنصار الجبهة الشعبية وهو ائتلاف أحزاب يسارية في اعتصام سمي بـ”اعتصام الرحيل”، أمام مقر المجلس الوطني التأسيسي التونسي وفي عدة مدن تونسية أخرى أبرزها سوسة وصفاقس للمطالبة بإسقاط مؤسسات الدولة الشرعية من مجلس تأسيسي ورئاسة للجمهورية مرورًا بالحكومة، وتشكيل هيئة بديلة له تتولى استكمال صياغة الدستور، بالإضافة إلى تشكيل حكومة إنقاذ وطني، في مسعى للقيام بانقلاب ناعم على مؤسسات الدولة آنذاك حسب عديد من المتابعين للشأن التونسي.
في ذلك الاعتصام الذي جاء عقب اغتيال النائب عن حركة الشعب (قومي) محمد البراهمي من مجموعة مسلّحة، وأشرفت عليه أحزاب اليسار التونسي بمختلف أطيافها، لم يكن الهدف إنقاذ تونس كما ادعى المشرفون عليه بل كان الهدف ضرب حركة النهضة وإقصائها من المشهد السياسي وإعادة قياداتها وأبنائها من حيث أتوا، إلى السجون والمنفى.
حينها رفع المشاركون في الاحتجاجات شعارات تتهم حركة النهضة بالوقوف وراء الاغتيالات السياسية التي شهدتها البلاد واستهدفت قوات الأمن والجيش ورجال سياسة، وتزامن ذلك مع اقتحامهم مؤسسات الدولة في العديد من مناطق البلاد مهددين باحتلالها وفق قولهم.
ما إن تكلمت الجبهة، حتى بدأت وسائل إعلام عدة حملتها ضد حركة النهضة
ساعدهم في ذلك العديد من الوسائل الإعلامية الخاصة وحتى العمومية منها، فتمّ نقل احتجاجاتهم مباشرة على المحطات التليفزيونية ونصّبت منابر حوارية لضرب النهضة والتشفي فيها، وخصّصت فرق إعلامية لمرافقة المحتجين أينما كانوا لنقل صوتهم.
لم يكن همّهم حينها إنقاذ تونس وشعبها، بل إدخالها أتون الفوضى والصراع الأهلي على غرار عديد من الدول الشقيقة، لتحقيق أمانيهم والاستيلاء على الدولة، لكنهم للأسف كانوا مجرد أداة في يد المنظومة القديمة يأتمرون بأمرها، وفق ما خلص إليه بعض قيادات اليسار التونسي.
تأكّد هذا عقب انتخابات 2014، فما إن فازت حركة نداء تونس بأغلبية مقاعد البرلمان وبرئاسة البلاد، حتى انقلبوا على حلفاء الأمس “اليساريين”، مستبعدين قياداتهم من المشاورات الحكومية، رافضين أي تحالف حكومي معهم، لكن هل من متعظ؟
عودة الماكينة
نفس الشيء حصل الآن، فالمنظومة القديمة، استدعت الجبهة الشعبية مثلما حصل المرة الماضية في اعتصام الرحيل، فما كان من الجبهة اليسارية وأنصارها إلا الاستجابة لنداء الواجب، فولي الأمر نادى وما عليهم إلا الطاعة وفق قول بعض التونسيين.
الجبهة الشعبية التي صمتت لأكثر من 3 سنوات، تكلّمت الآن ونظمت بالمناسبة ندوة صحفية تحت عنوان “التنظيم الخاص لحركة النهضة بعد الثورة وعلاقته بالاغتيالات السياسية”، قالت فيها إنها تملك معطيات جديدة تثبت تورط النهضة في اغتيال المعارضين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
أكدت الجبهة خلال هذه الندوة، أنّ حركة النهضة لها تنظيم خاص له علاقة بالاغتيالات السياسية، وأن شخص يدعى مصطفى خذر يشرف على هذا الجهاز، كان يحوز وثائق تتعلق بملف اغتيال بلعيد والبراهمي، وأنه على اتصال مباشر بالقيادات العليا للحركة لا سيما راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، ونورالدين البحيري رئيس كتلة حركة النهضة بالبرلمان.
تقود أحزاب اليسار حملة كبيرة ضد حركة النهضة
واتهم رضا الرداوي عضو هيئة دفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي في وقت سابق بشكل صريح حركة النهضة الشريك الحاليّ في الائتلاف الحكومي التي قادت في السابق حكومة الترويكا في مناسبتين بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، بالضلوع في التجسس لصالح جهات أجنبية.
ما إن تكلّمت الجبهة، حتى بدأت وسائل إعلام عدة حملتها، مخصصة أغلب وقتها لتناول هذه الاتهامات وتنصيب محاكم بعيدًا عن وزارة العدل والقضاء التونسي، لمحاكمة النهضة على قضايا قال فيها القضاء كلمته سابقًا، وأخرى ما زالت محل بحث، في تدخل وصفه البعض بـ”السافر” في عمل مؤسسات الدولة واستقلالية قرارها.
الجبهة الشعبية التي لا برنامج سياسي لها سوى التهجم على حركة النهضة وفق قول قيادي الحركة الإسلامية، استدعت هذه المرة كالتي سبقتها ملف اغتيال بلعيد والبراهمي لضرب النهضة مجددًا وتحقيق ما عجزت عنه خلال الاستحقاقات الانتخابية السابقة، إلا أن ما فاتها هذه المرة أيضًا أنها أداة عند المنظومة القديمة التي تسعى للمسك مجددًا بزمام الأمور في البلاد بعد أن خرجت منها بعض الجزئيات.
النهضة بالمرصاد
محاولة البعض من غلاة اليسار الاستئصالي استهداف حركة النهضة، يقول النهضاويين، إنها تتقاطع مع أهداف المنظومة القديمة التي يمثّلها حزب نداء تونس الذي يشهد في الفترة الأخيرة انقسامات كبرى أثرت عليه وجعلت كتلته البرلمانية تتهاوى إلى المرتبة الرابعة بعد أن كانت تمتلك الأغلبية غداة انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014.
المنظومة القديمة تسعى إلى استغلال حماس اليساريين وكرههم الشديد لحركة النهضة و”غباء” بعض قياداته وأنصاره، من أجل التحكم مجددًا في مقاليد الدولة استعدادًا للانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة المقرّر إجراؤها في خريف سنة 2019.
المساعي المتكررة لجر البلاد إلى حرب أهلية، تسعى من خلالها الجبهة الشعبية اليسارية إلى إفشال مسار عملية الانتقال الديمقراطي
خلال الحملة التي استهدفتها سنة 2013، عرفت النهضة كيفية استثمار الأزمة والخروج أقوى، فرغم تخلّيها عن الحكم حينها، ها هي بعد 5 سنوات تتصدر المشهد السياسي مجددًا في تونس، بيدها الحل والربط في البرلمان والحكومة والبلديات ويحسب لها ألف حساب في كل شاردة وواردة في البلاد.
الواضح أن الجبهة الشعبية ومن خلفها المنظومة القديمة، اختارت أن تستهدف خصمها السياسي والإيديولوجي بالشتم والجدال في المنابر الإعلامية وخلق الإشاعات، عوض منافسته بالبرامج السياسية والتنافس السلمي والشفاف في الانتخابات التي لن توصلها إلى الهدف الذي تسعى إليه.
النهضة كانت تعلم يقينًا أن حملة ما ستستهدفها في هذه الفترة، لذلك عملت على التحضير للأمر، وهو ما تجلى في القدرة الاتصالية لقياداتها وحسن تعاملهم مع اتهامات الجبهة الشعبية، فقد قلبوا الطاولة وهاجموا الجبهة واتهموها بخرق مؤسسات الدولة والمسّ من هيبتها، وبخلق الأكاذيب والتشكيك والقضاء بالضغط والتشكيك واستهداف مؤسسة الرئاسة بالتقول علیها، واستهداف علاقات تونس الجیدة مع بعض الدول.
تراهن حركة النهضة على شعبيتها لتجاوز الأزمة الحاليّة
الجبهة الشعبية، كانت تنتظر إرباكًا من النهضة يحشرها في الزاوية، إلا أنها وجدت عكس ذلك، فقد أصبحت هي نفسها متهمة بالمتاجرة بدماء رفقائهم ضحايا العنف الذي تسعى قيادات الجبهة إلى جرّ البلاد إليه مجددًا من خلال التشكيك في كل مؤسسات الدولة السيادية.
ويتهم تونسيون، ائتلاف الجبهة الشعبية، بجر تونس لحرب أهلية من خلال محاولاته بث العنف والفوضى في البلاد في مناسبات عديدة، وتخصيص صفحات ومواقع إعلامية تابعة لهم لإشاعات تستهدف أمن البلاد واستقرارها الاجتماعي.
هذه المساعي المتكررة لجر البلاد إلى حرب أهلية، تسعى من خلالها الجبهة الشعبية اليسارية التي عرفت بانتهاج العنف والفوضى، إلى إفشال مسار عملية الانتقال الديمقراطي في تونس وإرباك الديمقراطية الناشئة في البلاد بغية السيطرة على الحكم، وفي ذلك إقرار علني منها بعدم إيمانها بمبدأ التداول السلمي للسلطة من خلال الوسائل المدنية والخيار الانتخابي.