ترجمة وتحرير: نون بوست
أدت سلسلة من الاضطرابات إلى إحداث تغييرات في قيادة الجهاز الأمني القوي في الجزائر، بالإضافة إلى إجراء تحويرات في المناصب العليا للجيش والشرطة وقوات الأمن في البلاد. ولا تزال الأسباب والدوافع غير المسبوقة لإدارة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، المستمرة في الحكم منذ 19 سنة، غير واضحة.
مع ذلك، تشير طبيعة وتوقيت اتخاذ هذه القرارات إلى النية المُبيّتة وراء تنفيذها. في الأثناء، تظل الشؤون السياسية الداخلية في الجزائر غامضة، مما يجعل من الصعب معرفة ما الذي يحدث بالضبط في العاصمة الجزائرية. في المقابل، تشير التفاصيل المرتبطة بعمليات إعادة التنظيم العسكري إلى جهود متبادلة بين الجيش والرئاسة للحفاظ على السيطرة.
فخلال حزيران/ يونيو الماضي، انطلقت الإجراءات المتعلقة بالتغييرات في القيادة بشكل جدي، عندما تمت إقالة عبد الغني هامل، المدير العام للأمن الوطني الجزائري. وقد جاءت هذه الخطوة بعد أن تمكن الجيش والشرطة في عملية مشتركة من ضبط شحنة ضخمة من المخدرات قبالة السواحل الجزائرية.
على إثر مصادرة هذه الشحنة، انتشرت شائعات في وسائل الإعلام الجزائرية تفيد بأن بعضا من أعوان الشرطة الفاسدين كانوا متورطين في تهريب هذه المخدرات. ومنذ ذلك الحين، تمت إقالة أكثر من 12 مسؤولا أمنيا وعسكريا من مناصبهم، وتم تبرير هذه القرارات كونها جزءا من الجهود واسعة النطاق لمكافحة الفساد.
تمثل الدولة والجيش والحزب (تحديدا حزب جبهة التحرير الوطني الجزائري) الزوايا الثلاث في مثلث تقاسم السلطة التقليدي في الجزائر
أما في شهر آب/ أغسطس، فقد تمت أيضا إقالة أربعة من أصل ستة قادة عسكريين إقليميين جزائريين، بالإضافة إلى خمسة من القادة الإقليميين الستة لقوات الدرك. وفي أيلول/ سبتمبر، تم عزل عدد آخر من المسؤولين من قوات الدرك والجيش من مناصبهم، وتمت إحالتهم إلى المحاكم العسكرية للتحقيق في اتهامات موجهة ضدهم متعلقة بالفساد المالي. وحتى الآن، لا زال الجيش يضم ثلاثة فقط من كبار الجنرالات الذين يعملون منذ العهد الذي سبق بوتفليقة، والذين كان عددهم بين 12 و24 جنرالا، من بينهم رئيس الأركان، الجنرال أحمد قايد صالح، الذي كان مسؤولا عن التغييرات في صفوف الأمنيين.
المكانة الرفيعة للجيش في المجتمع الجزائري
تمثل الدولة والجيش والحزب (تحديدا حزب جبهة التحرير الوطني الجزائري) الزوايا الثلاث في مثلث تقاسم السلطة التقليدي في الجزائر. وخلافا لمصر، حيث تسيطر القوات المسلحة على الاقتصاد والحكومة، يدعم الجيش الجزائري جميع وظائف الدولة. وباعتبار أن الجيش الوطني الشعبي الجزائري ساعد القوات المسلحة الثورية، التي فازت بالقتال الدموي الجزائري من أجل الاستقلال عن فرنسا، يقدر الجزائريون جهوده البطولية. فضلا عن ذلك، تم تعزيز صورة الجيش كأكبر حامي للجزائر، وذلك عند تغلبه على المتشددين المتطرفين في الحرب الأهلية في البلاد خلال التسعينيات.
تجدر الإشارة إلى أن إجبارية الخدمة العسكرية لجميع الذكور قد عززت من شعبية القوات المُسلحة في الجزائر، حيث صارت الخدمة العسكرية عبارة عن دليل واضح على الوطنية، فضلا عن أنها توفر تجربة ثقافية مشتركة بين جميع الطبقات الاجتماعية، الغنية والفقيرة. (تثير إجبارية الخدمة العسكرية الجدل في الجزائر أقل مما يمكن أن تثيره في بلدان أخرى، ذلك أن القطاع الخاص في الجزائر لا يزال ضعيفا نسبيا، على الأقل بالمقارنة مع بيروقراطية القطاع العام في البلاد).
من جهة أخرى، تسيطر النخبة العسكرية التي تقود البلاد على رتب الجيش، كما أن تصوراتها بشأن مكانته الرفيعة تثير سخط عامة الشعب. ومن خلال تعمّد ذلك، يأتي تأثير الجيش في السياسة في الغالب من خلف الكواليس، حيث أن جزءا من ذلك ينبع من حب البقاء. عموما، لا يستخف الجزائريون بالمفهوم القائل إن قوة خفيّة توجه شؤون البلاد. ففي نكتة جزائرية ساخرة حول علم البلاد، يقال إن اللون الأخضر يمثل الإسلام. أما اللون الأحمر فيمثل دماء الشهداء (في حرب الاستقلال والحرب الأهلية في التسعينيات)، بينما يمثل اللون الأبيض لوحة قماشية بيضاء تشير إلى تاريخ البلاد، الذي تم محوه بصفة كلية بسبب المراجعات الذاتية التي يقوم بها الجيش.
بعيداً عن نظرية الانقلاب، قد يكون رئيس أركان الجيش، أحمد قايد صالح، الرجل الذي يعيد ترتيب أركان القيادة العسكرية تمهيدا لولاية بوتفليقة الخامسة، خاصة في ظل المشاكل الصحية التي يشكو منها الرئيس
مع ذلك، حاول الجيش منذ فترة أن يظهر في موقف المحايد في المشهد السياسي الجزائري، بالإضافة إلى الظهور في صورة الحامي الأساسي للبلاد. وقد يكون هذا أمرا ممكنا في الجزائر، خاصة وأن قوات الجيش لا تخضع لمراقبة حقيقية فيما يخص قواته المحلية. في الواقع، يحتل الجيش موقعا “مريحا” وبعيدا عن السياسة الحزبية، كما أنه يحظى بالاحترام ومهابة الحكومة المدنية.
في هذا الإطار، أثار التصريح الأخير لزعيم الحزب الإسلامي الرئيسي في الجزائر “حركة مجتمع السلم”، الذي دعا أحمد قايد صالح لإيجاد حل للقليل من الفوضى السياسية الحالية في البلاد، ردود أفعال سلبية في صفوف المعارضة والجيش على حد سواء. وعلى إثر رفض طلبه، أكد قايد صالح استقلال الجيش وقوته، حيث قال إن “الجيش يعرف حدوده ومهامه الدستورية. لذلك، لا يمكن أن يشارك في المشادات بين الأحزاب والسياسيين”. وتعكس هذه التصريحات الحقيقة التي تؤكد أنه في حين لم تكن لدى قيادة الجيش الجزائري نية للتخلي عن قوتها المتأصلة، فهي لا تريد أن تجعل نفسها هدفا مرئيا للسياسات الحزبية.
يتمثل أحد الأسباب المنطقية للتعديلات الأخيرة في أن الحاشية المقربة لبوتفليقة قامت بعملية تطهير لضمان ولاء الجيش التام قبل الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها سنة 2019. وقد ولّد قرار بوتفليقة، المُتمثل في الترشح للانتخابات لفترة خامسة، آراء متباينة داخل الحقل السياسي الجزائري حول ما إذا كان توليه لفترة رئاسية قادمة سيعود بالنفع أم الضرر على البلاد. في الأثناء، أشارت معظم الأحزاب السياسية إلى دعمها لبوتفليقة، بينما أثار القرار مخاوف بعض الجماعات المعارضة الناشئة، على غرار “حركة مواطنة”، فيما يتعلق بمستقبل الوضع الاقتصادي الجزائري.
لا تستبعد هذه الفكرة احتمال قلق الحاشية المُقربة من بوتفليقة من إمكانية حدوث انقلاب عسكري ضد الزعيم المسن، وهذا ما تؤكده الإطاحة بأقرب حلفاء أحمد قايد صالح داخل القوات المسلحة، مما يشير إلى أن قايد صالح يتصرف وفقا لأوامر بوتفليقة وأن الحكومة تمارس ما لديها من سلطة على الجيش. ويعتبر إصدار الحكومة لقانون يمنع الجنود المتقاعدين من المشاركة في الشؤون العامة، الذي جاء بعد فترة وجيزة من انتقاد مسؤول عسكري جزائري لفكرة ترشح بوتفليقة لولاية خامسة، دليلا على أن الحكومة قادرة على السيطرة على الجيش، على الأقل عندما يتعلق الأمر بتهديد الجيش للسلطة.
تتمثل إحدى الأهداف الرئيسية الأخرى من وراء عملية التطهير الداخلي في ضمان التنسيق بين الجيش والرئاسة لضمان بقائهما بعد انتخابات سنة 2019
في إطار سعيها للحفاظ على سيطرتها على أركان الجيش، تتبع الحكومة الجزائرية منذ فترة طويلة إستراتيجية قائمة على إرضاء الجيش وإبقاء النخبة العسكرية “سعيدة” من خلال السماح للجيش بممارسة سيطرة نسبية على شبكات المحسوبية. وبالنظر إلى النفوذ السياسي الكبير للجيش الجزائري، ليس من المفاجئ أن يستفيد من عمليات شراء الأسلحة المتقدمة، ما يجعله جيشا مجهزا بشكل جيد نسبيا.
تحتل الجزائر المرتبة الثانية بعد مصر كأفضل قوة عسكرية في القارة الأفريقية، إذ أنها اشترت الكثير من الأسلحة المتقدمة من روسيا وأوروبا في السنوات الأخيرة. ومن المرجح أن بعض الأطراف السياسية تقف وراء صفقات شراء الأسلحة الجزائرية، خاصة في ظل سعي الحكومة لاسترضاء جنرالاتها من خلال شراء معدات عسكرية جديدة. من جهة أخرى، تتناقض الرغبة الجزائرية السخيّة في شراء الأسلحة مع تحفظها على إرساء قوات بعيدة عن حدودها أو التعاون مع مبادرات مكافحة الإرهاب التي تقودها جهات أجنبية.
مع ذلك، تشعر الجزائر بحاجة ماسة للحفاظ على تميّزها العسكري على جارها المغرب، الذي دخلت معه في نزاعات خلال مناسبات عديدة. بالإضافة إلى ذلك، أثارت حرب الاستقلال طويلة المدى مخاوف قوات الجيش الجزائري من إمكانية حصول تدخل خارجي في شؤونه، خاصة وأنه ينظر إلى الجيش على أنه قوة رادعة للتدخل الأجنبي.
بعيداً عن نظرية الانقلاب، قد يكون رئيس أركان الجيش، أحمد قايد صالح، الرجل الذي يعيد ترتيب أركان القيادة العسكرية تمهيدا لولاية بوتفليقة الخامسة، خاصة في ظل المشاكل الصحية التي يشكو منها الرئيس. وقد يؤدي هذا التوجه إلى إزالة قايد صالح لبعض الجنرالات الطموحين الذين كانوا ينافسونه سابقا، أو الذين يدينون بالولاء لسعيد بوتفليقة، الأخ الأصغر للرئيس، الذي يلعب دورًا رئيسيًا وراء الكواليس في إدارة أخيه لشؤون البلاد.
من المرجح أن تسعى الحكومة الجزائرية، بعد الحصول على موافقة القيادة العسكرية الجزائرية، إلى تنظيف سجلاتها للبقاء في مأمن من التهم التي قد توجه إليها
تؤكد تكهنات أخرى أن قايد صالح قام، بعد تنسيق مع عشيرة بوتفليقة، بعملية تطهير للتخلص من أولئك الذين ظلوا في هيكل السلطة وتربطهم علاقة بمحمد مدين، الرئيس السابق للمخابرات الجزائرية المعروف باسم الجنرال توفيق، الذي أقاله الرئيس بوتفليقة سنة 2015. وتُشير حقيقة احتفاظ قايد صالح بمنصبه على رأس القوات المسلحة أثناء موجة التطهير إلا أنه يحظى بدعم سخي من الرئيس. كما تشير محافظة قايد صالح على سلطته في السنوات الأخيرة أيضا، منذ إقالة الجنرال توفيق، إلى أنه يوازن جيدا بين الدائرة المقربة للرئيس ودائرته. مع ذلك، لا زال قايد صالح قلقاً بشأن علاقته المستقبلية بالرئاسة، بعد موت الرئيس الحالي المريض الذي من شأنه أن يقلب موازين القوى.
مخاوف من تداعيات الاقتصاد الهش
تتمثل إحدى الأهداف الرئيسية الأخرى من وراء عملية التطهير الداخلي في ضمان التنسيق بين الجيش والرئاسة لضمان بقائهما بعد انتخابات سنة 2019، وهو احتمال يهدده ضعف الاقتصاد الجزائري. وغالبا ما قُوبلت خطط الحكومة الجزائرية للنهوض بالاقتصاد، بما في ذلك الحملة المُطالبة بطباعة المزيد من الأوراق المالية، بانتقادات شديدة من قبل بعض أحزاب المعارضة.
في السياق ذاته، عبر الشعب الجزائري عن استيائه من توجهات الحكومة الحالية. وإلى جانب تشكّي المواطنين من تدهور الاقتصاد، تعالت أصوات الجزائريين في وسائل الإعلام الإخبارية للتنديد بالفساد المتفشي في البلاد. وكانت إحدى التهم الرئيسية الموجهة لأعضاء القيادة العسكرية تتمثل في استغلال مناصبهم للحصول على ثروات طائلة من خلال عمليات غسيل الأموال فضلا عن القيام بالأنشطة غير المشروعة.
علاوة على ذلك، من المرجح أن تسعى الحكومة الجزائرية، بعد الحصول على موافقة القيادة العسكرية الجزائرية، إلى تنظيف سجلاتها للبقاء في مأمن من التهم التي قد توجه إليها. وقد تحاول الحكومة في الوقت ذاته التخفيف من الاستياء الشعبي المتزايد إزاء تدهور الاقتصاد الجزائري.
المصدر: ستراتفور