في الأول من سبتمبر/ أيلول 2024، وقع الصندوق القومي اليهودي في “إسرائيل” اتفاقية مع الصندوق القومي اليهودي في الولايات المتحدة، بهدف إقامة مشروع مشترك لترميم وتطوير البلدات الجنوبية وإعادة توطين المستوطنين فيها، حيث من المتوقع أن يقدّم كل منهما مبلغًا قوامه 25 مليون دولار لتطوير واستصلاح الأراضي وإعادة إحياء فرص العمل وتأهيل البلدات، بما يضمن استقدام المزيد من المهاجرين اليهود إليها.
هذا المشروع يلقي الضوء على الدور القوي الذي يضطلع به الصندوق القومي اليهودي في دعم الاستيطان واستمرار الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين، وهو الدور الذي كان قد بدأه منذ أكثر من 123 عامًا، حتى قبل أن تعلن “إسرائيل” سيطرتها على أرض فلسطين.
هذه المرة نستقرأ معًا في ملف “استيطان مدني” النشأة المبطنة لدعائم المشروع الاستعماري في فلسطين، ونبحث في أهداف تأسيس هذه المؤسسة أو تلك، وأدوارها المفصلية قبل النكبة وبعدها، خدمة للاستيطان وتوسعة لقواعده، وكيف تحورت لاحقًا إلى مؤسسات حكومية ما زالت تمارس أدوارها الاستعمارية حتى اليوم.
من بين مركّبات هذه المنظومة كان الصندوق القومي اليهودي، الذي بدأ بحصّالة زرقاء جابت العالم وموّلت الاستيطان وشراء الأراضي ونقل المستوطنين وتوظيفهم وتعليمهم، حتى شراء السياسيين والمؤثرين وتغيير وجه الأرض والمكان بما يناسبهم.
الحصالة الزرقاء: تبرُّع لصالح شراء وطن!
تعود نشأة فكرة الصندوق القومي اليهودي إلى عالِم الرياضيات الروسي اليهودي تسفي هرمان شابيرا، الذي كان شديد الحماس لاستيطان فلسطين، ما دفعه إلى وضع عدة اقتراحات من بينها تأسيس صندوق قومي لليهود يكون مشجّعًا للتبرع بما يخدم هدف الحصول على الأرض في فلسطين، حيث أفصح عن فكرته عام 1884 مستبقًا بذلك المؤتمر الصهيوني الأول.
عرض شابيرا فكرته في المؤتمر الأول في بازل عام 1897، ورغم سقوط الفكرة من اهتمام أقطاب الحركة الصهيونية، إلا أن شابيرا كان حريصًا على طرحها في المؤتمر الصهيوني الثاني، مدفوعًا بحماسه الشديد، حيث قدّم لها نموذجًا ماديًا عبارة عن علبة حديدية زرقاء “حصالة كبيرة” بارتفاع 24 سنتيمترًا وعرض 9 سنتيمترات، رُسمت على أطرافها خريطة شاسعة لشرق المتوسط تدعو إلى التبرع لتأسيس وطن قومي لليهود.
بعد 4 أعوام على موته، وجدت الحصالة طريقها إلى الفكر الصهيوني، وتمّ إقرارها في المؤتمر الصهيوني الخامس عام 1901، مع جميع اقتراحات شابيرا وملاحظاته التي اُعتبرت الخطوط العامة لعمل الصندوق القومي اليهودي، الذي عُرف بـ”كيرين كييميت لإسرائيل”، وهو اختصار لقول يهودي مأثور يعني: “الثمار التي نأكلها اليوم أساس وجودهم مستقبلًا”.
بهذا الإقرار بدأ الصندوق أعماله من فيينا، برئاسة يونا كرامانتسيكي اليهودي الروسي، حيث أنشأ مقره الأول، ثم انتقل إلى مدينة كولن الألمانية، ولم يلبث حتى انطلقت فروعه الأخرى حول العالم، وبعد 6 سنوات من تأسيس الصندوق القومي تمّ تسجيله كمؤسسة خيرية مدرجة تحت النظام البريطاني هدفها “القضاء على الفقر بين اليهود”، ثم نقل مقره إلى مدينة هاغ في بولندا إبّان الحرب العالمية الأولى.
خلال الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى وبداية الحرب العالمية الثانية، كان للحصالة الزرقاء دور كبير في التعبئة لصالح المشروع الصهيوني، بدءًا من وجودها كرمز من رموز الوحدة اليهودية والخلاص في الهجرة إلى “وطنهم القومي” على أرض فلسطين، وارتباطها بالتراث الديني اليهودي وحفاوته بصندوق الصدقات، وحتى انتشارها في جميع التجمعات اليهودية الصهيونية في أوروبا والولايات المتحدة.
ونتيجة ارتفاع حمى “القومية اليهودية”، تجنّد المتطوعون الحاملون للحصالة الزرقاء لدعوة يهود العالم للتبرع والتنافس في دعم الاستيطان وزيادة وتيرته، لتصبح الحصالة رمزًا مرتبطًا بالحركة الصهيونية وآلية تواصل بين “الوطن القومي” و”أبنائه” حول العالم، وخلال مدة قصيرة أصبحت فكرة الصندوق شائعة وعالمية، لا سيما أن أكثر من مليون حصالة زرقاء كانت منتشرة في أوروبا قبيل فترة الحرب العالمية الثانية، لتصبّ جميع التبرعات في صالح الصندوق القومي ومشروعه، الذي وضع “القضاء على الفقر” ستارًا لحقيقته.
كما أُضيفت للحصالة الزرقاء طوابع زرقاء حملت رمز الصندوق، مصوّرة أفكارًا من التراث اليهودي، وأرض اللبن والعسل، ونخيل الأرض المقدسة، بما يتلاءم مع الحالة الاستيطانية الصهيونية، وذلك مع الحفاظ على لونها الأزرق السائد والنجمة السداسية، فقد اشتملت نسخها على رسوم لمزارعين وبنائين يهود، وخرائط للمستوطنات الأولى على أرض فلسطين، وصورًا لحاخامات مؤسسين مثل الحاخام مائير بعل هانس، وشعارات متنوعة تربط بين التبرع والاستيطان في فلسطين، مثل: “طريقك المباشر نحو أرض إسرائيل” و”إحياء واستعادة أرض إسرائيل”.
الصندوق ينتقل إلى القدس
بحلول عام 1919 كانت القفزة الأكبر في تاريخ الصندوق على صعيدَين؛ الأول تعيين أبراهام أوسيشكين اليهودي الروسي وعضو اللجنة التنفيذية في المؤتمر الصهيوني العالمي، ومؤسس حركة “القادمين إلى أرض إسرائيل”، عام 1882 رئيسًا للصندوق مع ما يحمله من أفكار مغرقة في التطرف للعرقية اليهودية، والثاني انتقال مقره الرئيسي إلى مدينة القدس، مستفيدًا من فرض الانتداب البريطاني على فلسطين.
مع انتقال الصندوق إلى القدس، اتخذت أعماله طابعًا أكثر ضراوة لا سيما مع التنافس الشديد بين أوسيشكين وحاكم القدس الإنجليزي السير رونالد ستورز، حيث استبق إنشاء الجامعة العبرية بالإعلان عن المشروع لقطع الطريق أمام حاكم القدس الذي أراد بناء جامعة إنجليزية بديلًا عنها، كما تمكّن أوسيشكين من إقناع المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل بالاعتراف باللغة العبرية لغة رسمية للشعب الإسرائيلي “في وطنه” إلى جانب اللغة الإنجليزية واللغة العربية.
في غضون ذلك، تسارعت عملية شراء الأراضي وتأهيلها للاستيطان، وتوسعت المستوطنات القائمة، حيث اشترى الصندوق خلال 10 سنوات فقط من تاريخ دخوله فلسطين أراضي قرب القدس ومحيطها، وجميع أراضي مرج ابن عامر، وأراضي في خليج حيفا وبيسان، واستطاع أوسيشكين رفع مدخولات الصندوق من 70 ألف ليرة فلسطينية إلى 600 ألف ليرة.
فيما تطور الاتجاه الزراعي بتجفيف المستنقعات وبناء الآبار والسدود واستصلاح مساحات أكبر لصالح المستوطنات في النقب والمناطق الصحراوية، ونظمت الزيارات لكبار الأثرياء اليهود، إضافة إلى أفواج المتحمسين للتعرُّف على “الأرض الموعودة”، وتم تنظيم مؤتمرات سنوية على الأراضي المسلوبة للإشارة إلى الإنجازات المتدرجة للصندوق.
في ضوء هذه “المنجزات”، برز الصندوق القومي بوصفه الذراع التنفيذية للصهيونية، واعتبر دوره في ضمان التنمية المستدامة لدولة “الشعب اليهودي” رائدًا ومبتكرًا، لا سيما أن حيازته لأي أملاك أو أراضٍ يتم تعريفها باعتبارها ملكًا للشعب اليهودي، لا يمكن بيعها أو انتقال ملكيتها إلى أي جهة أخرى.
كما أسّس شبكة علاقات متينة مع يهود العالم تضمن دعمه السريع عند الحاجة، مكنته من رفع مداخيل الصندوق القومي بفعل تبرعات اليهود وريع العقارات المؤجرة واستثماره في طبقة الاقتصاديين والمتعلمين وذوي النفوذ في العالم الغربي، واستطاع كذلك خلال عامين من افتتاح مقره في القدس افتتاح معهد التخنيون للتكنولوجيا بدعم مباشر من تبرعات الصندوق القومي الألماني اليهودي، ليكون المؤسسة الوحيدة للتعليم العالي في فلسطين حينها، ويقوم بالتدريس باللغتين الألمانية والعبرية.
بعدها بعام واحد افتتح الصندوق القومي الجامعة العبرية في القدس، تحقيقًا لحلم مؤسسه شابيرا في إنشاء جامعة يهودية في قلب مدينة القدس تشرف على ملامح التراث “اليهودي” هناك، ومع دوره السابق في تأسيس أكاديمية بتسلئيل للفنون والتصميم، وتأسيسه للمدرسة الزراعية كريات سيفر، برز الصندوق القومي في دعم المنظمات التعليمية ومنح الابتعاث والتدريس.
واستخدم نفوذه للربط بين المراكز البحثية داخل فلسطين والعلماء اليهود حول العالم لتحقيق مكانة علمية أقوى للمراكز الصهيونية، فتمّت استمالة كل من ألبرت أينشتاين، حاييم نحمان بياليك، آحاد هعام، ناحوم سوكولوف، يهودا ليب ماجنس وغيرهم من العلماء والأدباء اليهود ليكونوا أعضاء في مجلس الأمناء، وممثلين لهذه المراكز في المحافل العلمية الغربية.
أما على صعيد الاستيلاء على الأرض، فحتى عام 1947 كان الصندوق القومي قد استطاع امتلاك أكثر من 933 ألف دونم من مساحة فلسطين، وهو ما يقدَّر بـ 6.6% من مساحتها الكلية، كما تطورت أذرعه لتشمل بناء كيبوتسات ذات الطابع المختلط (عسكري-زراعي)، أو ما عُرف بقرى الناحال، وهي قرى زراعية ينفذ فيها المجندون في فرقة الناحال خدمتهم في إطار من العمل المدني الذي يشمل العمل في التشجير وجني المحاصيل والبناء والخدمات المكتبية لمدة 12 شهرًا، وبلغ عددها أكثر من 100 كيبوتس ومعظمها على المناطق الحدودية.
كما استبق الصندوق أي قرارات دولية أو نتائج لحرب مفترضة مع العرب بشراء وتملك أراضٍ في مواقع استراتيجية وحيوية من جغرافيا فلسطين، بدءًا من توقيع عقود تملك وزراعة وعمل في أراضي مرج ابن عامر، وشراء مساحات شاسعة من أراضي النقب والعمل على استصلاحها بالتعاون مع كل من شركة المياه ميكورت وشركة الكهرباء.
تحت النكبة نكبات أخرى
عشية النكبة كان الموظفون في الصندوق القومي اليهودي منشغلين بالتحضير لأحد أبرز مؤتمراتهم، والذي سيؤرَّخ لاحقًا باعتباره جلسة الإعلان عن قيام “الدولة”، والتي أقيمت على أراضي وممتلكات الصندوق، ورغم أهمية الحدث إلا أنه على المستوى الداخلي كان يعني تغييرًا إضافيًا في عمله، فالصندوق الذي بدأ تحت ستار “القضاء على الفقر بين اليهود”، ثم زاحم المستعمرين الإنجليز على استعمارهم والسكان الفلسطينيين على أراضيهم وبلداتهم، أمامه مهمتان في إطار تبعات “إعلان الدولة”: الأولى هي “تطهير الدولة” والثانية “توسيعها”.
وفقًا للمهمة الأولى انطلق الصندوق القومي في مهمة لم تتوقف حتى اليوم تهدف إلى محو الوجود العربي الفلسطيني عن المناطق المحتلة، فسيطر على المناطق والبلدات التي هجّر أهلها منها وضمّها إلى أملاكه ليسيطر على 13% من مساحة فلسطين المحتلة، ويحصر الاستفادة منها في “العرقية اليهودية”، مستبعدًا بكل عنصرية البقية الباقية من العرب والفلسطينيين.
ثم أمعن في إكمال المخطط العسكري بحجب المشهد العام للنكبة وما تركته من آثار تهجير ودمار، بدءًا بهدم القرى والبلدات وتشجيرها، وبناء مسارات ثقافية وسياحية فوقها، أو تحويلها إلى مزارات يهودية بعد موجة من استحضار رفات “المعلمين الصهاينة الأوائل” ودفنهم في الأرض الفلسطينية المسلوبة.
يصف أوري ديفيس في كتابه “مؤسسة خيرية متواطئة في التطهير العرقي”، الصندوق القومي باعتباره شكلًا من أشكال التطهير العرقي، تقوم به دولة الاحتلال في تخضير مناطق واسعة من الأراضي الفلسطينية بعد تجريفها، ثم تطلق عليها أسماء مرتبطة بالصندوق القومي اليهودي في البلد المتبرع، فبعد تجريف الصندوق لبلدات عمواس وبيت نوبا ويالو، أقام عليها متنزهًا بتمويل من الصندوق القومي اليهودي في كندا، وأطلق عليه اسم “كندا بارك”، أما في بلدة لوبيا فالمشروع ممول من الصندوق القومي اليهودي في جنوب أفريقيا، ولذا أُطلق عليه “غابة جنوب أفريقيا”.
وفيما استطاع الكاتب تتبُّع تاريخ التطهير العرقي لكل من عمواس ويالو وبيت نوبا ودير أيوب وصرعة وبيت سوسي وزكريا وعجور والشجرة واجزم وطرعان ولوبيا، إلا أنه يؤكد أنها مجرد أمثلة على ما يمارسه الصندوق من تطهير عرقي تحت مسميات التنمية المستدامة والغابات التنموية صفرية الكربون. وهي ما يشير إليها خالد مصطفى باعتبارها “غابات استعمارية” تهدف إلى تغطية آثار التطهير العرقي للفلسطينيين، وحجب الدمار مقابل تأسيس تاريخ بديل له، وإضفاء الطبيعية الأوروبية على المكان الشرقي، لتخفيف شعور المستعمرين اليهود بالاغتراب.
يؤكد ذلك مدير دائرة الاستيطان عكيفا أتينجر (1924-1932) الذي اعتبر أن النهاية المثالية لشكل الأرض يجب أن تتواءم مع النمط البيئي الأوروبي الذي جاء منه المستوطنون، ولهذا كان التشجير بالصنوبريات أولوية على أشجار المكان ونباتاته، من السنديان والزعرور والبطم والخروب والرمان والزيتون، لا سيما أن الهدف هو استنساخ بيئة مشابهة للبيئة الأم للمستعمر، تمنحه المزيد من مشاعر السيطرة والتحكم على المكان.
بُعيد النكبة وخلال عدة أعوام، تمّت إعادة هيكلة الصندوق وفقًا لـ 3 مراحل، الأولى عام 1953 فيما عُرف بقانون “كيرين كاييمت”، والذي منح الصندوق صلاحيات سلطة عامة، وامتيازات مالية هائلة، وقدرة على التخطيط والبناء والتملك، وأولوية في التخفيضات من الضرائب، كما تمّ تعريف الأراضي التي يملكها باسم “أراضي الدولة أو الملك العام”.
بعدها بعام وفي إطار حوكمة جميع المؤسسات وإخضاعها لسلطة الدولة، أقرَّ الكنيست الإسرائيلي بندًا آخر حصر نطاق عمل الصندوق في الأراضي المحتلة فقط، أي أراضٍ تتبع حاليًا ومستقبلًا لدولة “إسرائيل”، كما جرى تعديل مهام الصندوق وتوسيعها من شراء الأراضي وتشجيرها إلى توفير فرص العمل والخدمات الصحية للمهاجرين الجدد.
ثم في عام 1961، وخلال سعي الاحتلال لرسم صورة ديمقراطية شفافة لنفسه، وقعت الحكومة اتفاقية تنظّم علاقة الصندوق بها، لا سيما مع تشعُّب أدواره وسلطاته، كما حددت الاتفاقية مهامه ومصادر تمويله بتبرعات يهود العالم وريع العقارات المؤجرة له، دون أي دعم حكومي.
وفيما كان الصندوق يخضع لعمليات تنظيم متواصلة فترة 1948-1961، إلا أنه لم يتوقف عن تنفيذ مشاريع بيئية ضخمة كانت كفيلة بتغيير جغرافيا فلسطين وما حولها، بدءًا من مشروع تجفيف بحيرة الحولة ونقل المياه إلى صحراء النقب لتشجيرها، وليس نهايةً برفع عمليات التشجير بما يشكّل حدودًا بيئية ونباتية بين الاحتلال ولبنان في الجليل الأعلى، وفصل الجزء الشرقي للقدس عن شقها الغربي بمسارات ثقافية وتشجير واستزراع مكثف.
كما انطلقت عملية زراعة غابة يتير شمال النقب، وتحت مسمى “مشاريع التطوير” أكمل الصندوق عمليات تهجير الفلسطينيين داخليًا، حيث استخدم حجّة المساحات البيئة والزراعية لإقامة المتنزهات وغابات “الكيرن كييمت” التي حملت أسماء غربية بنظام بيئي غربي، لتشكّل نمطًا آخر من الحواجز والحدود بين المستوطنات والمناطق العربية، وبما يمنح المستوطنات ميزة ترفيهية حصرية، والقدرة على التوسع على حساب الوجود العربي.
لم يقتصر فعل الصندوق عند حدود الزراعة والتشجير بل شجّع سن قانون “العنزة السوداء” عام 1950، الذي اعتبر وجود الماعز مساويًا لوجود العرب على الأرض، مستندًا إلى الحجة التوراتية في المشناه: “لا تربوا بهيمة نحيفة في أرض إسرائيل”، وجاءت القاصمة بانقضاض قطيع من الماعز على أغراس شجيرات الصنوبر التي غرسها الصندوق في غابة “كندا”.
وهو ما اعتبر اعتداءً على المظهر الأوروبي ومساعي تثبيت الأرض وحمايتها، ناهيك عن صعوبة حصر الماعز في مكان محدد، فخرج القانون: “وجود قطعان الماعز المتنقلة هو حجر عثرة كبير في طريق مشروع غرس الأشجار، والذي يجري تنفيذه هذه الأيام على نطاق واسع. وبموجب قانون الغابات لا يسمح بالرعي إلا بترخيص، وهذا القانون يمنع تربية الماعز حتى بترخيص”.
كان الصندوق قد استبق قانون “العنزة السوداء” باستيراد ماعز أبيض سويسري من فصيلة سانين نهاية عام 1948، حيث تم الترويج لها باعتبارها مدرّة للحليب، سهلة التربية، واستخدمت لذلك ألفاظ من قبيل “مهذبة جميلة وغير مؤذية”، وتم إنشاء روابط لتعميق محبتها مثل “رابطة عزيزة”.
وبينما كان الصندوق القومي ووزارة الزراعة يجمعان أكثر من 42 ألف رأس من العنز الأسود لإبادته، بوصفها “شمطاء ومارقة وسيئة الخلق وغير منضبطة تأكل الأخضر واليابس، وعدوة الطبيعة ومضرة للبيئة، ورعيها رعي جائر ومنفلت”، كانت روابط عزيزة تزداد انتشارًا حتى وصلت عام 1960 إلى 32 ألف رأس.
المنظمة الخضراء تبتلع الـ 1967
السعي المحموم لتشجير المكان دفع الصندوق القومي اليهودي لاعتبار نفسه منظمة خضراء، مسوّقًا مشاريعه باعتباره أول منظمة خضراء في العالم، تزرع الأشجار لمحاربة التغيير المناخي، وتحول الصحاري إلى غابات، والمستنقعات إلى سهول، ويستبدل العنزة الشمطاء بالعنزة الشقراء، مضفيًا على المكان سحر “الفردوس الأوروبي”.
لا سيما أنه استطاع خلال 100 عام من نشأته (1901-2001) زرع 250 مليون شجرة (جميعها صنوبريات)، وبناء أكثر من 200 سد وخزان، وسيطر على أكثر من 250 ألف فدان، أنشأ فيها أكثر من 1000 متنزه. بينما في الواقع إن جميع ممارسته لم تكن إلا اقتلاعًا للشجر والحيوان والإنسان الفلسطيني من أرضه، بدءًا من أول غابة في بن شيمن الواقعة على أرض بلدة بن خولدا، وحتى مشاريع استيطانه الحالية في الضفة الغربية، والتي أطلقها بعد حرب حزيران 1967.
بعد الحرب اتسعت أدوار الصندوق مرة أخرى، لكن بشكل مبطن لا يؤثر على صورته “الديمقراطية العالمية”، فانطلقت سيطرته على عملية الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة بتدرُّج بطيء، حيث سيطر من خلال فرعه في الضفة الغربية المسمّى هيمنوتا على أكثر من 65 ألف دونم في الضفة الغربية فترة 1967-2019.
توازى ذلك مع إنشاء مستوطنات على طول الخط الحدودي مع الأردن تمتد من البحر الميت حتى البحر الأحمر، إضافة إلى تسكين أكثر من مليون مستوطن روسي وأثيوبي في سهل الحولة بعد تجفيفها مطلع التسعينيات، وتشغيل عدد كبير منهم في مشاريع استيطان أراضي الضفة الغربية.
كما ساهم في مشاريع الاستيطان في الضفة الغربية وتمويلها بشكل كبير، حيث دفع ما يقارب 88 مليون شيكل للاستيطان في الضفة، وتكفّل باتخاذ الإجراءات “القانونية” لإجبار الفلسطينيين على إخلاء بيوتهم.
أما فرعه في القدس والمسمّى “منظمة إلعاد” (جمعية مدينة داوود)، فقد تولى مسؤولية الاستيلاء على البيوت والعقارات الفلسطينية في أحياء القدس الشرقية المختلفة وخاصة وادي حلوة وسلوان، وتوطين اليهود فيها في إطار ما يسمّى مشروع “مدينة داود” في قلب القدس العربية، كما برز كواجهة رسمية للصندوق يخوض بدلًا عنه المعارك القضائية في المحاكم الإسرائيلية، ما أسفر حتى الآن عن استيلاء هذه المنظمة الاستيطانية على أملاك وعقارات عديدة في سلوان، تحت مبررات “إعادة واستعادة ممتلكات كانت تابعة ليهود ولمنظمات يهودية قبل العام 1948″ و”تطبيق قانون أملاك الغائبين”.
وخلال الـ 10 سنوات الأخيرة اضطلع الصندوق بمهمة “إعادة توطين دولة إسرائيل 2040”، حيث بدأ بترحيل الفلسطينيين من صحراء النقب مقابل إسكان مليون مستوطن مكانهم، وإسكان نصف مليون مستوطن آخر في منطقة الجليل الأعلى.
وتهدف الخطة لتحقيق انتعاشة في الشمال والجنوب، من خلال التعاون مع الحكومة والجيش ومراكز أكاديمية وبحثية ونطاقات تجارية لإنشاء أكثر من 750 شركة، واستقطاب 150 ألف يهودي للعمل إلى “البلاد”.
ويتواءم المشروع مع مخططات إقليمية تشمل النقب، حيث يسعى المشروع لتحويلها إلى محطة نقل إقليمية قبل ميناء حيفا وبعد موانئ ومحطات عربية مجاورة، كما وضع المشروع هدفًا له وهو تحويلها لعاصمة “صناعة وإنتاج السلاح” خلال الأعوام القادمة، ثم في مطلع عام 2021 حدث تحول في سياساته إثر خلافات مع حركة الإصلاح اليهودي الصهيونية في الولايات المتحدة، التي عارضت توجّهه الجديد الموالي للاستيطان على أراضي الفلسطينيين.
لكن قادة الصندوق تجاهلوا مطالب الحركة الأمريكية، وأعلنوا تخصيص 1.2 مليار دولار كميزانية أولية لشراء أراضٍ فلسطينية في الضفة، بينما انقلبت كل من الحكومة والصندوق على قانون 1954 الذي يحدد نطاق عمل الصندوق بمناطق السيادة الإسرائيلية، ليتمّ منحه صلاحية العمل والاستيطان في الضفة.
الفساد تحت الطاولة
رغم الدور الكبير للصندوق في دعم الاستيطان الصهيوني على أرض فلسطين، إلا أن حيازته الكبيرة للأراضي والأموال لم تنجُ من فضائح فساد وإساءة استخدام وشبهات مالية وتجارية، لا سيما أن الصناديق الدولية له تتمتع بميزانيات ضخمة، ويمكن اعتبار الصندوق القومي في الولايات المتحدة مثالًا لذلك.
يدير الصندوق أصولًا وممتلكات كبيرة، ويجمع تبرعات سنوية تتجاوز في الوضع الطبيعي 100 مليون دولار، فيما تبلغ القيمة الأساسية لأصوله أكثر من 2.5 مليار دولار، وهو ما دفع جهات كثيرة لتسليط الضوء على أداء الصندوق المركزي وتوجيه اتهامات له بهدر المال العام وشراء الأصوات، والخصخصة غير القانونية لأراضي وممتلكات “الدولة” وغيرها.
وهو ما استدعى حملة مطالبة لتفكيك الصندوق، ونقل مهامه وممتلكاته إلى إدارات الدولة، ولتجنُّب ذلك أطلق الصندوق حملة في النصف الثاني من عام 2014 ضد إدراجه ضمن الهيئات التي يراجعها مراقب الدولة، شملت تخصيص ملايين الشواكل للأحزاب من الليكود والعمل وحتى شاس ويسرائيل بيتينو وميرتس، حيث تلقى الليكود 1.3 مليون شيكل، بينما حصلت أحزاب أخرى على ما يقارب 350 ألف شيكل.
أما فضائح الفساد على المستوى الدولي فجاءت بعد السابع من أكتوبر، حين كشفت أدوار الصندوق القومي اليهودي حول العالم (الأمريكي، البريطاني، الأسترالي، الألماني، الكندي) في تقديم دعم مالي لبرلمانيين ومؤثرين وسياسيين حول العالم، وتمويل زيارات رسمية لهم إلى “إسرائيل”.
على المستوى البريطاني قُدّر عدد النواب البريطانيين الذين تلقوا دعمًا ماليًا بأكثر من ثلث نواب حزب المحافظين البريطاني، أي ما يصل إلى 126 نائبًا حصلوا على أكثر من 430 ألف جنيه إسترليني كتبرعات وضيافة، حيث موّلت هذه الجماعات زيارات للنواب المحافظين إلى “إسرائيل” وفي 187 مناسبة تحت مسمّى “مهام تضامن”.
أما آخر فضيحة فهي إخطار وكالة الإيرادات الكندية الصندوق القومي اليهودي الكندي نهاية يوليو/ تموز المنصرم، بأنها ستقوم بإلغاء الوضع الخيري للمنظمة بسبب دعمها للجيش الإسرائيلي وانتهاكها لقواعد الضرائب الكندية، باستخدامها التبرعات لبناء البنية التحتية لجيش أجنبي.
تضمّن الإخطار روابط مع الصندوق القومي اليهودي لـ”إسرائيل” الذي انكشف تورطه في الاستيلاء والاستيطان على أراضٍ في الضفة الغربية، وحقيقة علاقته مع كل من شركة هيمنوتا ومنظمة إلعاد لإخفاء الطبيعة الحقيقية للمعاملات التي هدفت إلى حرمان الفلسطينيين من أراضيهم.
بالمحصلة..
رغم ما أسهم فيه السابع من أكتوبر من انكشاف حادّ لطبيعة دور الصندوق القومي اليهودي على المستوى العالمي، بينما كان التركيز فقط على أدواره الاستيطانية على الأرض، إلا أنه من المستبعد أن تؤثر أي فضيحة من أي نوع على مسار عمل الصندوق أو خططه.
لكن المثير واللافت للتأمل، هو أن كل مكون من مكونات الحركة الصهيونية ينطلق من فتات ضئيل “كقطعة نقدية مثلًا”، ثم يتوسع بفعل الدعاية والخطاب المركز ووضوح الرؤية والهدف، ليغدو ميزانيات عظمى وأُسُسًا اقتصادية هائلة ودولة تحت إطار الدولة.
يدفعنا ذلك ولا شكّ أيضًا إلى الفخر بالمقاومة والصمود الفلسطيني وتثمينه قبل النكبة وحتى اليوم، هذه المقاومة التي وقفت في وجه منظومة صهيونية عابرة للوعي والحدود والقدرات متعددة الأوجه والأذرع، سحقت حينًا وأوجعت أحيانًا كثيرة، وكل مرة عادت لتبني نفسها ولتقاتل عدوها من حيث بدأ إلى حيث وصل دون كلل أو يأس أو استسلام.