زعم جيش الاحتلال الإسرائيلي فجر أول أيام أكتوبر/ تشرين الأول، بدأه عملية برية في جنوب لبنان ضد أهداف تابعة لحزب الله، وصفها بأنها “محدودة وموضعية ومحدّدة الهدف” وذلك مع دخول العدوان على لبنان يومه التاسع على التوالي، استهدف خلاله قواعد الحزب العسكرية ومنصات الصاروخية ومناطق ارتكازه القتالية.
وأشار المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي في بيان نشره قرابة الساعة الثانية (23:00 بتوقيت غرينتش) إلى إنّ قواته بدأت “قبل ساعات قليلة” توغلها في الأراضي اللبنانية بإسناد جوي ومدفعي، لافتا أن الفرقة 98 هي من تقود تلك العملية برفقة قوات من المظليين وكوماندوز واحتياط والمدرعات من لواء 7، والتي أجرت استعدادات مكثفة على مدار الأسابيع الأخيرة استعدادًا لهذا الهجوم.
وتأت تلك العملية – غير المؤكدة حتى الآن- امتدادًا للتصعيد الأخير على الجبهة اللبنانية بعد النجاحات التي حققها الكيان على المستوى الاستخباراتي جراء اغتيال معظم قيادات الصف الأول لحزب الله وضرب بنيته الهيكلية القيادية، والتي يبدو أنها فتحت شهية بنيامين نتنياهو وأسالت لعاب حكومته المتطرف، نحو استثمار المشهد لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، وسط ضبابية إعلامية بشأن تفاصيل هذا الهجوم ومدى دقة المعلومات التي يحتكرها الجانب الإسرائيلي.
استعدادات مكثفة تمهيدًا للعملية
قبيل البدء رسميًا في العملية البرية التي زعم الجيش الإسرائيلي شنها فجر اليوم، ونظرًا لطبيعة الجنوب اللبناني الجيوسياسية والعسكرية، والتي تختلف بشكل كبير عن المشهد في غزة، أجرت قوات الاحتلال استعدادات مكثفة، تمهيدًا للاجتياح الذي يرى مراقبون أنه سيكون معقدًا وليس مجرد نزهة كما يتوقع البعض.
قصف المواقع العسكرية..
على مدار الأسبوع الماضي استهدف جيش الاحتلال عددًا من المواقع العسكرية التابعة لحزب الله، في محاولة لشل حركته بشكل كبير قبل الدخول بريًا، حيث نفذ الليلة الماضية ضربات دقيقية على مواقع تصنيع أسلحة وبنى تحتية تابعة للحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت.
كما قصف بالمدفعية قرى وبلدات متاخمة للخط الأزرق في القطاعين الغربي والأوسط جنوبي لبنان، فيما قالت الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام إن طيران الاحتلال شنّ عدة غارات بعد منتصف ليل العملية استهدف خلالها مدينة بنت جبيل وبلدات الطيري وكونين وبليدا.
وفي ذات السياق شنت قوات الاحتلال غارة مكثفة على مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في صيدا جنوبي لبنان، وبحسب مصادر فلسطينية فإن العملية استهدفت منزل المسؤول في حركة فتح منير المقدح، لكنه لم يكن موجوداً فيه أثناء تنفيذ الغارة.
ضرب الحواضن الشعبية
الاستهداف لم يقف عند حاجز القواعد العسكرية التابعة لحزب الله كما يزعم جيش الاحتلال، بل تجاوز ذلك إلى استهداف الحواضن الشعبية في الداخل اللبناني، حيث قصف المنشأت المدنية والبنى التحتية، ليس فقط في المناطق الخاضعة لسلطة الحزب، لكن في تلك التي ينزح إليها اللبنانيون من الجنوب والبقاع.
وخلال الأيام الثلاثة الماضية شن طيران الاحتلال عمليات قصف على بعض المناطق التي يفترض أن تكون آمنة، مثل الشوف وعالية، الواقعة في جنوب محافظة جبل لبنان، وكسروان وجبيل في الشمال، بجانب بلدة عيون أرغش وطريق عيناتا الأرز، الواقعتين على المرتفعات بين قضاءي بعلبك وبشرّي.
ويستهدف الاحتلال من تلك العملية إحداث حالة من الفتنة بين أطياف الشعب اللبناني، بين المهجّرين والمستضيفين، وتفتيت الجبهة الداخلية، من خلال الوقيعة بين النازحين وأبناء المناطق الآمنة، وهو ما بدا يلوح في الأفق حيث رفض البعض استقبال النازحين وعارض أخرون تأجير منازلهم لهم، وهو ما من شأنه أن يؤجج مناخاً طائفياً ومناطقيًا في لبنان، قد ُيشعل فتيل حرب أهلية في البلاد.
جس النبض المبكر
تصاعدت التحذيرات الإقليمية والدولية خلال الأيام الماضية بشأن القيام بعملية برية في لبنان في الوقت الحالي، لما قد يترتب على ذلك من تصعيد للأجواء وتوسعة لدائرة الصراع قد تنذر بجرجرة المنطقة نحو حرب إقليمية واسعة النطاق.
وفي تلك الأجواء الملبدة بغيوم الترقب سرب الاحتلال وإعلامه الرسمي وغير الرسمي، بجانب الإعلام الأمريكي، معلومات متواترة حول العملية واستعدادات جيش الاحتلال المكثفة للقيام بها في غضون ساعات قليلة.
وهدف هذا التسريب بطبيعة الحال لجس النبض بشأن ردود الفعل الأولية حول قيام الاحتلال بتلك العملية، في محاولة لاستقراء المشهد الإقليمي والدولي قبيل التنفيذ، الأمر الذي منح نتنياهو وجنرالاته طمأنينة نسبية حول تحييد كافة المستويات التي انتقلت من مرحلة الإدانة واتخاذ الإجراءات الرادعة إلى المناشدة بأن تكون العملية محدودة وفي أضيق نطاق.
الضوء الأخضر الأمريكي
حسبما نقل موقع “بوليتيكو” الأمريكي نقلا عن مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين فإن إدارة جو بايدن أبلغت الجانب الإسرائيلي “سرًا” بدعم أمريكا لتكثيف الضغوط العسكرية ضد حزب الله، فيما وصف مسؤولون أميركيون العمليات الإسرائيلية في الداخل اللبناني بأنها “لحظة تاريخية ستعيد تشكيل الشرق الأوسط للأفضل لسنوات قادمة”.
وأشار الموقع إلى أن المستشار الرئاسي عاموس هوكشتاين ومنسق البيت الأبيض للشرق الأوسط بريت ماكغورك، أبلغا الحكومة الإسرائيلية الأسابيع الأخيرة موافقة أمريكا على استراتيجية نتنياهو واسعة النطاق لتكثيف العمليات العسكرية ضد حزب الله في الجنوب اللبناني من أجل إقناعه بالانخراط في محادثات دبلوماسية لإنهاء الصراع، هذا في الوقت الذي أكد فيه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن خلال مكالمة هاتفية مع وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، أنّ واشنطن تؤيّد “تفكيك البنى التحتية الهجومية” التابعة لحزب الله على طول الحدود اللبنانية، وذلك بعيد شنّ إسرائيل “عملية برية محدودة وموضعية” جنوبيّ لبنان.
عملية محدودة.. مزاعم مكررة
يزعم الكيان المحتل أن العملية البرية المزعومة ستكون محدودة ودقيقة للغاية، وتهدف إلى ضرب القواعد العسكرية لحزب الله، بما يضمن ألا تشكل الحدود الشمالية (جنوب لبنان) مصدر تهديد للكيان الإسرائيلي بما يسمح له بعودة المستوطنين وفرض حالة تهدئة عاجلة.
وبطبيعة الحال تفتقد تلك المزاعم لأدنى معايير التصديق لدى الجميع بلا استثناء، ولعل ما حدث في غزة ترجمة واقعية وعملية لحالة التضليل والكذب الإسرائيلي منذ بداية الحرب، حيث الزعم بعملية محدودة في رفح ومن قبلها في خان يونس وصولا إلى محور فيلادلفيا، ثم وصل الأمر إلى توسيع جغرافية تلك العمليات لتشمل كل مناطق القطاع وتحويله إلى أرض محروقة طاردة للحياة.
وكالعادة يلجأ الاحتلال لتلك المزاعم (محدودة العمليات) قبيل إقدامه على خطوة جديدة في مسار توسعة الصراع، لتحقيق عدة أهداف، أبرزها خداع المجتمع الدولي وتحييد بقية الأطراف، وطمأنة الجبهة الداخلية وتجنب الغضب الشعبي، بجانب الحصول على الأريحية الكاملة في التعامل وفق المنجزات، فإذا ما حقق انتصارًا يكمل في طريق التصعيد، وإذا ما تعرض لهزيمة أو تعثر يتراجع مدعيًا التزامه بمحدودية العملية.
ما الأهداف الإسرائيلية؟
تنطلق دولة الاحتلال من خلال تلك العملية البرية لتحقيق نوعين من الأهداف:
أولها: الأهداف المعلنة والتي تنحصر في فرض حالة تهدئة في الجنوب اللبناني بما يمهد نحو عودة النازحين إلى الشمال بعدما باتوا يشكلون ضغطا اقتصاديًا وعسكريًا ونفسيًا وسياسيًا على حكومة نتنياهو والكابينت، وهذا لا يتحقق إلا بضرب القواعد العسكرية والقتالية والتسليحية لحزب الله.
ثانيها: الأهداف غير المعلنة، وتلك التي تتوقف على مجريات المعركة ميدانيًا، فإذا ما كانت الأجواء مناسبة فلن تتوقف شهية نتنياهو عند حاجز الجنوب اللبناني وفقط، بل سيهرول نحو استثمار المشهد وتوظيفه قدر الإمكان للوصول إلى بيروت، في محاولة لفرض قواعد اشتباك جديدة وتدشين معادلات ردع مختلفة تمامًا، ليس على الجبهة اللبنانية وفقط، بل على كافة الجبهات في الشرق الأوسط وصولا إلى طهران.
أداء حزب الله هو الفيصل.. ما السيناريوهات؟
في تقرير سابق لـ “نون بوست” كان قد أشار إلى 3 سيناريوهات تحدد مسار العملية البرية المزمعة في لبنان:
الأول: يتعلق بتكثيف العمليات النوعية الاستخباراتية التي تستهدف تدمير أكبر قدر ممكن من القدرات العسكرية لحزب الله، خاصة بعد أن أصبح الحزب مكشوفًا بشكل كبير أمام الإسرائيليين، أملا في استغلال حالة فقدان التوازن التي يعاني منها مؤخرًا في أن يرضخ لإملاءات وضغوط الاحتلال والقبول باتفاق تهدئة يقضي بوقف العمليات العسكرية للحزب كجبهة إسناد، ووقف إطلاق النار على الحدود بين الطرفين، وعودة المستوطنين.
لكن يبدو أن هذا السيناريو قد فشل في ظل استمرار عمليات الحزب في الشمال الإسرائيلي، حتى لو تراجع زخمها مقارنة بما كانت عليها قبل ذلك، وتشديد القيادة الجديدة له على البقاء كبجهة إسناد للمقاومة في غزة واستكمال ذات السياسة التي كان عليها أمين عام الحزب، المغتال، حسن نصر الله، وهو ما قد يقود الاحتلال إلى السيناريو الثاني.
الثاني: القيام بعملية برية في الجنوب اللبناني حتى جنوب نهر الليطاني، وهو السيناريو الذي يراه مراقبون الاقرب عملياتيًا، ويتضمن احتلال بعض المناطق في الجنوب اللبناني مثل حاصبيا، الخيام، مرجعيون، العديسة، والناقورة، وذلك بعمق يتراوح بين 5 – 7 كم تقريبًا من الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وذلك بهدف تدشين منطقة فاصل أمني على الحدود يساوم بها نتنياهو لاحقُا في الضغط على حزب الله لتقديم تنازلات خاصة بضمان ألا تشكل تلك المنطقة تهديدًا لسكان الشمال الإسرائيلي.
الثالث: وربما يكون السيناريو الأصعب، لكن في ظل وجود حكومة متطرفة يقودها نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، وسط خذلان عربي وإقليمي فاضح، وتحييد المستوى الدولي بشكل كامل، فكل السيناريوهات باتت متاحة، وهو الذي يذهب بالعملية البرية إلى بيروت، بهدف تغيير قواعد الاشتباك في المنطقة بأسرها، ورسم شرق أوسط جديد خالٍ من محور المقاومة، الأمر الذي يراه البعض إعلان حرب واسعة بشكل رسمي، إلا أن مقاربات طهران حتى الساعة قد تخفض منسوب القلق بشأن توسعة رقعة التصعيد نحو حرب مفتوحة.
ويبقى أداء حزب الله وجبهات الإسناد الأخرى، والقدرة على ابتلاع الضربات الأخيرة، واستعادة الاتزان نسبيًا، والتخلي مرحليًا عن مقاربات التهدئة وعدم التصعيد، الفيصل في تحديد أي من السيناريوهات الثلاثة سيفرض قبضته على المشهد.
وكان الكيان المحتل قد راهن على الضربات التي وجهها للحزب اللبناني على المستوى القيادي في شل حركته بالكامل، وإنهاء قدراته الصاروخية والقتالية، واستعداده الكامل لرفع الراية البيضاء وإعلان الاستسلام بشكل رسمي، وهو الرهان الذي عززه التزام الحزب للصمت خلال الساعات الأخيرة.
ولعل الضربة الاستثنائية، غير المتوقعة، التي وجهها الحزب إلى قلب العاصمة الإسرائيلية تل أبيب، صباح اليوم (لأول مرة تصل صواريخ الحزب إلى قلب تل أبيب وتستهدف أطول طريق سريع في الداخل الإسرائيلي “رقم 6” الذي يربط بين الجنوب والشمال) والتي جاءت عكس الاتجاه الراهن، ربما تخلط الأوراق وتربك الحسابات مرحليًا، كونها رسالة إنذار شديدة اللهجة من اللبنانيين إلى حكومة نتنياهو، حتما سيكون لها تداعياتها شريطة أن يستتبعها ضربات أخرى عبر جبهات عدة، وفق خطة ممنهجة تسعى لاستعادة معادلة الردع الاستراتيجية مرة أخرى بعيدًا عن قيود المقاربات التي استغلها نتنياهو وحكومته بشكل متطرف.
وفي الأخير.. ليست هناك – حتى الساعة- معلومات دقيقة ومؤكدة حول طبيعة التصعيد الأخير، وما إذا كانت عملية برية فعلية في الداخل اللبناني، كما يزعم جيش الاحتلال، أم مجرد مناوشات على الحدود، ومن ثم فمن المبكر تقييم المشهد الحالي بعد التطورات الأخيرة والرسائل التي بدأ حزب الله في إرسالها للداخل الإسرائيلي، وهو ما يجعل كل السيناريوهات متاحة.