وقف الانهيار الاقتصادي وإصلاح معاش الناس، مشكلة أرّقت الحكومة السودانية منذ انفصال الجنوب قبل 7 أعوام مضت رغم الوعود الكثيرة التي أطلقتها قيادات الدولة على أعلى مستوى بداية من الرئيس عمر البشير وحتى أصغر مسؤول محلي.
تضاعفت أسعار المواد الغذائية بصورةٍ لم يسبق لها مثيل واستعصى على الناس الحصول على أبسط الاحتياجات اليومية مثل الخبز والدواء والوقود، وعجزت البنوك لأول مرة عن الوفاء بتعهداتها للمودعين لانعدام السيولة بالعملة المحلية ناهيك عن النقد الأجنبي. حتى الموظفين لم يتمكنوا من صرف رواتبهم الضئيلة التي تحولها المؤسسات والشركات تلقائيًا إلى حساباتهم البنكية.
محاولات عديدة للسيطرة على الدولار دون جدوى
جرّبت حكومة السودان عدة حيل من بينها خفض قيمة الجنيه أمام الدولار الأمريكي بنسبة كبيرة (من 6 إلى 18 جنيه) ثم حاولت جذب أموال المغتربين عن طريق ما يسمى بسياسة الحافز ولكن فشلت كلها في إقناع العاملين بالخارج لتحويل أموالهم عن طريق البنوك والصرافات الرسمية متمسكين بإرسالها عن طريق السوق الموازية (السوداء).
ضمن السياسات الجديدة التي أقرها مجلس الوزراء السوداني بشكله الجديد، أسس ما يعرف ب(آلية صناع السوق) وهي جسم مستقل تكون مهمته إعلان سعر صرف الدولار بصورة يومية من مقره باتحاد المصارف السوداني.
وللأسباب الاقتصادية ذاتها قرر الرئيس عمر البشير الشهر الماضي حل الحكومة وكلّف معتز موسى برئاسة الوزراء وتشكيل حكومة جديدة وصفها بالرشيقة وقال البشير في اعتراف نادر، بعد ظهر الإثنين 10 من سبتمبر/أيلول إنه “لا داعٍ لحكومة مترهلة، مشيرًا إلى وضع برنامج إسعافي عاجل لرفع مستوى الاقتصادي الكلي وتحسين معاش المواطنين”.
رئيس الوزراء الجديد معتز موسى تولّى بنفسه حقيبة المالية بعد اعتذار الخبير الاقتصادي العالمي عبدالله حمدوك عن المنصب بعد إعلان اسمه في الحكومة الجديدة، وتعهّد موسى بمعالجة اختلالات الاقتصاد السوداني عن طريق “صدمة” قصيرة الأجل، وهو تصريح فجّر جدلًا واسعًا في منصات التواصل الاجتماعي إذ أطلق شباب سودانيون مسمى “حكومة الصدمة” على الحكومة الجديدة التي يرأسها معتز موسى.
آلية جديدة لتحديد سعر صرف الدولار وتدهور حاد في قيمة الجنيه
ضمن السياسات الجديدة التي أقرها مجلس الوزراء السوداني بشكله الجديد، أسس ما يعرف ب(آلية صناع السوق) وهي جسم مستقل تكون مهمته إعلان سعر صرف الدولار بصورة يومية من مقره باتحاد المصارف السوداني. وتتكون الآلية من 11 عضوًا يمثلون خبراء ومديرو بنوك وصرافات لا علاقة لهم بالحكومة.
أما البنك المركزي الذي خرج من تحديد سعر الصرف لأول مرة، فسيعمل على شراء الذهب من التعدين الأهلي بسعر الدولار الذي تحدده آلية “صناع السوق”، على أن يحكم تعامله مع شركات الامتياز قانون الاستثمار والاتفاقيات الموقعة بينهما ولائحة النقد الأجنبي. وهدفت الحكومة من إنشاء الآلية إلى القضاء على السوق الموازية في تجارة العملة إلى جانب محاولة جذب تحويلات المغتربين التي تقدر ب6 مليارات دولار سنويًا.
كما أعلن المركزي عن السماح للبنوك التجارية بشراء وبيع النقد الأجنبي للمواطنين وفقًا للأسعار اليومية المعلنة من آلية تحديد سعر الصرف. وكشف رئيس اتحاد المصارف السوداني عباس عبدالله، في تصريح صحفي، الاثنين، إن “بنك السودان المركزي التزم بتوفير المبالغ المالية اللازمة لتمكين البنوك التجارية عبر فروعها المختلفة، من شراء العملات الأجنبية”، منوهًا إلى أن “البنوك ستوفر النقد الأجنبي للمواطنين لأغراض السفر للعلاج والدراسة”.
من ضمن الإجراءات التي اتخذها رئيس الوزراء، وزير المالية معتز موسى إطلاق صندوق الذهب الاستثماري “بريق”.
وقد خفضت الآلية الجديدة قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار بنسبة بلغت 64% إذ وصل إلى 47.5 جنيه رسميًا يوم الأحد الماضي بدلًا عن 29 جنيه السعر السابق، مما جعل السعر الرسمي يتفوق على سعر السوق السوداء “46.6” فارتبك تجار العملة وتوقفوا عن الشراء والبيع في الساعات الأولى لكنهم سرعان ما استعادوا المبادرة ورفعوا السعر الموازي إلى 51 جنيه للدولار بسعر “الكاش” و51.5 إلى 52 بالسعر الآجل “الشيكات والتحويل المصرفي” .
الجنيه السوداني يهبط لمستوى تاريخي جديد أمام #الدولار
أسعار شراء الدولار بلغت 51 جنيها فيما تراوحت أسعار البيع بين 51.5 – 52 جنيها"https://t.co/JyDuhdbREu pic.twitter.com/y2DfRZ3tB8
— Anadolu العربية (@aa_arabic) October 10, 2018
صندوق “بريق” للاستثمار في الذهب
من ضمن الإجراءات التي اتخذها رئيس الوزراء، وزير المالية معتز موسى إطلاق صندوق الذهب الاستثماري “بريق”. وهو صندوق قصير الأجل بصيغة المضاربة في شراء وبيع الذهب بالعملة المحلية، يكون أجله 12 شهرًا قابلة للتمديد.
وتهدف محفظة “بريق” إلى تمويل شراء 24 طنّا من الذهب خلال عام، برأس مالٍ يعادل قيمة طنين ذهبًا في كل شهر تُقدر قيمتهما النقدية بنحو 3 مليارات جنيه مقسمة إلى 3 ملايين صك بقيمة اسمية قدرها 1000 جنيه للصك الواحد.
ومن المتوقع أن يُطرح الصندوق للاكتتاب في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الحالي لجميع الأفراد والشركات، إذ تُقدَّر كمية الذهب الموجودة في السودان بين 100 إلى 200 طن، كما يسمح للأجانب بالمساهمة في حدود 10% فقط من القيمة الكلية للأسهم.
إلا أن المحلل الاقتصادي السوداني عمرو زكريا،علّق في تغريدةٍ له داعيًا الحكومة إلى إنشاء صندوق للاستثمار في شراء الذهب بصكوك دولارية يكون هدفها جذب مدخرات المغتربين بالعملة الصعبة فضلًا عن الإبقاء على الذهب في “الخيمة السودانية”، بحسب وصفه ــ أي أنه يخشى من تغول شركات التعدين الأجنبية العاملة في البلاد على صندوق الذهب عن طريق شراكات مع مؤسسات وطنية.
#السودان يدشن صكوك الذهب (بريق) بالعملة المحلية. اقترح اصدار صكوك ذهب دولارية لجذب مدخرات المغتربين للداخل بالدولار علي ان تسيل بالدولار او بالذهب العيني. اهم هدفين:
١- جذب مدخرات المغتربين بالعملة الصعبة
٢- الابقاء علي #الذهب في الخيمة السودانية. https://t.co/v2CSSiaSg8
— Amro Zakaria Abdu (@aswagalmal) October 9, 2018
انعدام السيولة يهزم سياسات معتز موسى
صباح الأحد الماضي توجّه عدد من المواطنين الذين بحوزتهم دولارات أميركية إلى البنوك التجارية لبيعها نسبةً لأن الساعات الأولى شهدت ارتباكًا في السوق السوداء بسبب ارتفاع سعر الآلية عن السعر الموازي كما ذكرنا. ولكن للأسف عجزت المصارف عن شراء النقد الأجنبي بالمبلغ الذي حددته آلية صناع السوق لعدم توفر السيولة لديها ليتوجه الناس مرة أخرى إلى السوق السوداء مما أدى إلى المزيد من التدهور في سعر الصرف حيث انحدر الجنيه إلى
ورصدت صحيفة التغيير صفوف من المواطنين المنتظرين، بعضهم وقوف، وآخرون على المقاعد في صالة أحد فروع بنك فيصل الإسلامي بالخرطوم، وهؤلاء معظمهم من الموظفين الذين أودعت المؤسسات رواتبهم في البنوك، توجّه مندوب الصحيفة إلى شباك الصراف المتوقف عن العمل، وسأله إن كان بالإمكان صرف مبلغ (100) دولار، ليجيب دون اكتراث “ليس لدينا مال لنصرف لهؤلاء العملاء، وهم على هذا الحال من الصباح، من أين لنا شراء الدولار؟”
ولـ”نون بوست” يعلق المحلل الاقتصادي وليد دليل بقوله إن “القرارات الأخيرة التي قضت بتحديد آلية سعر الصرف للجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية عليها بعض الملاحظات أهمها تخلي البنك المركزي عن دوره في تحديد سعر الصرف”. وتابع “كما أنه لا توجد سيولة نقدية للجنيه السوداني لدى المصارف وهذا سيفاقم الأزمة”.
يتوقع الخبراء استمرار تدهور العملة السودانية مقابل العملات الحرة خلال الفترة المقبلة نظرًا لعدم وجود احتياط كاف من العملات الأجنبية
وأعرب دليل في حديثه الخاص ل”نون بوست” عن اعتقاده بأن الآلية الجديدة التي تصاحبها عدم وجود السيولة سيؤديان إلى نتائج عكسية مضرة بالاقتصاد على الأجلين القصير والطويل المدى إلى جانب زيادة أسعار السلع الاستهلاكية والخدمات”.
لكن رئيس الوزراء معتز موسى الذي اشتهر ــ على عكس المسؤولين السودانيين ــ بكتابة تغريدات شبه يومية عن نشاطاته، بشّر الأربعاء 10 أكتوبر/ تشرين الأول بحل مشكلة السيولة ابتداءًا من يوم السبت القادم حسبما وعده محافظ البنك المركزي بتغذية الصرافات الآلية التي أصبحت خالية منذ مطلع مارس/ آذار الماضي.
إلا أن مغردين ردوا عليه بأن تغذية الصرافات ــ إذا تمّت ــ لن تحل أزمة السيولة المتفاقمة وبلغ بهؤلاء التشاؤم إلى توقعهم بأن يقوم عملاء البنوك بسحب كافة أموالهم حال توفر النقد في المصارف وأنهم لن يكرروا خطأ توريدها مرة أخرى بعد المعاناة التي عاشوها.
https://twitter.com/MutazMusa10/status/1050007356304752640
الجوانب الإيجابية في السياسات الجديدة
رغم السلبيات التي واكبت تطبيق آلية صناع السوق ومحاولة اللحاق بالسوق السوداء من دون وجود سيولة، فإن هناك إيجابيات لا يمكن إغفالها في السياسات الجديدة ومن أبرزها:
1/ الاعتماد الكامل على الموارد الذاتية وعدم الركض وراء الدعم الأجنبي.. يلاحظ أن القرارات التي اتخذتها حكومة معتز موسى لم تنبنِ على أية ودائع أو مساعدات خليجية، بل إن الرئيس البشير أوقف جولاته المستمرة بين السعودية والإمارات بعد أن أحجمتا عن دعمه برغم المشاركة في حرب اليمن التي أثارت غضبًا شعبيًا واضحًا. وبالمقابل لم تبدِ قطر حماسًا لدعمه إذ يُعتقد أنها لم تكن راضية تمامًا عن موقف السودان في الأزمة الخليجية الأخيرة ولذلك لم يكرر عمر البشير زيارته الوحيدة لها منذ اندلاع الأزمة.
2/ رئيس الوزراء معتز موسى اتخذ قرارات شجاعة تدعم الإنتاج فقد رفع السعر التركيزي لشراء جوال القمح زنة 100 كلجم من المزارعين إلى 1800 جنيه للجوال الواحد، بدلًا عن السعر التركيزي للموسم السابق الذي بلغ 750 جنيها. كما تم التوسع في زراعة أكثر من 45 مليون فدان من المحاصيل المختلفة، أي أكثر بنحو 30% من متوسط الموسم الزراعي الصيفي.
3/ ويُحمَد لموسى أنه يتخذ من منصّة “تويتر” كنافذة للتواصل مع الجمهور كبادرة لم تحدث من مسؤول سوداني من قبل، ما يعني اهتمامه بإيصال المعلومة للشعب وربما يقرأ التعليقات والتفاعلات لمعرفة رأي الجمهور في قرارات الحكومة.
ما يزال من المبكر الحكم على مدى فاعلية ونجاح آلية صناع السوق في كبح جماح الدولار لكن الأيام الماضية لم تشهد أي توقف أو حتى انخفاض في حجم تداول العملة في السوق السوداء، ويعتقد العديد من المراقبين والمحللين أن القرارات الأخيرة لن تنجح في جذب تحويلات المغتربين الذين يرون أن الحكومة تنظر إليهم كبقرة حلوب Cash Cow ولا يهمها غير تحصيل الرسوم والضرائب الباهظة منهم. هذا إلى جانب انعدام الثقة في الجهاز المصرفي وعدم مقدرته على توفير المبالغ النقدية حتى الآن.
كما يتوقع الخبراء استمرار تدهور العملة السودانية مقابل العملات الحرة خلال الفترة المقبلة نظرًا لعدم وجود احتياطي كاف من العملات الأجنبية ولكن الوضع قد يتحسن مستقبلًا إذا تركز اهتمام الحكومة على تشجيع الإنتاج وتحفيز المزارعين وصغار المنتجين.