قبل عامٍ من الآن، كتب “جمال خاشقجي” مقالًا في صحيفة “واشنطن بوست” عنونه “المملكة لم تكن بهذا القمع.. الآن لا تُحتمل“، متحدثًا فيه عن حملات المخاوف والتخويف والتهديد التي تتبعها المملكة منذ أنْ تسلّم “ابن سلمان” السلطة. فيما انتقد خاشقجي كلّ حملات الاعتقال والتهديد التي طالت عددًا كبيرًا من الرموز من علماء وأكاديميين وصحفيين وغيرهم، متخوّفًا في الوقت نفسه من إمكانية استهدافه أو اعتقاله في حال عاد إلى “أرض الوطن”.
السعودية ليست الدولة الأولى ولا الوحيدة في التاريخ ممّن قررت اتّباع سياسات الخوف وتحويله من عاطفة أساسية ومركزية في حياة الأفراد إلى وسيلة للتحكّم وفرض السيطرة عليهم. ومنذ آلاف السنين، اتّبع الأفراد العديد من أساليب الترهيب والتخويف لفرض سيطرتهم الاجتماعية والسياسية والدينية. وما حدث مع “خاشقجي” أخيرًا ليس سوى واحدٍ من تلك الأساليب التي عملت بنجاحٍ منقطع النظير على بثّ الخوف أو إعادة إحيائه في المجتمع ككلّ ولا سيّما في نفوس المعارضين الآخرين الذين ينتهجون نهجًا مماثلًا لذلك الذي كان يتبعه خاشقجي بطريقةٍ أو بأخرى.
لماذا الخوف/التخويف؟
قد يكون فهمنا لما يحدث مع الناس عندما يشعرون بالخوف من الناحية الفسيولوجية هو نقطة البداية لفهمنا الأسباب الكامنة وراء استخدام الحكومات وأصحاب القوى لأساليب التخويف والتهديد في تعاملها مع شعوبها. فجميع الحكومات والسُلطات على مرّ التاريخ فهمت الحقيقة الأساسية للطبيعة البشرية الخائفة، فسعت لاستغلالها وزراعتها بين الأفراد لضمان الخضوع الشعبيّ والامتثال للإملاءات الرسمية. وإنْ كان البعض يعتقد أنّ الحكومات تعتمد بشكلٍ أو بآخر على الرأي العام وموافقته، فهناك أيضًا من يرون أنّ حجر الأساس لأيّ حكومةٍ هو” الخوف”.
فتشكيلاتنا الفسيولوجية والبيولوجية المتطورة تخبرنا أنّ خوفنا من كل أنواع التهديدات الفعلية والمحتملة، أو حتى تلك الموجودة فقط في خيالنا، هو قبل كلّ شيء أسلوب لحماية سلامتنا وضمان بقائنا واستمرارنا. نخاف فنردّ بطريقةٍ ما، إمّا عن طريق المواجهة أو الهروب و أخذ الحيطة والاستعداد اللازمين لدرء الخطر أو التهديد.
حين يكون التخويف والتهديد هو الأسلوب الذي تتعامل به السلطة مع جيشها وشعبها، يفقد الأفراد إزاءه أيّ قدرةٍ لهم على التفكير في حياتهم اليومية
فيسيولوجيًا، ثمّة جزءٌ في دماغك يُدعى باسم “الدماغ الزاحف” تنطوي مهمّته الأساسية على إبقائك على قيد الحياة في حالات شعورك بالخوف. ويعتقد علماء التطوّر أنه في الأساس الجزء الأصليّ من الدماغ الذي أُضيفت إليه أجزاء أخرى لاحقًا نتيجة التطوّر مثل الأجزاء المسؤولة عن التعامل مع العواطف وأخرى عن التفكير واتخاذ القرارات.
تخبرنا نظرية التطوّر تلك أنه عندما تتعرّض لحالةٍ تختبر فيها عاطفة الخوف أو التوتّر، ينشط دماغكَ الزاحف فيما تصبح بقية الأجزاء الأخرى في حالةٍ خاملة، فوظيفة هذا الجزء هو دعمك إمّا للكرّ أو الفرّ. ففي مثل هذه الحالات، كلّ ما لديك من الخيارات اثنان فقط: إمّا أنْ تواجه أو تهرب، وأيّ فعلٍ أو سلوكٍ قد تأتي به يعتمد على أحدهما فقط.
نتيجةً لذلك، تتم إعادة توجيه دمك إلى الأجزاء المطلوبة للكرّ أو الفرّ/المواجهة أو الهروب كالقلب والرئتين والعضلات على سبيل المثال. أمّا بقية أجزاء الدماغ المسؤولة عن العواطف الأخرى كالغضب والحزن أو المسؤولة عن الأفكار والرغبات واتخاذ القرارات، فلا تستقبل ما يكفيها من الدم اللازم لعملها، ما يعني أنه لا يوجد لديك أي قابلية للتفكير العقلانيّ أو الإبداعي أو قابلية ليست بذي قدْر. وفي هذه الحالة، لا يعود دماغك قادرًا على التفكير في أيّ حلولٍ بديلة للوضع الذي أنتَ فيه؛ إمّا أن تواجه أو أنْ تهرب.
هذا ينسجم كليًا مع الفكرة التي تقوم عليها الجيوش والجَماعات المسلحة: اتّبع الأوامر دون سؤالٍ أو تفكير. فحين يكون التخويف والتهديد هو الأسلوب الذي تتعامل به السلطة مع جيشها وشعبها، يفقد الأفراد إزاءه أيّ قدرةٍ لهم على التفكير في حياتهم اليومية. لذلك، تسعى جميع السُلطات والقوى الحاكمة، من خلال فهمها لمبدأ الخوف وكيفية عمله، إلى جعل الخوف والشعور بالخطر والتوتّر والقلق اليوميّ جزءًا أساسيًا من حياة أفرادها وشعوبها.
من خلال خلق حالة من الطوارئ الدائم، يصرف الخوف تلك الشعوب عن الحقائق الأخرى التي تستطيع من خلالها الوصول إلى قرارات واعية، وغالبًا ما تجد نفسها إلى تفضيل ردود الفعل غير المباشرة أو تلك التي تؤدي إلى حلٍّ قصير المدى يعالج بعضًا من القضايا البسيطة
الخوف حين يعطّل الغضب والفِعل والتفكير
يبدو أنّ قاعدة ميكافيللي القائلة “من الأفضل أن يهابك الناس على أن يحبوك”، وإن كان قائلها على غير دراية بفسيولوجيا وبيولوجيا الجسم، قد أصبحت تجسيدًا واضحًا وصريحًا للطريقة التي يعمل بها الخوف بين الأفراد والشعوب. فقد أدرك جميع من يتطلّع للتلاعب بالآخرين والتحكّم بهم والسيطرة عليهم قوّة الخوف وأثره البالغ والكبير المتمثّل بقابليته لإيقاف أو إخماد القدرات العقلية والإدراكية للفرد ما يجعله قابلًا للتلاعب والخضوع، وهذا هو السبب في سهولة زرع الخوف بين الناس طوال الوقت.
الخوف كان حاضرًا بقوّة منذ المراحل الأولى لتأسيس المملكة التي عملت على خلق نمط حياةٍ يوميّ لمواطنيها محكومًا بالخوف والتوتر الدائمين
وفقًا لما تخبرنا به الفيسيلوجيا إذن، فالخوف يعطّل الكثير من العواطف الأخرى كالغضب مثلًا. فتجد الشعوب غاضبة حيال حكومتها أو رئيسها أو ملكها، لكنها في الوقت نفسه خائفة منه. ومن خلال خلق حالة من الطوارئ الدائم، يصرف الخوف تلك الشعوب عن الحقائق الأخرى التي تستطيع من خلالها الوصول إلى قرارات واعية، وغالبًا ما تجد نفسها إلى تفضيل ردود الفعل غير المباشرة أو تلك التي تؤدي إلى حلٍّ قصير المدى يعالج بعضًا من القضايا البسيطة فقط.
ولو نظرنا إلى الواقع السعودي عن كثب، لوجدنا أنّ الخوف كان حاضرًا بقوّة منذ المراحل الأولى لتأسيس المملكة التي عملت على خلق نمط حياةٍ يوميّ لمواطنيها محكومًا بالخوف والتوتر الدائمين؛ خوف من الاستبعاد أو خوف من العزلة أو خوفٌ من الحديث والمعارضة أو خوفٌ على الحياة بأكملها.
وبالرجوع إلى الفرضية التي تخبرنا أنّ الخوف يعطّل بقية العواطف والأفعال، نرى أنّ الصمت والسكوت من جهة أو الهروب والميل إلى الابتعاد خارجًا من جهةٍ أخرى، هما الخياران الوحيدان اللذان يمكن لأيّ مواطنٍ اتّباعهما. جمال خاشقجي نفسه آثر الابتعاد خارج المملكة بعدما أدرك أنّ وجوده فيها ومحاولاته للتعبير عن رأيه المعارِض قد يكلّفه حريّته أو يجعله خائفًا على حياته.
صناعة الخوف: استراتيجيات مشتركة على مرّ التاريخ
غالبًا ما تتشابه أساليب الحكومات والسلطات، الدكتاتورية منها أو الديموقراطية، في زرع الخوف وصناعته بين الجماهير والشعوب، ولو قارنا بين سياسات السعودية في هذا الجانب لوجدنا أنها تتشابه فعليًا مع الكثير من غيرها. أما عن أكثرها أهميةً فقد يكون عن طريق خلق تهديدٍ غير مفهوم من خلال صنع أعداء داخليين أو خارجيين والتسويق لخطرهم وتهديدهم الكبير. فبالنهاية، تكون الشعوب دومًا على استعدادٍ تام لتقبّل ممارسات السلطة القمعية والفاشية والتي تحدّ من حريّاتهم في حال كانت تلك السلطة ستحقّق حمايتهم وتوفّر الأمان لهم. إضافةً إلى صناعة الخونة والعملاء ممّن يعمل ضدّ مصلحة بلاده أو يتعاون مع أعدائها. فالشعب بالنهاية لا يستطيع التعاطف مع من يوصف بالخيانة والعمالة.
السعودية رأت أنها من خلال تعاملها مع خاشقجي بهذا الشكل، فهي أيضًا تٌعلم شعبها بأفراده أنّهم جميعًا تحت مظلّة تحكّمها وسيطرتها حتى لو كان الفرد منهم خارج بلاده أو لاجئًا إلى سفارتها
وكما فهمت السلطات دور الخوف في التحكّم، فقد وعيت أيضًا لدور البروباجندا والإعلام والتلفزيون في نشر ثقافة الخوف والترويج له، لذلك فهي تسعى منذ البداية للسيطرة على الصحافة ووسائل الإعلام واستهداف الصحافيين المعارضين حتى تخلق لنفسها بوقًا تستطيع من خلاله تخويف الشعوب وتهديدها.
تلجأ الحكومات أيضًا إلى أساليب القمع العديدة مثل السجن والاعتقالات المتكررة وقمع الحريات وإشعار الأفراد أنهم مراقبون دائمًا وأنّ الحكومة دائمة التجسس عليهم لأسباب تتعلق بدواعي الأمن القومي والحفاظ على سلامة المواطنين. عوضًا عن أنها أيضًا تعمل للسيطرة على المؤسسات الاجتماعية والدينية والثقافية ومؤسسات الإعلام في الدولة. ومهما كان مستوى الحريّة فيها، على الجميع أنْ يشعر بأنه مراقب وتحت سيطرة الحكومة.
ونظرًا لكون الجماهير تميل دومًا إلى عددٍ من الرموز ممّن تحيطهم بدرجةٍ من التقدير والاحترام والقداسة، تسعى الحكومات والسلطات في المقابل إلى استهداف تلك الرموز أو استبعادهم، سواء كانوا أكاديميين أو صحفيين أو رؤساء أحزاب أو رجال دين أو حتى رجال سلطةٍ أيضًا. كلّ هذا يجعل الأفراد يشعرون بشكلٍ تلقائيّ بأنهم جميعًا مهدّدون، وأنّ السُلطة لا ترى سقفًا في التعامل معهم أبدًا. لذلك قد تكون السعودية رأت أنها من خلال تعاملها مع خاشقجي بهذا الشكل، فهي أيضًا تٌعلم شعبها بأفراده أنّهم جميعًا تحت مظلّة تحكّمها وسيطرتها حتى لو كان الفرد منهم خارج بلاده أو لاجئًا إلى سفارتها.