على عكس المتوقع، تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بالاقتصاد المصري خلال الربع الثاني من هذا العام إلى أدنى مستوياته منذ عامين حين بدأ تطبيق خطة التقشف التي يدعمها صندوق النقد الدولي، وهو ما يعني وفق الكثير من الخبراء معاناة جديدة في انتظار المصريين خلال الفترة المقبلة.
تشير التقارير إلى أن مصر جذبت استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 600 مليون دولار إلى القطاعات غير النفطية في الربع الثاني من 2018، انخفاضًا من 956 مليون دولار في الربع الأول و1.51 مليار دولار في الربع الأخير من 2017، وذلك بحسب “رويترز” من واقع بيانات ميزان المدفوعات التي نشرت هذا الأسبوع.
لم يكن هذا التراجع الأول من نوعه، إذ تراجعت قيمة الاستثمارات الأجنبية بنسبة 12% خلال النصف الأول من العام الحاليّ، على الرغم من الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة لدعم مناخ الاستثمار المحلي والأجنبي، من بينها إصدار قانون الاستثمار الجديد في مايو2017، وإصدار قوانين الشركات وسوق المال والإفلاس مؤخرًا.
العديد من التساؤلات فرضت نفسها على الشارع الاقتصادي المصري مع استمرار معدلات التراجع، بشأن الدوافع الحقيقية لمثل هذه الانخفاضات رغم التوقعات الإيجابية بشأن زيادتها مع تطبيق الخطة الإصلاحية المعتمدة من الصندوق الدولي، فضلًا عن التداعيات السلبية لهذا التراجع على الحياة المعيشية لملايين المصريين.
تراجع صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لمصر خلال العام المالي الماضي إلى نحو 7.7 مليار دولار مقابل نحو 7.9 مليار دولار خلال عام 2016 – 2017
تراجع عكس التوقعات
الإجراءات المتخذة، تشريعيًا وتنظيميًا، خلال العامين الأخيرين على وجه التحديد رفعت من مستوى طموحات الحكومة المصرية بشأن حجم الاستثمارات الأجنبية المتوقعة، إذ توقعت جذب 10 مليارات دولار صافي استثمارات أجنبية خلال العام الماضي فقط، فيما رفعت وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي سحر نصر توقعاتها أحيانًا إلى 12 مليار دولار، وهو ما لم يتحقق بحسب البيانات الرسمية.
البنك المركزي المصري في بياناته عن ميزان المدفوعات الصادرة قبل أسبوع كشف تراجع صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لمصر خلال العام المالي الماضي إلى نحو 7.7 مليار دولار مقابل نحو 7.9 مليار دولار خلال عام 2016 – 2017، فيما ارتفع صافي الاستثمار المباشر في قطاع البترول إلى 4.5 مليار دولار خلال العام الماضي مقابل 4 مليارات في 2016 – 2017، وهو ما يعني أن الاستثمارات غير البترولية تراجعت إلى نحو 3.2 مليار دولار العام الماضي مقابل نحو 3.9 مليار دولار في العام السابق عليه.
النتائج الرسمية المعلنة عن حجم الاستثمارات الأجنبية في مصر انخفضت بشكل ملحوظ عن توقعات صندوق النقد الدولي، التي كان قد خفضها أصلًا في بيانه عن نتائج أعمال المراجعة الثالثة للاقتصاد في يوليو الماضي، لتصل إلى 7.8 مليار دولار مقابل 8.4 مليار دولار كان يتوقعها في تقرير المراجعة الثانية، ومقابل 9.4 مليار دولار في تقرير المراجعة الأولى.
الملفت للنظر أنه وعلى مدى السنوات الـ3 الماضية، لم تنخفض الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلا في الربع الأول المضطرب من 2017، الذي بدأ بعد أسابيع قليلة من توقيع مصر اتفاقها مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وفي ذلك الربع انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 478 مليون دولار.
لا يمكن للحكومة أن تتكلم عن زيادة معدل النمو في نفس الوقت الذي تتحدث فيه عن تراجع الاستثمار، خاصة أن الاستثمار العام محدود جدًا ولا يتجاوز 90 مليار جنيه.. الدكتورة علياء المهدي
ما الأسباب؟
“أعتقد أن الأمر يتعلق أكثر بالاتجاهات العالمية في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر والأسواق الناشئة ككل، ولا يتعلق بمصر على وجه التحديد”.. هكذا استهل هاني فرحات الخبير الاقتصادي لدى بنك الاستثمار المصري “سي آي كابيتال” حديثه مفسرًا أسباب تراجع الاستثمار الأجنبي في مصر.
فرحات في حديثه لـ”رويترز” أضاف “صُنفت مصر في المرتبة الأولى بإفريقيا في تلقي الاستثمارات الأجنبية المباشرة عام 2017″، فيما ذهب ألين سانديب رئيس قسم البحوث لدى “نعيم للوساطة” إلى أن الأمر يستغرق عادة 4 أو 5 سنوات كي تتدفق الاستثمارات بعد إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وضرب مثلًا بالهند والبرازيل، مشيرًا إلى أن “الاستثمار الأجنبي المباشر يستغرق وقتًا، لكن فور أن يبدأ في التدفق يصير مستدامًا”.
أما الدكتورة علياء المهدي الخبيرة الاقتصادية وعميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة سابقًا، فأرجعت في حديثها لـ”نون بوست” انخفاض حجم الاستثمارات الأجنبية إلى عدة أسباب؛ أولها: السياسة النقدية التضخمية (طباعة النقود) التي أدت إلى انخفاض قيمة الجنيه وبالتالي القدرة الشرائية للأسر المتوسطة والفقيرة، ومن ثم انخفاض الطلب الفعال في السوق.
تراجعت قيمة الاستثمارات الأجنبية بنسبة 12% خلال النصف الأول من العام الحاليّ
ثانيها: التحولات السريعة في الأسواق الناشئة التي أدت لانتقال الاستثمارات الأجنبية لأسواق أخرى غير مصر، ثالثًا: فرض ضريبة القيمة المضافة وخفض الدعم اللذين رفعا أيضًا الأسعار وخفضا القوة الشرائية والطلب الإجمالي، مشيرة إلى أنه حين تهدأ تقلبات السياسات الاقتصادية المحلية التي يفرضها برنامج الإصلاح الاقتصادي قد تبدأ الأمور في التحسن ويزيد الاستثمار.
وأضافت “حين نسمع عن حدوث زيادة في الاستثمار بوجه عام، يمكن أن نتوقع زيادة معدل النمو، لذلك لا يمكن للحكومة أن تتكلم عن زيادة معدل النمو في نفس الوقت الذي تتحدث فيه عن تراجع الاستثمار، خاصة أن الاستثمار العام محدود جدًا ولا يتجاوز 90 مليار جنيه”.
فيما استعرض الدكتور أحمد ذكر الله أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر 4 أسباب رئيسية أخرى مفسرًا بها التراجع الملحوظ في حجم الاستثمارات الأجنبية، على رأسها خفض التضخم وسعر الفائدة الذي يعد من العوامل التي تؤثر بشكل مباشر على قرارات المستثمرين الأجانب، وبالتالي فإن انخفاضهما مستقبلًا سيسهم في زيادة الاستثمار بشكل كبير.
احتلت مصر المركز 11 عربيًا في تقرير ممارسة أنشطة الأعمال 2018، الصادر عن البنك الدولي في أكتوبر 2017، متراجعة 6 مراكز عالميًا
علاوة على ذلك العوامل المتعلقة بالعرض والطلب، إذ يتمثل العرض في القدرة على الوصول إلى مدخلات الإنتاج من السلع الوسيطة والمستلزمات والمواد الخام، وبالنسبة لعوامل الطلب فإنها تتصل بطبيعة الأسواق حجمًا وتركيبًا، والسوق المصرية سوق أسعار وليست سوق جودة، ولذلك يتردد المستثمر الأجنبي في الدفع برأسماله وما يملك من تكنولوجيا في سوق تنظر للسعر قبل الجودة.
كذلك من بين الأسباب ما يسمى وفق تعريف البنك الدولي، مدى سهولة أداء الأعمال “Doing Business من حيث إمكانية الدخول السهل لإقامة المشروعات وتحقيق وتحويل الأرباح، إذ احتلت مصر المركز 11 عربيًا في تقرير ممارسة أنشطة الأعمال 2018، متراجعة 6 مراكز عالميًا من المرتبة 122 إلى 128.
ويختتم ذكر الله أسبابه بصعوبة تخصيص الأراضي وارتفاع سعرها، وذلك نظرًا لتعدد جهات الولاية على الأراضي تبعًا لنوع النشاط أو مكان المشروع، وهو ما ينعكس بصورة سلبية على المستثمرين الأجانب وأنشطتهم مقارنة بالدول الأخرى التي تزيل كل العقبات الإدارية والتنفيذية أمامهم لتسهيل ضخ أموالهم في أسواقها الاقتصادية.
وفي المجمل من الواضح أن المصريين على مشارف موجة جديدة من المعاناة، إثر إجراءات من المتوقع اتخاذها نتيجة لتراجع حجم الاستثمارات الأجنبية، منها ارتفاع أسعار بعض السلع والخدمات وهو ما يزيد الوضع تأزمًا في ظل التراجع الواضح في المستوى المعيشي منذ قرار تعويم الجنيه (العملة المحلية) قبل عامين تقريبًا.