عزيزي القارئ، هذه المقالة لن تجد فيها للأسف، أية تحليلاتٍ أو معلوماتٍ حصرية حول مصير الصحفي السعودي المخضرم، جمال خاشقجي، فوكالات الأنباء لا ينقطع تدفق أخبارها على مدار اليوم، وشريط العاجل في كل القنوات المهنية منها والمُسيسة والمأجورة، لا يتوقف. تصريحاتٌ من كل الأطراف، المسؤولون في البلدان المهتمة بالحادث، أطراف المجتمع المدني والدولي، كلها تُدلي بدلوها حسبما تستطيع، لكننا في النهاية، نسمع جعجعةً ولا نرى طحينًا، كما يقول المثل العربي الشهير.
انتفض العالم واهتز فور انتشار خبر اختفاء خاشقجي، ولم يهدأ حتى الساعة، الأتراك وُضعوا في خانة اليَك، السعوديون ينشرون إفاداتٍ غير منطقية ولا قابلة للتصديق، الولايات المتحدة تبدأ باتخاذ إجراءات، أخيرًا. دون فائدة، فجمال قد انتقل إلى مستقره الأخير -حسب ما تؤكد الترجيحات-، ولكنه رغم ثقله وما يمثله من تاريخ صحفي طويل، لن تنقلب الدنيا رأسًا على عقب، سيغلي الماء دون ما انتباه من تلطخت يديه بدماء جمال.
كتيبة الاغتيال هذه، التي جابت شوارع اسطنبول، تخبُرنا بالبلطجة التي تقودها السعودية، لقد أرسلوا ضباطًا حكوميين بجوازات سفرهم الأصلية المدونة بها أسمائهم الحقيقية وصورهم دون تعديل
سواء قتلوه متعمدين أو مخطئين، بالنهاية تبقى الحقيقة أنهم كانوا يعلمون نهاية ذلك وخططوا له جيدًا، سواء كانت الخطة خطفه وإعادته للسعودية أو قتله والتخلص منه. كانوا متعمدين. لقد أرسلوا ١٥ مسؤولًا أمنيًا استقلوا طائراتٍ هبطت في مطارٍ دولي، أقاموا بفنادق تحاوطها الكاميرات من كل اتجاه، ونفذوا اغتيال جمال في واحدة من أهم مناطق اسطنبول، التي من نافلة القول فيها، أنك لا تجد شِبرًا واحدًا لا تُغطّيه كاميرات المراقبة في هذه المدينة، فكيف تخيلوا أن أصابع الاتهام لن توجه لهم؟ كيف تخيلوا بهذه الترتيبات أن يتم التعمية على الأدلة؟ الإجابة الوحيدة أنهم كانوا يعلمون أن الأمر سينكشف، لكن ببساطة من سيهتم؟ سنسمع إدانات هُنا وصرخات وهناك، وسينتهي الأمر. نحن نقتل في اليمن كل يوم دون رادع، وضعتنا الأمم المتحدة على نشرتها السوداء لقتلة الأطفال، لكن أموالنا أجبرتهم على إزالة أدلة الجريمة، قصفنا مجلس عزاء كله من المدنيين، ومازالت أميركا وبريطانيا يبيعوننا السلاح. دعمنا انقلابًا عسكريًا في مصر قُتل بيديه آلاف الأبرياء ولم ينبس أحد ببنت شفه، نعتقل في السعودية كل يوم من يدعون للإصلاح ونحاكمهم سريًّا وتطالب نيابتنا العامة بإعدامهم، -هكذا يُحدّث بن سلمان نفسه-.
هذه للأسف هي الكارثة، فرغم أن “دول العالم الحُر” كما تُطلق على نفسها، تدعي حمايتها لحقوق الإنسان، وأن عُصبة الأمم الحالية، تُخبرنا عبر نشراتها أن خُلقت لتنشر الأمان والسلام في العالم، إلا أنها في واقع الأمر لا تقدر حتى على مَنع ممثلٍ النظام السوري الذي قتل شعبه من التشبيح السياسي عبر منبرها، هي حتى لا تستطيع أن تطبق روح هذه النصوص على نفسها.
هذا النظام الذي يحاصر اليمنيين ويقتلهم بالجوع والكوليرا لن يردعه أحد
كتيبة الاغتيال هذه، التي جابت شوارع اسطنبول، تخبُرنا بالبلطجة التي تقودها السعودية، لقد أرسلوا ضباطًا حكوميين بجوازات سفرهم الأصلية المدونة بها أسمائهم الحقيقية وصورهم دون تعديل، بطائراتٍ مسجلة باسم شركات عالمية لا تُخفي تقديمها خدمات الطيران للنظام السعودي، قدموا دفعةً واحدة كأنهم ابتعثوا إلى نشر مبادئ السلام، وهكذا كله لا يشير إلا لعدم الاكتراث بعواقب ما حدث.
بعد انتشار خبر اختفاء جمال، تذكرت وثائقي “جريمة في اسطنبول”، الذي بثته قناة بي بي سي العربية، قبل ما يقارب السنتين، والذي كان يحقق في ستة من اثني عشر اغتيالًا لمعارضون للرئيس الروسي، فروا إلى تركيا، تتبع الفيلم عمليات الاغتيال المعقدة التي حدثت، والتي خطط لها بشكل مُحترف، يستعصي اكتشافه لولا بعض الظروف التي لم يكن ممكنًا تفاديها. لقد كان الروس حريصين على إخفاء آثارهم دومًا، لم ترتبط الحكومة للحظةٍ ما بأي من المنفذين، لقد أبعدوا أي شبهةٍ جنائيةٍ عنهم قد تجرحهم أمام العالم.
أما السعوديون فكانوا حريصين على العكس تمامًا، أرسلوا رجالهم الحكوميين، اغتالوه تحت أعين الكاميرات، لم يرهقوا أنفسهم مثلًأ بإرسال مرتزقةٍ كما نشاهد في الأفلام لم يَجهزوا عليه في أحد الأزقة القديمة البعيدة عن أعين الناس، لم يفعلوا أي من ذلك، كأنهم عمدوا إلى إبراز عضلاتهم، وقد يكون هذا واحدًا من أهدافهم، فقد أخاف سعود القحطاني المستشار بالديوان الملكي المعارضة بملف الاغتيالات الذي جرى فتحه.
باغتيال جمال خاشقجي يقول النظام السعودي، لا مستقبل لأي صوت وإن كان هادئًا في المملكة، على الجميع أن يصمت. لا مكان للحرية هنا، كما أنه لا مكان للعدل.
لقد رأينا عضلاتكم
لكن عملية “فرد العضلات” كما يسميها المصريون دومًا في “خناقات” الشارع، تكون عاقبتها وخيمة على صاحبها، لكنه للأسف ولأن مُحركو هذه العضلات من أصحاب السمو الملكي فلن تكون هناك أي عواقب، فلا أحد يُريد أن يُغضب صاحب الكُرَة.
هذا العالم لم يعبأ بنا يومًا، ولن يعبأ بنا بعد جمال، ستنتهي الأمور حسبما تقتضي الأعراف والسياسة والمصالح والاقتصاد، هناك التزامات، لن تحول بينك وبين الموت، كيانك، حياتك، روحك، ليست ضمن قائمة المصالح العُليا، امشِ داخل السور وليس جانبه، اصمت، لا تجادل، اخفِ إيمانك، خَف من قناعاتك، لا تعبر عنها اكتمها وابكِ على خطيئتك ولن يسعك بيتك ولا وطنك، ومع كل هذا لن تصل الحقيقة للعالم، أخبرني أصلًا، متى وصلت الحقيقة للعالم.
باغتيال جمال خاشقجي يقول النظام السعودي، لا مستقبل لأي صوت وإن كان هادئًا في المملكة، على الجميع أن يصمت. لا مكان للحرية هنا، كما أنه لا مكان للعدل.