ترجمة وتحرير: نون بوست
“لقد نجح هذا النظام”، من خلال هذه العبارة الشهيرة وصف ليزلي غيلب عمليات صنع السياسات الأمريكية أثناء حرب الفيتنام. لكن غيلب لم يقصد أن الحملة العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة ضد خصومها في شبه الجزيرة الهندية الصينية كانت فعالة، نظرا لأنه كان يعتقد عكس ذلك، حيث وصف الحرب “بالمأزق”.
كان غيلب يهدف من خلال هذا الوصف إلى الإشارة إلى تَمكن الاستراتجيين الأمريكيين من التوصل إلى نتائج ملموسة عبر تكريس سياساتهم. وتتمثل هذه النتائج في حرب باهظة الثمن، لا يمكن الفوز بها، ولكنها على الأقل نجحت في عرقلة انتصار الشيوعيين على المدى القصير. وقد زعم غيلب أيضا أن القادة الأمريكيين لم تكن لهم نية الفوز في حرب الفيتنام، وقد أرسلوا عشرات الآلاف من الجنود ليلاقوا حتفهم هناك ببساطة، حتى يبقى جنوب فيتنام تحت سيطرتهم.
بعد مرور ثلاثين سنة، استخدمت سامانثا باور العبارة ذاتها لوصف تقاعس الولايات المتحدة الأمريكية في التدخل في عملية الإبادة الجماعية التي حدثت في رواندا. وفي هذا السياق، قالت باور: “لقد نجح النظام”، أي بمعنى أن سياسة عدم التدخل التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن محض صدفة بل كانت خيارا مدروسا من جانب المسؤولين في السلطة. وقد كان بوسع صانعي القرار إيجاد حلول للمذبحة التي تسببت في مقتل 800 ألف مواطن رواندي إذا كانوا يريدون ذلك فعلا.
بدلًا من التعاون لفرض وقف لأعمال العدوان، عززت القوى الخارجية جهودها لتوفير الأسلحة والمعدات، وتدريب المقاتلين المحليين، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، لضمان استمرار الحرب
من جهة أخرى، لم تتحرك إدارة كلينتون للتدخل في مثل هذه الوقائع، نظرا لأن إيقاف مثل هذه الفظائع لم يكن ضمن أولوياتها، خاصة وأن الأهداف السياسية تعد أكثر أهمية. أما اليوم، فمن المنصف القول إن النظام العالمي قد أثبت نجاعته في الوضع السوري الراهن. لكن هذه المرة، لا يمكن توجيه اللوم للمسؤولين الحكوميين غير البارزين والسياسيين الأمريكيين غير الواثقين، نظرا لأن الخطأ بالأساس يكمن في صلب النظام في حد ذاته.
على امتداد سبع سنوات ونصف من الذبح الجماعي والمعاناة التي يصعب وصفها في سوريا، الأمر الذي لا يزال مستمرا إلى سنة 2018، قُتل أكثر من 500 ألف شخص وتشرد أكثر من نصف سكان البلد. ومن الواضح أن القواعد الأساسية للمجتمع الدولي لا تعمل بشكل ملائم كما هو متوقع. ويمكن اعتبار أن هذه الفظاعة غير المحدودة، تعد في جزء منها، نتاجا متوقعا لهذا النظام العالمي الذي تم تصميمه لخدمة مصالح الدول القوية على حساب الضعفاء.
اندلعت الحرب الأهلية السورية في آذار/مارس من سنة 2011. وفي غضون أشهر، بدأت الحكومات الإقليمية الأخرى بتمويل وتسليح الجماعات المعارضة
عادة، لا يُنظر إلى هذا النظام العالمي على أنه مجموعة من القواعد التي تسمح بإساءة معاملة المدنيين بشكل فاضح. لكن، تتمثل الفكرة السائدة في أنه منذ الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد سنة 1991، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بترسيخ جملة من القواعد الدولية المشتركة لجعل العالم، على وجه العموم، مكانا أفضل وأكثر تسامحا وتحضرا. وقد سادت مخاوف، لفترة طويلة، من أن بعض القوى الاستبدادية، على غرار الصين وروسيا، ستطيح بالنظام الليبرالي لصالح أجندتها غير الإنسانية. ومنذ انتخاب دونالد ترامب، تزايد القلق بشأن عمل الولايات المتحدة نفسها بخرق هذه القواعد الليبرالية.
صرح البعض أن هذا النظام القائم على هذه القواعد لا يمتثل لهذه المبادئ أو النظم المفروضة حسب ما يروج له مناصروه. ويبدو أن هذه الإدعاءات تتضمن قدرا كبيرا من الحقيقة. مع ذلك، لا يجب إنكار وجود نظام دولي قائم على قواعد محددة، نظرا لأن بعض هذه القواعد والقيم معتمدة من قبل أقوى الحكومات في العالم والتي يبدو أنها تستند إليها فيما يتعلق بسياساتها الخارجية. لكن، يبدو أن هذه القواعد لا تعطي في معظم الحالات أهمية كبيرة لحياة المدنيين العاديين وكرامتهم. ويتجلى الجانب المظلم لهذا النظام العالمي، بشكل مؤلم، في القضية السورية.
اندلعت الحرب الأهلية السورية في آذار/مارس من سنة 2011. وفي غضون أشهر، بدأت الحكومات الإقليمية الأخرى بتمويل وتسليح الجماعات المعارضة. كما طالب عدد منها بإقالة بشار الأسد، بحجة أن السلام في البلاد لا يمكن أن يتحقق إلا في حال تنحى الدكتاتور عن الحكم.
لم يشاهد العالم تحركات ومشاركات فعالة من جانب القوى الكبرى في الحرب السورية إلا بعد ثلاث سنوات من اندلاع الصراع. خلال تلك الفترة، قُتل عشرات الآلاف من السوريين على أيدي القوات الموالية للأسد، والمعارضين المناهضين للحكومة، أيضا وبسبب المرض والجوع.
على الرغم من ذلك، لم يكن هناك نقاش جاد حول التدخل العسكري أو حتى التدخل الدبلوماسي لفرض هدنة بين الأطراف المتنازعة. وفي حال كانت السيادة تفرض “مسؤولية حماية البلد” على نظام الأسد، فإن ذلك لم يطبق بالنسبة للوضع السوري، في حين لم يصر المجتمع الدولي على ذلك.
في الوقت الذي اتفق فيه المجتمع الدولي على عدم جواز استخدام الأسلحة الكيميائية، لم يكن هناك اعتقاد مشترك بين معظم حكومات العالم بوجوب وقف الجرائم التي ترتكب بحق نصف مليون مواطن، عن طريق وسائل أخرى.
بدلا من التعاون لفرض وقف لأعمال العدوان، عززت القوى الخارجية جهودها لتوفير الأسلحة والمعدات، وتدريب المقاتلين المحليين، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، لضمان استمرار الحرب. بالنسبة للعالم، يعد ضمان فوز “الشق اليميني” في سوريا أكثر أهمية من وضع حد للقتال، الذي لا يزال مستمرا إلى حد الآن.
برزت أولى العلامات التي أكدت أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تستخدم قوتها العسكرية في سوريا خلال شهر آب/ أغسطس، حين استخدمت قوات الأسد الأسلحة الكيميائية في المناطق الخاضعة للمعارضة في دمشق. وقد أدى استعمال هذه الأسلحة إلى خرق ما يسمى “بالخط الأحمر” الذي وضعه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. في الأثناء، شرع أوباما بالتخطيط لضربة عسكرية ضيقة النطاق لمحاسبة الحكومة السورية على جرائمها، لكن ذلك لم يحدث. ولم يستطع أوباما حتى الحصول على الدعم السياسي، خارجيا كان أو داخليا، لما وصفه جون كيري بهجوم “ضيق النطاق بشكل لا يصدق” ضد الأسد.
عوضا عن ذلك، انضمت الولايات المتحدة إلى روسيا، التي تعتبر حليفا مقربا من الأسد، لتطبيق حل دولي لمعضلة الأسلحة الكيميائية في سوريا. وأدى هذا الأمر إلى إصدار قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2118، الذي أجبرت سوريا بموجبه على التخلي عن ترسانتها الكيميائية وتفكيكها. بشكل عام، سمح هذا القانون بالتعامل مع الجرائم التي يقترفها نظام الأسد من خلال قانون دولي عام، وهو ما دفع أوباما إلى الإقرار بأنه قد حقق نجاحا دبلوماسيا.
مكنت النتائج المنبثقة عن هذا القرار روسيا من حماية حليفها السوري من التعرض لهجوم مسلح، ومنحت بشار الأسد الضوء الأخضر لمواصلة حربه ضد المقاتلين، الذين يطمحون لاسترداد مناطق نفوذهم. وعموما، يمكن القول إن النظام الدولي عمل بشكل جيد، حيث حصل جميع الأطراف على ما يريدونه، باستثناء المدنيين الذين كانوا يرزحون تحت وطأة النظام السوري عديم الشفقة.
في السنة الموالية، شنت الولايات المتحدة حملات عسكرية تتمثل بالأساس في توجيه ضربات جوية للأراضي السورية، وذلك فقط للحد من السيطرة الإقليمية الهائلة لتنظيم الدولة في المنطقة. وبالنسبة للدول الغربية، كان تنامي قوة تنظيم الدولة يعني تحول الحرب السورية من مجرد أزمة إنسانية إلى تهديد أمني لم يعد بالإمكان تجاهله. ولم يمثل التنظيم تهديدا للحكومة في العراق، المدعومة من قبل الولايات المتحدة فحسب، لكن المقاتلين المنتمين للتنظيم تبنوا العديد من الهجمات الإرهابية ضد أهداف غربية. ونتيجة لهذا التهديد، حشدت الولايات المتحدة قواتها للمشاركة في العمليات العسكرية في سوريا.
تزامنا مع تولي دونالد ترامب لزمام الأمور في البيت الأبيض في كانون الثاني/ يناير 2017، كان من الواضح أن المجتمع الدولي يحابي أطرافا على حساب آخرين عندما يتعلق الأمر بالأزمة السورية
على الرغم من ذلك، حرصت إدارة أوباما على عدم مهاجمة المواقع التابعة للحكومة السورية تجنبا لإثارة أي مواجهات مع روسيا، حيث كان التدخل الذي تقوده الولايات المتحدة موجها بالأساس لدحر تنظيم الدولة. وأثناء تنفيذ هذه العمليات، حرص جميع الأطراف على التنسيق فيما بينهم وتفادي الخلافات بين الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا. وفي الوقت المناسب، تم التوصل إلى وضعية ملائمة بالنسبة لجميع الجهات تقضي بمهاجمة القوى الخارجية لكل الأطراف التي لا تتبع أي دولة في سوريا، على غرار تنظيم الدولة وقوات المعارضة، مع إفلات نسبي من العقوبة، حيث يفترض كل طرف أن الطرف المقابل سيقوم بالأمر ذاته.
نتيجة لذلك، وقع انتهاك سيادة نظام الأسد بشكل جزئي. وخلال الحرب السورية، لم تقم أي دولة أجنبية بشن هجمات مباشرة ومستمرة ضد نظام بشار الأسد وسيادته. ومن هذا المنطلق، وقد ضمن الداعمون للأسد في روسيا أن قواعد النظام الدولي ستصمد وستستمر في العمل لصالح الحكومة ذات السيادة الشكلية في دمشق.
تزامنا مع تولي دونالد ترامب لزمام الأمور في البيت الأبيض في كانون الثاني/ يناير 2017، كان من الواضح أن المجتمع الدولي يحابي أطرافا على حساب آخرين عندما يتعلق الأمر بالأزمة السورية. وخلال المعارك التي استمرت ست سنوات، سمحت القوى الخارجية بالتدخل في السياسة الداخلية السورية، وأقرت بأنه يحظر استخدام الأسلحة الكيميائية، ناهيك عن كون سيادة واستمرار نظام الأسد أمران لا مفر منهما. وتمحورت اتفاقيات الدول الغربية بشأن سوريا حول هذه النقاط، غير آبهة بمعاناة الشعب السوري ودون تكليف نفسها عناء القيام بأي خطوة فعالة لإنهاء هذه المعاناة.
في هذا الصدد، كانت الضربتان العسكريتان اللتين وجههما دونالد ترامب ضد الحكومة السورية تندرج في هذا الإطار. ففي سنتي 2017 و2018، أمر الرئيس الأمريكي بشن ضربات جوية على منشآت عسكرية تابعة للأسد بهدف معاقبته على استخدامه للأسلحة الكيميائية. فقد كان يرى رفقة مؤيديه أن استخدام الرئيس السوري لمثل هذه الأسلحة يقع خارج نطاق سلطته، وأنه عمل بربري يستوجب معاقبته باستخدام القوة العسكرية. ومن المعلوم أن العديد من جرائم الأسد لم يقع إيلاء أي أهمية لها من طرف الولايات المتحدة أو حلفائها أو أي طرف آخر. وفي مواجهة الأسد، لم تستطع الحكومة الأمريكية سوى توجيه ضربات جوية محدودة، طالما أن الرئيس السوري في حماية موسكو.
في الوقت الذي كان يقع فيه قتل المدنيين بوسائل وطرق متعددة، اقتصر النظام الدولي على إصدار قوانين تحظر استخدام حكومة الأسد للأسلحة الكيميائية
سلطت الأزمة السورية الضوء على حقيقة لا يمكن إنكارها ويجب التركيز عليها. ففي الوقت الذي اتفق فيه المجتمع الدولي على عدم جواز استخدام الأسلحة الكيميائية، لم يكن هناك اعتقاد مشترك بين معظم حكومات العالم بوجوب وقف الجرائم التي ترتكب بحق نصف مليون مواطن، عن طريق وسائل أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من البيانات بشأن جرائم القتل الجماعي والعشوائي والاغتصاب والتجويع والتعذيب مرت على مسامع المشرفين الرئيسيين على تطبيق النظام الدولي دون أن يعملوا على وضع حد لها، وذلك نظرا لعدم وجود قواعد فعلية للوقاية منها. ولا يمكن القول إن هذا التجاهل يعني أن زعماء العالم لا يلقون بالا لمعاناة الشعب السوري، لكنه يشير فقط إلى أن عددا قليلا منهم فقط وافق على إقرار قوانين تضع مصلحة المواطنين العاديين في المقام الأول.
ربما يجب أن يكون الوضع على هذا الشكل. ربما تكون القوى الكبرى محقة في سعيها للحفاظ على استقرار العلاقات فيما بينها وفرض مبادئ السيادة والسلامة الإقليمية وتفضيلها على المسائل الإنسانية. ومن المحتمل أن النظام الدولي والاستقرار والاستمرارية تعتبر أهدافا تخدم بشكل ما المصلحة العامة. وحتى لو كان هذا الأمر صحيحا، لا بد من الاعتراف بأن النظام الدولي الحالي يمثل مجموعة من القواعد ذات الطابع الرسمي التي تتبنى معايير سلوك متساهلة، في حين لم يبذل، بالاستناد إليها، أي مجهود يذكر لتخفيف معاناة السوريين. ومن المرجح أن هذا النظام جعل الأمور أسوأ بالنسبة لسوريا مقارنة مما سيكون عليه الوضع من دونه.
بناء على هذا المنطق البشع الذي يقر بأن النظام الدولي يمتلك تأثيرا فعالا في سوريا، وقع سن بعض القوانين التي تسمح لبعض القوى الخارجية بضرب الجهات غير الحكومية مثل تنظيم الدولة ومقاتلي المعارضة. وفي الوقت الذي كان يقع فيه قتل المدنيين بوسائل وطرق متعددة، اقتصر النظام الدولي على إصدار قوانين تحظر استخدام حكومة الأسد للأسلحة الكيميائية. ومن الجيد أن الحرب الأهلية في سوريا لم تتسبب في نشأة أي حرب بين القوى العظمى. عموما، تعتبر كل هذه الأمور نتاج عمل النظام الدولي وفقا للأسس التي وضع عليها. ومع ذلك، يبدو أن هذا النظام يعد المتسبب الرئيسي في معاناة الشعب السوري الهائلة والمستمرة.
المصدر: ناشيونال إنترست