تعاني المنطقة العربية منذ عقود من أحداث وصراعات وضائقات سياسية حادة، ما انعكس ولا يزال ينعكس على الأوضاع الاجتماعية والانسانية للشعوب والأفراد من مختلف المراحل العمرية بدءًا من الطفولة وحتى المراحل المتقدّمة جدًا من العمر. فقد يعتقد الكثيرون أنّ الأحداث السياسية الحاصلة لا تتقاطع بالضرورة مع الصحة النفسية للطفل، إلا أنّنا يجب أنْ نتفقَ بدايةً أنّ العواطف والمشاعر والحالات النفسية والمزاجية القوية هي معدية بالضرورة، خاصة اضطرابات القلق بأنواعها المختلفة. وبينما يمكن للقلق الانتشار والتفشّي بين الأفراد بسهولة، يبقى الأطفال الأكثر ضعفًا وهشاشةً على مواجهته والتعامل معه.
إذ يفتقر الأطفال في سني حياتهم الأولى إلى القدرة المتطوّرة على التعاطي مع المعلومات وفهم الأحداث التي تحدث أمامهم وحل مشكلاتها المعقّدة بأنفسهم، ممّا يصبح من الصعب عليهم فصل هموم وقلق الأشخاص المحيطين بهم، لا سيّما البالغين، عن أوهامهم ومخاوفهم وخيالاتهم غير الصحيّة عن العالم من حولهم. وعلى أنّ العديد من الآباء يسعى بشكلٍ جديّ إلى إبعاد أطفالهم عن الأحداث السياسية الحادة وتجنيبهم التعرّض للأخبار ووسائل الإعلام ومواقع السوشيال ميديا التي تتعلق بالسياسة، إلا أنّه في أوقات كثيرة يصعب عليهم التحكّم في قلقهم ومخاوفهم أمام أطفالهم، خاصة وأنّ الأحداث المشحونة لا تكاد تختفي أو تنتهي من واقعنا.
القلق عند الأطفال
تشير الدراسات إلى أنّ واحدًا، على الأقل، من بين كلّ أربعة أطفال في العالم مصابٌ بقلق الطفولة. ولكي نفهم ماهية قلقهم فيمكننا القول أنّه في المراحل العمرية الأولى فغالبًا ما يكون القلق مبنيّ حول الأشياء التي مرّوا بها بحيث يكونون أقل قدرة على تفصيل همومهم ومخاوفهم إلى أشياء تتجاوز خبرتهم وتجاربهم. وفي عمر الثامنة، يبدأ الطفل في تطوير أفكاره ومعتقداته فيما يتعلّق بقلقه وتوتّره، مثل أنْ يعتقد أنّ قلقه مرتبط بحدوث أشياء سيّئة أو مخيفة، أو أنْ يقلق بشأن غياب أمّه أو غضب أبيه أو تعامل زميله مع في المدرسة.
في سنّ العاشرة تقريبًا فيعاني الطفل من اضطراب القلق العام والذي يرتبط في الوقت نفسه بالعوامل الأسرية والاجتماعية والسياسية المحيطة
وبحلول الوقت الذي يصل فيه الطفل إلى عمر الثانية عشر ومرحلة المراهقة، يصبح قادرًا بالفعل على تحديد مسبّبات قلقه وعوامله مثل المدرسة والعلاقات الأسرية والاجتماعية ومشاعره الجديدة وتجاربه العاطفية. وبكلماتٍ أخرى، تختلف العوامل المؤدية إلى قلق الأطفال تبعًا لتطوّرهم المعرفيّ والإدراكيّ.
ووفقًا لعددٍ من خبراء الصحة النفسية والعقلية، فإن 9% من الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة يعانون من قلق الطفولة، وفي عمر السادسة تظهر لديهم أعراض قلق الانفصال، وهو نوع القلق الناشئ عن المبالغة المفرطة في إظهار الخوف والضيق عند مواجهة حالات الانفصال عن الوالديْن أو العائلة أو المنزل أو أيّ شخص مقرب. أمّا في سنّ العاشرة تقريبًا فيعاني الطفل من اضطراب القلق العام والذي يرتبط في الوقت نفسه بالعوامل الأسرية والاجتماعية والسياسية المحيطة، تمامًا مثله مثل البالغين من حوله. وبدايةً من عمر الثالثة عشر، قد تظهر على الطفل أعراض اضطراب القلق الاجتماعي، وهو عبارة عن اضطراب يعاني فيه الفرد من القلق الشديد والتوتر الزائد في المواقف التي يشعر فيها بأنه محطّ الأنظار والتركيز، خوفًا من حُكم الآخرين عليه.
الاضطرابات النفسية تأخذ منحىً جماعيًّا في العالم العربيّ، الأمر الذي يُمكن تعريفه وفقًا لعالم النفس الاجتماعي “غوستاف لوبون” بمصطلح “العدوى السلوكية” أو “العدوى المجتمعية”
أمّا أعراضه فتختلف باختلاف نوع الاضطراب، لكنها بشكلٍ عام تتراح بين أوجاع البطن والإرهاق والإعياء المستمرّين، والغضب وضعف التركيز، إضافةً إلى الأرق ومشاكل النوم، وتجنّت النشاطات اليومية الاعتيادية مثل الاجتماع مع العائلة أو اللعب مع الأصدقاء أو عدم الرغبة بالخروج من المنزل والذهاب للمدرسة.
كيف نفهم قلق الأطفال في العالم العربيّ؟
لو نظرنا للواقع العربي، لوجدنا أنّ الاضطرابات النفسية تأخذ منحىً جماعيًّا عميقًا، الأمر الذي يُمكن تعريفه وفقًا لعالم النفس الاجتماعي “غوستاف لوبون” بمصطلح “العدوى السلوكية” أو “العدوى المجتمعية”، أي انتقال السلوكيات والأفكار والمشاعر والانفعالات من شخص لآخر نتيجة التفاعل والتأثر الاجتماعي.
ومثله مثل غيره من الاضطرابات النفسية والعقلية، لا يمكن أبدًا الإتيان بسبب واضح وأساسي ووحيد لتحميله مسؤولية ظهور القلق عند الأطفال. حيث يُعتقد أنّه مزيجٌ محتمل من العوامل الجينية والوراثية وكيمياء الدماغ الحيوية للطفل من جهة، والسلوكيات المتعلّمة أو المكتسبة ونمط المعيشة وتغيرات الحياة المُجهدة والمليئة بالتوتّر من جهةٍ ثانية، بحيث أنّ الطفل الذي يعاني أحد والديه من واحدٍ من اضطرابات القلق تكون لديه فرصة أكبر لتطويره في طفولته المبكّرة.
إذا أبدى أحد الوالديْن قلقه وتوتّره وخوفه، يبدأ الطفل ببناء مجموعة من السيناريوهات الإدراكية غير الآمنة في عقله والتي يمكن لها أنْ تتطوّر إلى نفس الأعراض التي يعاني منها الوالديْن.
إذ يعجز الطفل قبل الصف الثالث أو الرابع عن تكوين الأفكار العقلانية المنظّمة ورؤية العلاقات بين الأشياء من حوله، وهي المهارات التي تحدث في المرحلة الثالثة من مراحل “التطوّر المعرفيّ عند الأطفال” التي وصفها عالم النفس السويسري “جان بياجيه“. فقبل الوصول إلى هذه المرحلة، يعجز الطفل عن الربط بين السبب والنتيجة، وبدلًا من ذلك فتراه يميل إلى تفسير الأشياء من خلال عدة تفسيرات خيالية أو غير عقلانية.
وبما أنّ الطفل في هذه المرحلة العمرية لا يستطيع ترجمة الأسباب المتعلقة بالأشياء من حوله، فإنّه يتطلّع إلى والديه للحصول على المعلومات التي تساعده في تفسيرها وفهمها. فإذا أبدى أحد الوالديْن قلقه وتوتّره وخوفه، يبدأ الطفل ببناء مجموعة من السيناريوهات الإدراكية غير الآمنة في عقله والتي يمكن لها أنْ تتطوّر إلى نفس الأعراض التي يعاني منها الوالديْن.
القلق والمرض النفسيّ في العالم العربيّ.. أرقام مخيفة!
نظرًا لأنه من الصعب إيجاد معلومات وإحصاءات دقيقة يمكن الاعتماد عليها لوصف اضطرابات القلق وغيره في العالم العربيّ، لأسباب ضعف البحث العلمي من جهة والعائق الاجتماعيّ الذي ينظر للمرض النفسيّ كوصمةٍ أو الجهل ونقص الوعي فيما يتعلّق به من جهةٍ ثانية، إلا أنّ العديد من الدراسات المتواضعة تستطيع إخبارنا ببعض المعلومات التي يمكننا من خلالها النظر إلى الصورة الكاملة للوضع في المنطقة.
فقد وجدت دراسة أجريت عام 2009 أنّ أكثر المشاكل انتشارًا في المجتمع السعوديّ هي اضطراب القلق العام. فيما وجدت دراسة أخرى صدرت عن المكتب الإقليمي لشرق المتوسط لمنظمة الصحّة العالمية أنّ واحدًا من بين كلّ خمسة أشخاص في العالم العربيّ يعانون من أعراض الاكتئاب أو القلق. وكشفت دراسة صادرة عن “المعهد الدنماركي ضد التعذيب” عام 2014، أنّ حوالي ثلث الشعب الليبي يعاني من مشكلات نفسية بحيث أن 29% يعانون من التوتر و30% من الاكتئاب، فيما بلغت نسبة الافتقاد إلى الشعور بالأمن حوالي 46.4% بين الأفراد. وعلى ذلك قِس.
مما لا شكّ فيه أنّ تنشئة طفلٍ تنشئةً سليمة خالية من القلق والتوتّر في عالمنا العربي وفي ظلّ الأوضاع السياسية المتأزمة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة لهو أمرٌّ صعب الحدوث
ما بعد الطفولة
تُخبرنا العديد من الدراسات والأبحاث بأنّ اضطرابات القلق في الطفولة تُعدّ مسؤولةً بشكلٍ أساسي وجوهري عن العديد من الاضطرابات والمشاكل النفسية والعقلية في المراحل ما بعد سنّ البلوغ. فقد توصّلت دراسة بريطانية إلى أنّ الأطفال الذين تعرضوا لاضطرابات القلق قبل سن السادسة كانوا أكثر عرضة للانعزال والاكتئاب عند البلوغ من غيرهم من الأطفال الذين شملتهم الدراسة.
لذلك، على الآباء أن يكونوا واعين لكيفية تعاملهم مع الإجهاد والقلق الخاص بهم، سواء كان ذلك يتعلق بالسياسة أو ضغوط أخرى، للتأكد من أنهم لا يمررونها إلى أطفالهم. ولا يكفي أبدًا أنْ تكون وسيلتهم الوحيدة لحمايتهم هي منعهم من التعرّض للأخبار ومعرفة المستجدات أو متابعة وسائل التواصل الاجتماعيّ. وقد يرغب الأطفال الأكبر سنًّا في الحصول على بعض الإجابات والتفسيرات، لذلك على الوالديْن محاولة تقديمها لهم بطريقة مبسّطة تتناسب مرحلتهم العمرية.
وبالنهاية، فانتقال القلق من الوالد إلى الطفل ليس أمرًا حتميًا لكنه سهل الحدوث. ومما لا شكّ فيه أنّ تنشئة طفلٍ تنشئةً سليمة خالية من القلق والتوتّر في عالمنا العربي وفي ظلّ الأوضاع السياسية المتأزمة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة لهو أمرٌّ صعب الحدوث. فالعدوى الاجتماعية قد تكون أقوى بكثيرٍ من مقاومة النفس للأمراض العقلية والاضطرابات النفسية. لكنّ وعيَ الآباء بقلقهم واضطراباتهم ومحاولتهم لفهمها وفهم كيفية حدوثها وأعراضها تساعدهم بشكلٍ كبيرٍ على التعامل معها بطريقةٍ لا تزيد من تفاقمها من جهة، ولا تجعلها قابلة للانتقال إلى أبنائهم وأطفالهم من جهةٍ أخرى.