يعرفنا الكاتب المصري جمال كمال محمود في كتابه “الخبز في مصر العثمانية” على مكانة الخبز التاريخية والاقتصادية في مصر منذ ما قبل العصر العثماني إلى أواخره، وأهميته في المجتمعات القديمة وأحواله في سنوات الانتعاش والانهيار الاقتصادي، وذلك بدايةً من مرحلة زراعة القمح ونهايةً بتوزيعه في الأسواق المصرية، حيث مكث العثمانيون في حكم مصر قرابة ٢٠٠ عام.
نبع هذا الاهتمام بالخبز من اعتقاد الكاتب أن هذه المادة هي منتج غذائي رئيسي لدى معظم الشعوب، فهي تمثل أكثر من نصف الطعام المأكول في نصف دول العالم، وكانت بالتحديد أساس الطعام عند المصريين القدماء في الحياة وما بعدها، كما يستدل بأهميته عبر الأمثال الشعبية المصرية التي تداولت كلمة الخبز في أقوالها بكثرة، ومنها “إن صح العيش يبقى الباقي بشرقة” وأخرى مثل “ضعيف وياكل ميت رغيف”.
قُسم الكتاب إلى أربعة فصول، تناول المؤلف في الفصل الأول عملية “إنتاج الخبز والرقابة عليه”، واستعرض في الفصل الثاني “الخبز في سنوات الرخاء”، والثالث حول “الخبز في الأزمات الاقتصادية”، وأخيرًا القسم الرابع عن “الخبز في أثناء الصراعات العسكرية والسياسية”.
البعد الاجتماعي والديني للخبز في مصر القديمة
كانت مصر ترسل 20 سفينة محملة بكميات كبيرة من الحبوب إلى الدولة العثمانية على اعتبار أنها واحدة من ولاياتها، لذلك عُدت مصر مخزنًا غذائيًا غنيًا للإمبراطورية حينها
يبدأ كاتبنا في تعريف الخُبز، إذ يقول إن الخبز اسمع جمع، ومفردة الخبزة وهي الطُلمة، أي كتلة العجين التي تخبز. وقيل سُمي الخبز بهذا الاسم لأن خابزيه يضربونه بأيديهم، كي ينبسط ويستدير، ويضيف حول كلمة “عيْش” التي تطلق على المادة الغذائية الرئيسة في الطعام عند المصريين، فإن كانت هذه المادة خُبزًا، سمي الخُبز عيْشًا، وإذا كانت هذه المادة الرئيسية أرزًا سمي الأرز عيشًا أيضًا.
والمثير للاهتمام هو وجود بعض الدراسات والحفائر التي تشير إلى ظهور وإعداد الخبز في المقابر عند المصريين القدماء، إذ كان واحدًا من أكثر المواد الغذائية الرئيسية التي تقدم للموتى المصريين على اعتبار أنهم سيعتمدون عليها في حياتهم في العالم الآخر، وهي إحدى الاعتقادات الدينية التي كانت سائدة في ذاك الوقت.
كما ينوه إلى سبب آخر حول قدسية الخبز، فيقول الكاتب: “كان المصريون القدماء يعتقدون أن الإلهة إيزيس هي التي اكتشفت سنابل القمح، فكانوا يُجلون الخبز، ويضعونه في مكانة مرموقة كالقسم به، وتحريم وطئه بالأقدام وتجنب إلقاء فضلاته”، ما يعكس نظرة احترام الخبز عند المصريين وأهميته المادية والمعنوية بالنسبة لهم.
ذاع صيت خبز “البقسماط” بين الجنود والعساكر -تحديدًا الأسطول العثماني- لاحتفاظه بجودته فترة طويلة
وفيما يتعلق بالخبازين، فكان منهم نساءً ورجالا مصريون وسوريون وأرمن ومغاربة وفرنسيون وقبارصة، وكانوا يتجمعون في أماكن خاصة بهم مثل “حارة الخبازين”، يصنعون فيها أشكالًا وأنواعًا مختلفة من الخبز، وأبرزها خبز “البقسماط” الذي ذاع صيته بين الجنود والعساكر -تحديدًا الأسطول العثماني- لاحتفاظه بجودته فترة طويلة.
من مزارع مصر القديمة إلى موائد الدولة العثمانية
في أوقات الرخاء الاقتصادية، كانت مصر ترسل 20 سفينة محملة بكميات كبيرة من الحبوب إلى الدولة العثمانية على اعتبار أنها واحدة من ولاياتها، لذلك عُدت مصر مخزنًا غذائيًا غنيًا للإمبراطورية حينها، وفي الوقت نفسه كانت ترسل حصة للحرمين الشريفين وتصدر ما تبقى لبلاد الشام والدول الأوروبية، وبالأخص إلى اليونان.
لكن هذه الأوضاع لم تستمر طويلًا بسبب اعتماد الاقتصاد المصري على مياه النيل في المقام الأول، ولذلك فإن أي نقص في مياه النيل كان يؤدي إلى جفاف وموت المحاصيل، وأي زيادة مفرطة في منسوب المياه كان يغرق الأراضي الزراعية ويتلفها، وبالتالي يقل الإنتاج الزراعي بكلا الحالتين.
ثمة عامل مهم فاقم الأزمة وهو بيع الإفرنج القمح ومنعه عن الأفران، لذلك أمر بعض السلاطين بمنعه عن الإفرنج بقولهم “لا يباع شيء من جنس الحبوب إلى جماعة الإفرنج”
ونتيجة لعدم وجود أي سدود أو موانع لهذه الأزمات الموسمية، تعرضت البلاد إلى العديد من الانهيارات الاقتصادية الحادة التي تبعتها أوبئة مميتة مثل الطاعون وأزمات عسكرية مثل الحملة الفرنسية، والتي أثرت جميعها بشكل مباشر على إنتاج الخبز ووفرته وأسعاره وصادراته، حيث يقول الكاتب: “كان تصدير الغلال إلى الدولة العثمانية إلى جانب البقول وغيرها يجعل المشكلة تشتد”، ويضيف “ثمة عامل مهم فاقم الأزمة وهو بيع الإفرنج القمح ومنعه عن الأفران”، لذلك أمر بعض السلاطين بمنعه عن الإفرنج بقولهم “لا يباع شيء من جنس الحبوب إلى جماعة الإفرنج”.
تسببت هذه الأزمة بغلاء أسعار القمح وندرته وتفشي السرقات والجوع بين الأغنياء والفقراء، إضافة إلى وصول تأثيره على الجيش الفرنسي، فبحسب الكتاب، قد اعترف نابليون بونابرت في مذكراته بأن “الكثير من الجنود ألقوا بأنفسهم في النيل حتى يموتوا موتًا سريعًا، ولا سيما أن احتياطي الغذاء نفذ منهم”، ما يعني أن الأزمة الاقتصادية لم تؤثر حصرًا على المجتمع المصري.
كما يذكر الكتاب أن الدولة العثمانية أرسلت سفنًا محملة بالغلال إلى مصر للتخفيف من أزمتها وإعانتها على تخطي مشكلاتها الاقتصادية، مع العلم أنها كانت أحيانًا ترسل مساعداتها بعد فوات الأوان، وذلك تبعًا لموقف وأحكام الباشوات في تلك الفترة.
ساهمت الصراعات هذه كافة في ندرة الخبز، بل في انعدامه تمامًا في بعض الأحيان. ومما لا شك فيه أن ذلك أدى إلى معاناة المجتمع المصري لفترات طويلة في العصر العثماني
في الفصل الأخير للكتاب، يوضح المؤلف الصراعات والنزاعات السياسية بين التكتلات العسكرية والبكوات المماليك والقبائل العربية والبدو، وانتقال هجماتها إلى المزارع والمطاحين والمخازن، ما أدى إلى حدوث عدد من حالات الحرق والقذف بالحجارة والسرقة والنهب.
لا شك أن هذه الأوضاع السياسية تركت آثارًا سلبية على الحصاد ووفرة الخبز في الأسواق، إذ قال الكاتب: ” ساهمت الصراعات هذه كافة في ندرة الخبز، بل في انعدامه تمامًا في بعض الأحيان. ومما لا شك فيه أن ذلك أدى إلى معاناة المجتمع المصري لفترات طويلة في العصر العثماني، وكان عليه أن ينتظر لبناء دولة مركزية قوية على يد محمد علي، ساعدته بشكل أو بآخر في إحداث استقرار خفف عنه بعض الشيء، الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة التي نزلت به قرونًا طويلة”.
ختامًا، يلخص المؤلف أبرز المراحل التي تمر بها الخبز في مصر تحت حكم الدولة العثمانية، على اعتباره سلعة استراتيجية مهمة خضعت للإدارة والرقابة ولا سيما في فترات الانهيار الاقتصادي ومنع تصدير إلى دول أوروبا وبلاد الشام، على الرغم من كونها ولاية من الولايات العثمانية، ويلفت النظر إلى أهمية الاهتمام بالفلاحين ودعمهم لإنتاج كميات كبيرة تضخ أموالا في ميزانية الدولة وتصل إلى مائدة المستحقين من الشعب المصري.