منذ انطلاقة أول رصاصة في حرب 15 أبريل/نسيان 2023، أصيب الإرث الحضاري في السودان بمقتل، إذ تحولت معظم المواقع الأثرية والتاريخية إلى مسرح للأنشطة العسكرية وهدف لعمليات النهب والتخريب.
لن تنتهي مآساة الحرب في السودان، بفقدان أرواح ما يزيد على 16 ألف قتيل، أو تهجير ما يزيد على 10.7 مليون مواطن من منازلهم، فأخبار مروعة آخذة في الانتشار، تفيد بأن البلاد التي يعود تاريخها لآلاف السنين في طريقها اليوم لفقدان هويتها الثقافية وتراثها الإنساني.
وأظهرت صور ملتقطة بالأقمار الصناعية، عمليات نهب مفزعة لآثار متحف السودان القومي، على متن شاحنات كبيرة يُرجح أنها تتبع لمليشيا الدعم السريع، وذلك قبيل خروجها من وسط الخرطوم، نواحي مدينة أم درمان غربي العاصمة.
وأكدت مصادر متطابقة لـ”نون بوست” أن معظم الآثار السودانية الواقعة في مناطق سيطرة المليشيا، يجري نهبها وتهريبها عن طريق دولة جنوب السودان، وعرضها للبيع هناك بأسعار زهيدة، وما أدل على ذلك من ظهور تماثيل منهوبة من المتحف للبيع في موقع التجارة الإلكترونية “إي باي” بمبالغ دون 300 دولار.
🔴 مليشيا الدعم السريع تعرض مقتنيات متحف السودان القومي للبيع في موقع “ebay” للتجارة الإلكترونية مقابل “200” دولار للقطعة..#جرائم_الدعم_السريع #الدعم_السريع_ميليشيات_ارهابية pic.twitter.com/xmo7gvuzQS
— درويش ®️ (@Derwish249) September 7, 2024
بدايات الكارثة
تقع المتاحف المهمة التي تحتضن الحضارة السودانية لا سيما النوبية والمصرية القديمتين، في وسط الخرطوم، وفي محيط القصر الرئاسي الذي يعد أحد أعنف بؤر المواجهات والاقتتال.
ومنذ أول أيام الحرب، أُطلقت نداءات استغاثة لإنقاذ متحف السودان الطبيعي الذي يعد مستودعًا لحيوانات مهددة بالانقراض، ونباتات نادرة، وأشجار مُعمرة.
وفي ظل العجز التام للمنظمات والمعنيين بالتراث عن دخول منطقة المتاحف، تكون كل هذه الآثار وبشكل كبير قد ذهبت مع الريح، ذهبت مع الحرب.
وفي السياق يبرز المتحف القومي – الرابض هو الآخر على مقربة من القصر الرئاسي – كأكبر مستودع وحاضنة للحضارة السودانية، حيث يضم آلاف القطع النادرة، والهياكل والتماثيل، علاوة على الوثائق والخرائط التي لا تقدر بثمن.
وفي أول أيام الحرب، ظهر جنود المليشيا وهم يجوسون بقلة وعي داخل أروقة المتحف، وظهر ذلك في قول أحدهم لرفاقه في أثناء فتح التوابيت العائدة لآلاف السنين بطريقة لا مبالية، إن ساكنيها ما همّ إلا ضحايا لنظام المعزول عمر البشير (30 يونيو/حزيران 1989 – 11 أبريل/نسيان 2019).
جنود من الدعم السريع في المتحف القومي #السودان ي !!!
اللهم اجرنا في مصيبتنا …#لا_للحرب pic.twitter.com/xu9tZEh2sA
— خالد سلك (@KhalidSelik) June 2, 2023
وفي الضفة المقابلة للنيل، لم يكن متحف الخليفة الذي يؤرخ لحقبة الدولة المهدية التي بدأت بانتصار باهر في 1881 قبل القضاء عليها من قبل المستعمر الإنجليزي في 1898، بأفضل حال، حيث طاله التخريب، جراء وقوعه بالقرب من مقر الإذاعة والتلفزيون، أحد أكثر مناطق الاقتتال ضراوةً.
منطقة تاريخية.. ثكنة عسكرية
سيطرت مليشيا الدعم السريع منذ اليوم الأول في الحرب على منطقة الخرطوم المركزية التي تضم معظم المتاحف والمعالم التاريخية. وتعد منطقة مقرن النيلين (محل التقاء النيلين الأزرق والأبيض) منطقة تاريخية مهمة، ليس لاحتوائها على معظم المتاحف وحسب، لكن لما تضمه من معالم نادرة، أبرزها الصخرة التي يعتقد أنها محل لقاء نبي الله موسى والرجل الصالح الخضر.
وفي الصدد تبرز جامعة الخرطوم المتأسسة عام 1902 باسم كلية غردون التذكارية، ولا تزال مبانيها العتيقة وأشجارها المعمرة وجهة محببة للباحثين والسياح، وفضلًا عن مكانتها الأكاديمية المرموقة، وتفريخها لآلاف القادة والمفكرين والأدباء، تحتفظ الجامعة بتراث إنساني ضخم في مكتباتها، وهو ما لا يمكن تعويضه بحال.
وتحول مقر الجامعة الضخم، إلى ثكنة عسكرية لمليشيا الدعم السريع، ضمن محاولات الأخيرة إحكام سيطرتها على أهم جسرين نيلين يربطان الخرطوم بمدينة بحري.
وطال التخريب القصر الرئاسي، أحد أهم معالم العاصمة السودانية، ومقر إقامة وعمل رؤوساء البلاد المتعاقبين. وشُيّد القصر بطراز معمار فريد، في عام 1830، على يد الحاكم العثماني محمد بك خورشيد، وكان شاهدًا على أحداثٍ مهمة كمقتل اللورد تشارلز غردون في عام 1885، وإعلان استقلال السودان فاتحة العام 1956.
ويضم القصر متحفًا يوثق لتاريخ البلاد السياسي والاجتماعي عبر العصور، وفي جنباته مكتبة ضخمة للوثائق والصور النادرة، علاوة على الهدايا والأوسمة الرسمية ومتقنيات الرؤساء.
وأظهرت صورًا من القصر، تضرر مبانيه بشكلٍ غير قابل للترميم، في ظل عدم وجود أنباء عن مصير المتحف والمقتنيات التاريخية.
صور من القصر الجمهوري في العاصمة السودانية #الخرطوم. #السودان pic.twitter.com/V1BrkK66TE
— رفيدة ياسين (@Rofaidayassin) August 4, 2023
وفي قلب مناطق الاقتتال كذلك، تقع دار الوثائق السودانية التي تأسست بدايات القرن العشرين، وهي إحدى أهم المؤسسات الأرشيفية على مستوى القارة، وتحتوي على مخطوطات وصور وخرائط ووثائق نادرة جدًا بما في ذلك فترات الحكم العثماني والمصري والبريطاني في السودان.
وآخر هذه الآثار المهمة هي الإذاعة السودانية التي استعادها الجيش في فبراير العام الجاري، التي تأسست في العام 1940، ما يجعلها واحدة من أقدم المؤسسات الإعلامية على مستوى القارة، ولعبت دورًا محوريًا في تشكيل الوعي والوجدان السوداني.
وتضم الإذاعة أرشيفًا نادرًا يروي تاريخ السوداني الثقافي والسياسي والاجتماعي، وتضم مكتبتها الوثائقية أعمالًا ثقافية وسياسية وفنية نادرة لا يمكن استعادتها.
مواقع تاريخية مدرجة في قائمة اليونسكو
مع تصاعد الحرب في العاصمة وانتقالها إلى بقية الأقاليم السودانية، فإن الآثار الوخيمة على الحضارة انتقلت بدورها إلى المتاحف والمعالم التاريخية بالولايات.
ففي ولاية نهر النيل شماليّ الخرطوم، دارت معارك شرسة بين الجيش والدعم السريع عند منطقة النقعة والمصورات، ما يهدد بخروج الموقع من قوائم منظمة اليونسكو.
ووسط أنباء تتحدث عن عمليات نهب وتخريب طالت متحف مدينة نيالا، أكبر مدينة تجارية بإقليم دارفور غربيّ البلاد، يتزايد القلق بشأن مصير متحف السلطان علي دينار، أحد أهم المتاحف السودانية بمدينة الفاشر، حاضرة الإقليم. وبات المتحف المتأسس على قصر السلطان علي دينار – آخر سلاطين مملكة الفور – في قلب الاقتتال والقصف العشوائي لعناصر المليشيا التي تسعى بكل ما أوتيت من قوة لاجتياح آخر مدينة في الإقليم بقبضة الجيش.
وفي الوقت الذي انقطعت الأخبار فيه تمامًا بشأن أحوال متحف مدينة ود مدني، الواقعة في قبضة الدعم السريع، جنوبيِّ العاصمة السودانية، تتنامى المخاوف من إهمال المواقع التاريخية المدرجة في قائمة اليونسكو بشمال السودان، مثل أهرامات البجراوية، وجبل البركل، ومنطقة الكرو، دون إغفال لمتحف شيكان المتأسس عام 1960، تخليدًا للمعركة التي حملت ذات الاسم عام 1883 بين قوات الإمام محمد أحمد المهدي والجنرال هيكس باشا في مدينة الأبيض حاضرة ولاية شمال كردفان.
قلق عالمي
أعربت اليونسكو عن قلقها إزاء المتداول بشأن الآثار السودانية، وقالت في بيان إن التهديدات التي تتعرض لها الحضارة هناك، وصلت إلى “مستوى غير مسبوق”، وحذرت من مخاطر تدمير التراث السوداني أو الاتجار به.
وطالبت المنظمة بحماية التراث السوداني من التدمير والاتجار غير المشروع، وقالت إن على “الجمهور والأفراد العاملين في تجارة السلع الثقافية في المنطقة وفي كل أنحاء العالم الامتناع عن حيازة ممتلكات ثقافية من السودان أو المشاركة في استيرادها أو تصديرها أو نقلها”.
وأعلنت السلطات السودانية عن اتصالات مع البوليس الدولي “الإنتربول” لاستعادة الآثار المنهوبة، وضمان ملاحقة الجناة قانونيًا.
آثار وخيمة
لمعرفة الآثار الوخيمة لضياع التراث السوداني، قالت اليونسكو إنه أمرٌ يضر بتعافي البلاد مستقبلًا، أي في مرحلة الإعمار ما بعد انتهاء الحرب.
ويرى الباحث المتخصص في التراث، حسن مهدي، إن سرقة وتدمير الحضارة السودانية، حدث كارثي، له تأثيرات وخيمة على مستقبل البلاد وأجيالها القادمة.
يقول مهدي لـ”نون بوست” إن هذه الآثار تتضمن: فقدان الهوية الثقافية، وتأثيرات سالبة على قيم التنوع، وخفض قدرة المجتمع على استعادة روابطه مع ماضيه العريق وجعله وقودًا للمستقبل، وتأثيرات متوقعة على قطاعيِّ السياحة والاقتصاد، وليس نهاية بفقدان خرائط كان يستخدمها السودان للحفاظ على حدوده في ظلّ مشكلات كبيرة مع دول الجوار، مثل الخلاف مع مصر حول مثلث حلايب المطل على البحر الأحمر، ومع إثيوبيا حول منطقة الفشقة عالية الخصوبة، ومع جنوب السودان بشأن منطقة أبيي الغنية بالمياه والنفط.
وفي محاولة لفهم الموضوع في سياق الحرب الدائرة، تؤكد ناهد محمد سليمان، وهي ناشطة سياسية واجتماعية، أن مليشيا الدعم السريع، تعمل على طمس الهوية السودانية بصورة ممنهجة.
وقالت إن معظم عمليات النهب والتدمير للإرث السوداني تتم في مناطق سيطرة المليشيا التي رفعت منذ اليوم الأول في الحرب شعار محو كل ما يخص دولة 56، في إشارة لاستقلال السودان عام 1956.
ولعل خير استشهاد على كارثة ضياع التراث السوداني، ما أورده وزير الثقافة والإعلام في الحكومة الانتقالية المعزولة بقيادة المدنيين (أغسطس/آب 2019 – أكتوبر/تشرين الأول 2021)، فيصل محمد صالح، ضمن مقالة بعنوان “تاريخ السودان في مزادات البيع”.
صالح عبر في المقالة عن أحوالنا، خاصةً حين قال: “ربما يكون حاضر السودان، حتى قبل الحرب، لا يسرّ، بلد تحاصره الأزمات والتقلبات السياسية والنزاعات المسلحة والاشتباكات القبلية، مع وضع اقتصادي منهار، هذا ما أورثناه للأجيال الجديدة، لكن كان العزاء أننا سنحافظ على ماضٍ عظيم يكون مرجعًا لهم، ونافذة أمل في أن ما كان من حضارات عظيمة قبل آلاف السنين في هذا البلد يمكن أن يعود، فإن فقدنا حتى هذا الأمل فماذا بقي لنا”؟.