ترجمة وتحرير: نون بوست
كتب: ديفيد كيركباترك وكارلوتا غال
خلص كبار المسؤولين الأمنيين في تركيا إلى أن المعارض جمال خاشقجي قد اغتيل في القنصلية السعودية في إسطنبول بأوامر من قيادات عليا في القصر الملكي، وذلك حسب ما أفاد به مسؤول رفيع يوم الثلاثاء. وقد وصف هذا المسؤول حيثيات عملية معقدة وسريعة كان الهدف منها قتل خاشقجي في غضون ساعتين من وصوله إلى القنصلية السعودية، نفذها فريق من العملاء السعوديين، الذين قطعوا أوصاله بمنشار للعظام جلبوه لهذا الغرض. وحيال هذا الشأن، قال المسؤول التركي: “لقد كان الأمر أشبه بأحداث فيلم “خيال رخيص””.
لقد أنكر المسؤولون السعوديون، بما في ذلك ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، هذه الادعاءات، مؤكدين أن خاشقجي غادر القنصلية بعد فترة قصيرة من وصوله. ومن جهته، طالب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان السعوديين بتقديم أدلة تؤكد صحة مزاعمهم. ولا يزال من غير الواضح كيف توصلت السلطات التركية إلى أن خاشقجي قد قتل، ولكن الاستنتاج الذي خلصت إليه بشأن إعطاء القصر الملكي أوامر باغتياله من شأنها أن تزيد من احتدام التوتر بين الطرفين. وفي هذا الحالة، سيكون من الصعب على الحكومتين اختلاق قصة لحفظ ماء الوجه وتحميل طرف ثالث مسؤولية اختفاء خاشقجي، مثل اتهام عناصر مارقة من القوات الأمنية السعودية أو حصول حادث خلال التحقيق غير نصاب الأمور.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يتهم علنا المملكة العربية السعودية بقتل خاشقجي، ولم يكشف بدوره عن الأدلة التي تؤكد صحة هذه الادعاءات
لقد ترك المسؤولون الأتراك الأمور مبهمة بما فيه الكفاية، حيث اشترطوا عدم الكشف عن هوياتهم ورفضوا إظهار الأدلة التي بحوزتهم للعلن، لذلك لا يمكن غض الطرف عن هذه الاحتمالات. وقد نقلت بعض وسائل الإعلام الموالية للحكومة أن الشرطة لازالت تحقق في احتمال اختطاف خاشقجي وليس مقتله. ولكن بعد مرور أكثر من أسبوع منذ آخر مرة شوهد فيها، تضاءلت فرص إيجاده على قيد الحياة.
في سياق متصل، أفاد أحد المسؤولين، الذي قبِل اطلاعنا على هذه المعطيات السرية شريطة التحفظ عن ذكر هويته، بأن المؤسسة الأمنية التركية توصلت إلى أن عملية قتل خاشقجي كانت مدبرة من أعلى هرم في السلطة، لأنه وحدهم القيادات العليا السعودية قادرون على إعطاء أمر بتنفيذ عملية من هذا النوع على هذا المستوى من التعقيد. وقال هذا المسؤول الأمني إن 15 عميلا سعوديا قدموا إلى تركيا عبر رحلتين للطيران العارض يوم الثلاثاء الماضي، أي في نفس اليوم الذي اختفى فيه جمال خاشقجي.
حسب هذا المسؤول، غادر جميعهم بعد سويعات قليلة، وقد تمكنت تركيا من تحديد المناصب التي يشغلها كلهم أو جلهم في الحكومة السعودية أو السلك الأمني، حيث أن أحدهم كان خبير في التشريح ويبدو أنهم احتاجوه لتقطيع أوصال الجثة. وفقا لبعض الأشخاص المطلعين على هذه القضية، تم إعلام أردوغان بهذه المعطيات يوم السبت، ومنذ ذلك الحين أرسل مسؤولين لم يعرّف بأسمائهم لإخبار عدد كبير من وسائل الإعلام بما في ذلك صحيفة “نيويورك تايمز”، بأن جمال خاشقجي قد قتل داخل القنصلية السعودية.
صور الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في أحد الاحتجاجات أمام القنصلية السعودية في إسطنبول.
لكن حتى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يتهم علنا المملكة العربية السعودية بقتل خاشقجي، ولم يكشف بدوره عن الأدلة التي تؤكد صحة هذه الادعاءات. كما أثار تحفظ أردوغان الكثير من الأسئلة بشأن احتمال أن تتراجع تركيا عن توجيه اتهام واضح وصريح للجانب السعودي، حفاظا على علاقتها مع المملكة العربية السعودية، التي تعتبر دولة غنية لها ثقلها في منطقة الشرق الأوسط. وربما يفضل أردوغان عدم تنفير السعودية بينما يكافح من أجل تسيير اقتصاد البلاد الذي يعاني أزمة، وصراع قوة متعدد الجوانب على نتائج الحرب الأهلية في سوريا.
يوم الثلاثاء، نقلت صحيفة “صباح” التركية الموالية للحكومة، أن مسؤولين لم يتم ذكر أسمائهم قالوا إن الشرطة تحقق في احتمال أن يكون خاشقجي قد تعرض لعملية اختطاف وليس قتل، وذلك ربما بالتعاون مع المسؤولين في الاستخبارات السعودية. أما المسؤول الذي تحدث عن تعرض خاشقجي للقتل، فقال إن ذلك التقرير والتقارير الأخرى مشابهة له لا أساس لها من الصحة ويبدو أنها نتاج محدودية المعلومات التي تشاركتها مختلف وكالات الأنباء مع الحكومة التركية. كما أشار هذا المسؤول التركي إلى أن الحاجة إلى حماية المصادر الاستخباراتية، التي تتضمن اتصالات ومخبرين، سامت في إحجام الحكومة التركية عن الكشف عن الأدلة التي تؤكد صحة مزاعمها. وهذه الحاجة إلى السرية من شأنها أن تعيق أي جهود ترمي إلى محاكمة العملاء السعوديين المتورطين في هذه القضية.
واصلت المملكة العربية السعودية إنكار معرفتها لمصير خاشقجي، حتى أنها رفضت التعبير عن قلقها إزاء سلامته
يوم السبت، أخبر شخص آخر مطلع على القضية، طلب عدم الكشف عن هويته، صحيفة “التايمز” أن الاستخبارات التركية حصلت على فيديو يوثق عملية قتل خاشقجي من قبل السعوديين لإثبات حدوث عملية القتل. ويوم الثلاثاء، أدلى أحد المعلقين القريبين من الحكومة بتصريح علني. وفي إحدى المقابلات الصحفية مع قناة موالية للحكومة، أشار كمال أوزتورك، وهو كاتب عمود في إحدى الصحف الموالية للحكومة والرئيس السابق لإحدى وكالات الأنباء شبه الرسمية، إلى بعض المسؤولين الأمنيين دون ذكر أسمائهم وقال: “هناك فيديو يوثق لحظة مقتل خاشقجي”.
واصلت المملكة العربية السعودية إنكار معرفتها لمصير خاشقجي، حتى أنها رفضت التعبير عن قلقها إزاء سلامته. ويوم الثلاثاء، صرّحت الحكومتان بأن المملكة سمحت لعناصر الشرطة التركية بتفتيش مقر القنصلية في إسطنبول، الأمر الذي يعد مخالفا للاتفاقيات الدبلوماسية الطبيعية. ومن جهته، أفاد مسؤول تركي آخر رفيع المستوى، طلب عدم الكشف عن هويته إذا ما تحدث عن الإستراتيجية الدبلوماسية، بأن أنقرة تأمل في أن تأخذ كل من واشنطن والمجتمع الدولي بزمام الأمور فيما يتعلق بتحدي السعودية لمعرفة مصير خاشقجي، الذي يقيم في الولايات المتحدة بصفة قانونية وكاتب عمود في صحيفة “واشنطن بوست”.
في الواقع، التزمت إدارة ترامب الصمت حيال هذه القضية إلى غاية يوم الإثنين. فعندما طرح أحد الصحفيين عليه سؤالا حولها، أفاد ترامب بأنه “قلق” بشأن ما حصل. ومن المرجح أن تكون إدارة ترامب متخوفة من الدخول في عداء مع الرياض؛ نظرا لأن المملكة تعد حليفا مقربا من الولايات المتحدة. وقد عبّر ترامب خلال العديد من المناسبات عن حماسه بشأن ولي العهد محمد بن سلمان، البالغ من العمر 33 سنة، التي يعدّ القائد المهيمن في المملكة.
لكن مع اختفاء خاشقجي منذ عدة أيام، ظهرت يوم الثلاثاء علامات تدل على أن الضغط بدأ يشتد. فقد دعا وزير الخارجية مايك بومبيو الحكومة السعودية إلى “مساندة إجراء فتح تحقيق شامل حول اختفاء خاشقجي والإفصاح بشفافية عن نتائج هذا التحقيق”.
اختفاء صحفي: حيث شوهد جمال خاشقجي آخر مرة
يتابع المحققون الأتراك قضية خاشقجي، الصحفي السعودي الذي دخل القنصلية السعودية في إسطنبول في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر قبل أن يتوارى عن الأنظار.
في مقال رأي نُشر يوم الثلاثاء في صحيفة “واشنطن بوست”، حثت خطيبة خاشقجي، خديجة جنكيز، ترامب على “تقديم يد المساعدة والمساهمة في تسليط الضوء على قصة اختفاء جمال”. وفي هذا السياق، كتبت خديجة قائلة إنها “واثقة” من أنه لا يزال على قيد الحياة، على الرغم من أن أملها بدأ يتلاشى مع كل يوم يمر على اختفائه. علاوة على ذلك، دعا مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة كلا من المملكة العربية السعودية وتركيا إلى إجراء تحقيق شامل حول هذه المسألة والتصريح بالنتائج على الملأ. وقد صرحت المتحدثة باسم مكتب حقوق الإنسان رافينا شامداساني، للصحفيين في جنيف بأن: “الاختفاء القسري الجلي لخاشقجي يمثل مصدر قلق كبير”.
في شأن ذي صلة، أكّد مسؤولان آخران في الحكومة التركية الخطوط العريضة للتقرير الذي نُشر في صحيفة “صباح”، الذي شُرحت فيه بالتفصيل تحركات الفريق السعودي الذي وصل إلى إسطنبول يوم اختفاء خاشقجي. وتجدر الإشارة إلى أن كلا المسؤوليْن طلبا عدم الكشف عن هويّتهما نظرا لأنه ليْسا مخوّلين بالإدلاء بأي تصريح علني. وقالت الصحيفة إن طائرتين خاصتين من طراز “غلف ستريم الرابعة” تابعتين لشركة سكاي برايم لخدمات الطيران، التي كانت تعمل في الغالب مع الحكومة السعودية، أقلعتا من الرياض في صباح الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر، وكانتا تقلان على متنهما 15 راكباً، جميعهم إما من عملاء الاستخبارات أو مسؤولين حكوميين.
خطط أصدقاء خاشقجي لإقامة صلاة الجنازة يوم الثلاثاء، التي كان من المتوقع أن تتحول إلى مظاهرة مناهضة للمملكة العربية السعودية
في ذلك اليوم، وفي تمام الساعة الثالثة صباحا و13 دقيقة، حطت إحدى الطائرتين في مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول وعلى متنها تسعة ركاب. وقد نزل هؤلاء الركاب في فندقيْن قريبيْن من القنصلية وحجزوا غرفا ليقيموا فيها لمدة ثلاث ليال. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، جمع الركاب أمْتعتهم وأقلعوا في نفس الطائرة على الساعة 10:46 مساء، متوقفين في دبي في طريق عودتهم إلى الرياض. وفي نفس اليوم على الساعة الخامسة و15 دقيقة مساء، هبطت طائرة ثانية في إسطنبول تحمل على متنها ستة ركاب.
وفقا لما ذكرته صحيفة “صباح”، توجه هؤلاء الركاب مباشرة إلى القنصلية قبل أن يعودوا بسرعة إلى المطار، حيث أقلعت طائرتهم بالكاد بعد ساعة من وصولها، أي على الساعة السادسة و20 دقيقة مساء، وتوقفت في القاهرة خلال رحلة عودتها إلى الرياض. والجدير بالذكر أن كاميرات المراقبة أظهرت دخول خاشقجي إلى القنصلية خلال ذلك اليوم بعد الساعة الواحدة ظهرا. وقد انتظرت خطيبته جنكيز خارج القنصلية، حيث أفادت بأن خطيبها لم يظهر مطلقا. وبعد ساعتين ونصف من دخوله إلى مقر القنصلية، انسحبت ستة سيارات تحمل على متنها 15 مسؤولاً سعودياً وضابطاً في المخابرات، وذلك بحسب صحيفة “صباح”.
فضلا عن ذلك، كانت هناك وسيلتا نقل، إحداهما شاحنة من نوع مرسيدس فيتو سوداء ذات نوافذ مظلمة، وقد غادرتا القنصلية متوجهين إلى مقر إقامة القنصل الذي يبعد حوالي 200 ياردة. وقالت الصحيفة إنه تم بشكل غير متوقع إبلاغ الموظفين الأتراك العاملين في مقر إقامة القنصل بعدم القدوم للعمل في ذلك اليوم. وذكرت صحيفة “صباح”، دون الكشف عن مصادرها، أن محققي الشرطة اشتبهوا في وجود خاشقجي داخل الشاحنة.
من جانبهم، خطط أصدقاء خاشقجي لإقامة صلاة الجنازة يوم الثلاثاء، التي كان من المتوقع أن تتحول إلى مظاهرة مناهضة للمملكة العربية السعودية. في المقابل، ألغى أصدقاء الصحفي ما خططوا له ولم يكن من الممكن الوصول إليهم للحصول على المزيد من التفاصيل حول قرارهم.
المصدر: نيويورك تايمز