ترجمة وتحرير: نون بوست
تنامت سلطة الجيش التونسي السياسية بشكل كبير منذ وصول قيس سعيد إلى الرئاسة، وذلك بعد أن كان مهمشًا في عهد الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، قبل اكتسابه شعبية خلال ثورة 2011 باعتباره “ضامنًا للديمقراطية”.
وسعى سعيد بعد انتخابه في سنة 2019 إلى كسب تأييد الجيش، وكان ذلك عامًا حاسمًا في مسار استيلائه على السلطة في تموز/ يوليو 2021.
منذ ذلك الحين، عمل على زيادة نفوذ الجيش في الحياة السياسية في البلاد، إلى حد منح وزارات لضباط رفيعي المستوى، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ البلاد.
لكن هذا التحوّل يثير قلق العديد من المراقبين الذين يتساءلون عن الدور الذي يمكن أن يلعبه الجيش على المدى القصير مع اقتراب الانتخابات الرئاسية التي وُصفت إلى حد كبير بأنها غير نزيهة.
على عكس دول أخرى في المنطقة، مثل الجزائر وليبيا ومصر وسوريا، فإن الجيش التونسي لم يكن لاعباً أساسيًا في السياسة والاقتصاد.
أصر بورقيبة على حصر الجنود في ثكناتهم بمجرد استقلال البلاد في سنة 1956، وكان أول رئيس تونسي محاميًا وليس عسكريًا – على عكس معظم القادة العرب – وكان متأثرًا بالنموذج السياسي الفرنسي أكثر من تأثره بالنظم الناتجة عن الانقلابات العسكرية.
وترسخت هذه القناعة عندما نجا بورقيبة سنة 1962 من محاولة انقلاب شارك فيها ضباط رفيعو المستوى.
في نهاية المطاف، عُزل بورقيبة سنة 1987 على يد عسكري سابق، هو رئيس وزرائه بن علي.
وفي ظل حكم هذا الأخير، بقيَ الجيش مهمشًا إلى حد كبير، وكان يُنظر إليه باعتباره تهديدًا للنظام، كما يتضح مما يسمى بقضية براكة الساحل سنة 1991، والتي اتهم فيها الرئيس 244 عسكريًا بـ”التآمر على أمن الدولة“”.
لكن هذا الوضع تغير بعد الثورة التي أدت إلى سقوط بن علي.
وكانت قصة “الرجل الذي قال لا” من بين الأحاديث الشائعة التي ساعدت في انتشار شعبية الجيش.
فقد أعلن المدوّن الذي أصبح لاحقا نائبا في البرلمان، ياسين العياري، وهو ابن ضابط سابق رفيع المستوى في الجيش، في ذروة الحراك الثوري في كانون الثاني/ يناير 2011، أن رئيس أركان الجيش الجنرال رشيد عمّار رفض أوامر بن علي بإطلاق النار على المتظاهرين.
وبعد أشهر قليلة، اعترف العياري بأنه كذب بشأن عمار، الذي لم يعصِ الأوامر في الواقع أبدًا، لكن شعبية الجيش استمرت في التصاعد.
لذلك لاقى انتشار الجنود في المدن الكبرى ترحيبًا عامًا من التونسيين، الذين ربطوا بين الانتهاكات في عهد بن علي ومؤسسة الشرطة.
وشهد عقد ما بعد الثورة تعزيز دور الجيش بشكل كبير. فإلى جانب مشاركته في الحفاظ على النظام، شاركت المؤسسة العسكرية، التي أشادت بها الطبقات الحاكمة بالإجماع، في تنظيم الانتخابات.
وقال كمال الجندوبي، وزير حقوق الإنسان بين سنتي 2015 و2016، لموقع ميدل إيست آي: “كان يُنظر إلى الجيش باعتباره حاميًا الديمقراطية أكثر من الدور اللوجستي المنوط به”.
وأضاف الجندوبي، الذي ترأس أول لجنة انتخابية بين سنتي 2011 و2012: “من خلال نشر الجنود أمام مراكز الاقتراع ثم تأمين نقل صناديق الاقتراع، أرسلنا رسالة إلى الناخبين مفادها أن الجيش هو الضامن للعملية الانتخابية والإرادة الشعبية”.
صعود الجيش في السلطة
كان الدور الذي لعبه الجيش في التصدي لموجة الهجمات التي ضربت تونس بين سنتي 2011 و2016 هو الذي ضمن له دورًا محوريًا في الحياة العامة. فقد كان للهجومين اللذين استهدفا جنودًا في جبل الشعانبي في سنتي 2013 و2014 تأثير كبير على الرأي العام.
وقامت الحكومات والرؤساء المتعاقبون بعد ذلك بزيادة الميزانية العسكرية بشكل كبير، وذلك بمساعدة دول غربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تعتبر الجيش التونسي جهة مفضلة للتواصل بين البلدين.
يستخدم الجيش التونسي أسلحة أمريكية بالأساس؛ حيث تقدم واشنطن مساعدات عسكرية كبيرة لتونس. وآخر مثال على ذلك هو توريد طائرتي استطلاع من طراز “تكسترون C-208EX” في بداية شهر أيلول/ سبتمبر.
بالإضافة إلى ذلك، تعتبر تونس أحد الحلفاء الرئيسيين من خارج حلف شمال الأطلسي منذ سنة 2015، وقد تلقى كبار المسؤولين العسكريين تدريبات في فرنسا والولايات المتحدة منذ عهد بورقيبة، وخاصة في إطار القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا.
وقال الصحفي أحمد نظيف لموقع ميدل إيست آي: “لقد سمحت زيادة موارد الجيش بتطوير المؤسسة العسكرية بأكملها”.
وأضاف: “لقد شهد الجيش تحسنًا في وضعه المالي من القاعدة إلى القمة، وقد سمح ذلك للمجموعات الأكثر ثراءً بالانضمام إلى الجيش”.
ويوضح نظيف أن الجيش في سعيه لمكافحة خطر الهجمات بشكل فعال سيطر على مناطق بأكملها، بما في ذلك بعض المناطق التي يقيم فيها مدنيون، كما هو الحال في ولاية القصرين، وحول جبل الشعانبي وفي الجنوب الشرقي، باتجاه الحدود الليبية.
وبحسب نظيف فإن “الائتلافات الحكومية قللت من أهمية الجيش بين سنتي 2011 و2021، وسعت بشكل أساسي إلى السيطرة على وزارة الداخلية”.
وقد يعود ذلك إلى أن مشاهد الفوضى التي صاحبت الثورة أدت إلى نوع من عسكرة العقول، وهو ما جعل السياسين من الأغلبية والمعارضة على حد سواء يطالبون بتدخل الجيش في الحياة المدنية.
على سبيل المثال، تم تعيين أحد أفراد الجيش مديرًا لأحد مستشفيات صفاقس في سنة 2015، خلال رئاسة الباجي قائد السبسي، وذلك بهدف وضع حد لحراك اجتماعي طويل شهده المستشفى.
بالإضافة إلى ذلك، لم تشهد مقاضاة المدنيين أمام المحاكم العسكرية بسبب آرائهم خلال العِقد الماضي استنكارًا كبيرًا بين الفاعلين السياسيين، وذلك بعد دعاوى رفعتها وزارة الدفاع ضد من يعملون على “إضعاف الروح المعنوية للجيش”.
“الانضباط الجمهوري”
منذ انتخابه في سنة 2019 عمل سعيد على التودد إلى الجيش، وشمل ذلك زيادة الزيارات الرئاسية إلى الثكنات العسكرية.
وبدأ أيضًا في استخدام الجيش لقمع المعارضة؛ حيث جر بعض منتقديه إلى المحاكم العسكرية على الرغم من كونه مدنيًا.
وقبل ثلاثة أشهر من استيلائه على السلطة في 2021، أعلن سعيد نفسه رئيسًا لجميع القوات المسلحة المدنية والعسكرية، ورغم أن دستور 2014 ألحق الشرطة برئيس الحكومة، إلا أن سعيد استغل غياب مجلس دستوري لإخضاع جميع قوى الأمن الداخلي لسيطرته.
وبهذه الهيمنة الجديدة نفذ سعيد ما سُمي بـ”الانقلاب الدستوري” في 25 تموز/ يوليو 2021، وهو ما لم يكن ليتحقق إلا بمساعدة القوات المسلحة.
وعندما أعلن سعيد عن “إجراءاته الاستثنائية”، من تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإقالة رئيس الحكومة، كان محاطًا بكبار المسؤولين في وزارة الداخلية والدفاع الوطني.
وأُرسلت أيضًا دبابات الجيش لعرقلة الوصول إلى مبنى البرلمان .
وبينما عمل السعيد على إضعاف قوى المعارضة، مثل الصحافة والمنظمات غير الحكومية والجهاز القضائي، عمل على تقوية الجيش من خلال زيادة ميزانيته.
يُرجع العديد من المراقبين قدرة سعيد على الاحتفاظ بالسلطة اليوم إلى دعم الجيش له بشكل أساسي؛ حيث أصبحت شعبيته موضع شك بسبب انخفاض نسبة المشاركة في مختلف الانتخابات التي دعا إليها خلال رئاسته.
توضح العديد من المؤشرات أن الأهمية السياسية للجيش قد ازدادت بالفعل في عهد سعيد.
ولعل أكثر ما يعبر عن ذلك هو تعيين اثنين من العسكريين للمرة الأولى في تاريخ تونس في منصبين وزاريين، وزارة الصحة العامة في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ووزارة الزراعة في كانون الثاني/ يناير 2023.
ونظرًا لغموض نظام الحكم الحالي إلى حد كبير، فمن الصعب تفسير توازن القوى داخله ومعرفة من له اليد العليا بين سعيد والجيش.
وقال كولين باورز، رئيس التحرير في مركز الأبحاث “نوريا” في باريس، لموقع ميدل إيست آي: “سعيد يعطي المزيد من الاستقلالية للجيش. إنه يدرك الحدود التي يجب ألا يتخطاها مع المؤسسة العسكرية والتي يمكن أن تهدد سلطته”.
مع ذلك، ظهرت خلافات كبيرة في الأشهر الأخيرة. فوفقًا لموقع “أفريكا إنتليجنس” المتخصص، أجرت المخابرات العسكرية تحقيقات أدت إلى اعتقال أحد المقربين من وزيرة العدل التي تتمتع بنفوذ كبير ليلى جفال، وهي مقربة من سعيد.
وظهرت أيضًا خلافات بين سعيد ووزرائه العسكريين، أفادت تقارير “أفريكا إنتلجنس” بوجود خلافات حول قضايا استراتيجية مثل نقص الأدوية، وهو ما برره الرئيس بوجود “المكائد”.
وكانت المواجهة الأبرز متعلقة بمسألة نقص المياه، فبينما برر وزير الزراعة انقطاع المياه في الصيف بتفسيرات منطقية مثل سنوات الجفاف وحالة الأنابيب، تنصل سعيد من تصريحات الوزير القادم من المؤسسة العسكرية، بالتلميح -كما هي العادة- إلى وجود مؤامرات ضد التونسيين.
يمكن أن يفسر هذا الخلاف التعديل الوزاري الكبير الذي أجراه سعيد في نهاية آب/ أغسطس، والذي تمت فيه الإطاحة بالوزيرين العسكريين.
ولكن تم تعيين ضابط كبير آخر في الجيش وزيرًا للصحة، وهو الجنرال مصطفى الفرجاني، وذلك “على سبيل التعويض” عن هذه الإقالات، وفقًا للعديد من وسائل الإعلام.
وتسببت الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 6 تشرين الأول/ أكتوبر في التوترات الأخيرة، ففي الوقت الذي يُتهم فيه سعيد بمنع مرشحين آخرين من الترشح، أفادت تقارير أن بعض العسكريين أبدوا رفضهم لاعتقال بعض الشخصيات السياسية “الجمهورية” التي لا تهدد النظام العام.
وأوضح الجندوبي أن النظام الأساسي للجيش يلزمه بحماية الشكل الجمهوري للدولة.
وقال: “يمكن للجيش حتى الآن تبرير دعمهم لسعيد في انقلابه بأنهم يقومون بدورهم. الرئيس في الواقع هو قائد القوات المسلحة وانتخب ديمقراطيًا في سنة 2019”.
وفي مقال رأي في صحيفة “لوموند” حول دور الجيش في الانتخابات المقبلة، شدد الجندوبي على دوره كحارس للديمقراطية، وكتب أن المؤسسة العسكرية عليها أن تختار بين دعم التعددية واختيار الاستبداد.
وقال لموقع ميدل إيست آي: “الوضع مختلف جذريًا في 2024. هل سيكون الانضباط الجمهوري، الذي يحترم خيار الشعب، ذا معنى إذا ما تحولت انتخابات 6 تشرين الأول/ أكتوبر إلى انقلاب على الديمقراطية؟”
المصدر: ميدل إيست آي