منذ اللحظة الأولى للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تعاظمت المقاطعة الاقتصادية ضد الاحتلال وشركاته الداعمة، فيما كانت المظاهرات والفعاليات الشعبية والطلابية تغطي معظم دول العالم، متجاوزة القمع وفزاعة معاداة السامية وتهديدات الجماعات المناصرة للصهيونية والإبادة الجماعية.
جاء هذا التضامن الشعبي واسع النطاق بفعل الدعم الصريح والمعلن من الشركات الغربية وأصحابها لدولة الاحتلال في الساعات والأيام الأولى من الحرب، والذي شمل أشكالًا مختلفة بدءًا من تقديم وجبات مجانية وهدايا وتخفيضات وتغيير ألوان الشعار الرسمي إلى اللونين الأزرق والأبيض، والترويج لمنتجات تحمل ألوان علم “إسرائيل”، وتوفير مواد تنظيف ومستلزمات لجنود الاحتلال في ثكناتهم العسكرية، إضافة إلى حملات تبرع معلنة للعمل العسكري والإبادة في قطاع غزة.
نتيجة لذلك، جاءت المقاطعة الاقتصادية كردّ فعل شعبي عفوي، تجاوز حدود السياسة واللغة والدول، بما يتيح للأفراد معاقبة الاحتلال وداعميه، بتكبيدهم خسائر اقتصادية ومالية فادحة، ولتغدو المقاطعة خلال فترة وجيزة شكلًا سائدًا من أشكال ملاحقة الاحتلال على عنصريته واحتلاله، وثقافة مجتمعية يتم من خلالها التعبير عن التضامن نصرة للدماء التي تنزف بأموالٍ غربية وبدعم اقتصادي وعسكري لا محدود.
ولم يكن تشكُّل المقاطعة وتحورها من رد فعلٍ شعبي إلى ثقافة مجتمعية عامة تتكيف وفقًا لعادات الشعوب والأفراد، إلا نتاج جهد ثابت لحركة “مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات” المعروفة باسم BDS، لتعكس فشل الحكومات والمجتمع الدولي في وقف الانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، ممثلة جمهورًا واسعًا من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني يتخذ المقاومة الشعبية السلمية أداة لمقارعة الاحتلال، ونمطًا قابلًا للتدويل والتعميم لتحقيق التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني.
نتيجة لحالة التوافق والانسجام بين الحراك الشعبي الجماهيري العفوي والوعي المؤسساتي لحركة BDS وخبرتها في ميدان المقاطعة، وتوفيرها معلومات موثوقة عن ميادين المقاطعة الاقتصادية والثقافية والفنية والرياضية والأكاديمية، استطاعت المقاطعة تحقيق اختراقات نوعية على أكثر من صعيد.
لا سيما أنها تمتلك مخزونًا من الخبرة التنظيمية وتأطير المطالب والقدرة على التشبيك مع المؤسسات المحلية المتضامنة على المستوى الحكومي والمدني، كما أن لديها قاعدة من المثقفين والأكاديميين والنخب الفلسطينية المغتربة المتصلة بقضيتها روحيًا وعضويًا، ما يتيح لها تقديم سردية فلسطينية منسجمة مع ثقافة البلد الأم.
المقاطعة تضرب على جميع الجبهات
حقق حراك المقاطعة خلال عام 2023/2024 ما لم تحققه حركة BDS منذ نشأتها الأولى عام 2005، رغم تكاثف جهودها مع كل تصعيد إسرائيلي وحرب تُشن على الشعب الفلسطيني، لا سيما أن الاقتصاديات الداعمة للاحتلال لم تتوانَ عن التصريح بعدائها ومجاهرتها بدعمها للعدوان وحرب الإبادة الوحشية.
خلال عامٍ واحد، تمكنت المقاطعة من إثبات نفسها كأداة فاعلة بإمكانها ضرب البنى الاقتصادية للشركات الغربية الداعمة للاحتلال، وحتى للشركات الإسرائيلية العابرة للقارات والتي تتخذ أسماء مختلفة لتوريد منتجاتها، حيث كشفت نتائج الربع الأخير من عام 2023 تراجع إيرادات أكثر من 200 شركة وانخفاضًا في قيمة الأسهم، وإغلاقًا في عدد من الفروع، وشملت سلاسل الأغذية والمشروبات وماكدونالدز وستاربكس وبرغر كينغ وكنتاكي.
كما أصبحت المقاطعة أكثر تنظيمًا بنشر قوائم محدثة للشركات الداعمة للاحتلال والمرتبطة به سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وتكنولوجيًا، وهو ما انعكس على انتشارها والتفاعل معها، حيث رصدت استطلاعات رأي عُقدت في يونيو/ حزيران المنصرم شملت 15 ألف مستهلك من 15 بلدًا حول العالم، أن واحدًا من كل 3 أفراد يقاطع علامات تجارية مرتبطة بالاحتلال.
فيما أكد استطلاع رأي خاص بالمملكة المتحدة أن 5% من البالغين يقاطعون علامة تجارية واحدة على الأقل، بينما تتركز أعلى نسب المقاطعة بين الأجيال التي تقل عن 35 عامًا، والتي حمّلت تطبيق “No Thanks” الخاص بقوائم المقاطعة أكثر من 187 ألف مرة في المملكة المتحدة، و2.9 مليون مرة في جميع أنحاء العالم.
تعدّ هذه النتائج تشكيكًا لكثير من النظريات الاجتماعية التي اعتبرت الأجيال الجديدة أقل اهتمامًا بالسياسة والصالح العام وأكثر انغلاقًا على نفسها، حيث يتزايد انخراط هذه الأجيال وتأييدها لنضال الشعب الفلسطيني ومقاطعتها للاحتلال وشركائه بنسبٍ أكبر من غيرها.
وهو ما تؤكده استطلاعات الرأي في المجتمعات الغربية، والتي أشارت إلى “فجوة جيلية” في التعاطف مع “إسرائيل” لصالح القضية الفلسطينية، حيث تميل الأجيال الشابة للتعاطف مع الفلسطينيين، ويصنفون ما يحدث في غزة باعتباره “إبادة”، وهو ربما ما يفسر تموقع هذه الشريحة في المراتب الأولى في جميع أنشطة التضامن مع فلسطين عالميًا وغربيًا.
أما نتائج المقاطعة الاقتصادية تراوحت بين تحقيق خسائر “معلن عنها”، كما في سلسلة مطاعم ماكدونالدز التي فقدت 7 مليارات دولار من قيمتها السوقية خلال الـ 6 أشهر الأولى من عام 2024، وسلسلة مطاعم كنتاكي التي انخفض صافي أرباحها خلال المدة نفسها 41%، وسلسلة مقاهي ستاربكس التي انخفضت قيمة أسهمها بنسبة 17%.
في خانة النتائج، هناك الانسحاب شبه الجماعي من الاتفاقيات التجارية ومن الاستثمار داخل دولة الاحتلال، ومنها شركة التأمين الفرنسية الكبرى “أكسا” التي قامت بـ”الانسحاب الكامل والسريع” من 3 بنوك إسرائيلية، هي: بنك هبوعليم، وبنك لئومي، وبنك ديسكونت الإسرائيلي، وشركة كارفور الفرنسية، والصندوق السيادي النرويجي الذي أعلن في فبراير/شباط الماضي سحبه جميع استثماراته من السندات الحكومية الإسرائيلية.
ورغم التركيز الإعلامي على المقاطعة الاقتصادية للمنتجات والسلع، فإن معالم الضغط تبدو أكثر وضوحًا في سوق مجال التكنولوجيا الفائقة أو الـ”HighTech” الذي شهد هروبًا سريعًا من داخل أراضي الاحتلال، مثل شركة نيلسن الأمريكية الخاصة بالمعلومات والبيانات التي أغلقت فروعها، وشركة إنتل التي أوقفت مشروع توسيع مصنع أشباه الموصلات الخاص بها، والذي قُدّر مبلغ استثماره بـ 15 مليار دولار.
لم تقتصر المقاطعة على شكلٍ دون آخر، أو على فئةٍ دون أخرى، فنظرًا إلى أخطبوطية المال الإسرائيلي وأذرعه الممتدة ما بين الصناعة والتجارة والعلوم وشركات النقل والسياحة والزراعة والأبحاث العلمية، فقد طالت المقاطعة أي تواجُد إسرائيلي أو تعاونٍ معه في أي حقلٍ من الحقول، حيث شملت المقاطعة الثقافية حملات احتجاج أمام المتاحف والمعارض والصالات ودور العرض، وتعرض فنانون وموسيقيون داعمون للاحتلال للنبذ الكبير والاستثناء من المعارض والحفلات، كما حصدت أعمال بعضهم خسائر وتراجعًا في الأرباح، حيث شهد مهرجان “الهروب الكبير” في بريطانيا مقاطعة شاملة تسبّبت في إلغاء ثلث عروضه.
حتى على المستويات الأدبية، وثّقت صحفٌ إسرائيلية رفض العديد من الكتّاب الصاعدين ترجمة كتبهم إلى اللغة العبرية ونشرها في “إسرائيل”، وفي الأوساط الدينية أوقفت الكنيسة الأسقفية الأمريكية استثماراتها مع الاحتلال دعمًا للمقاطعة.
وتزامنًا مع الحراك الطلابي وانتفاضة الجامعات الغربية برزت المقاطعة الأكاديمية، فقد وافقت 40 جامعة على إنهاء علاقاتها مع المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية وسحب استثماراتها من الشركات الإسرائيلية أو الداعمة لها، من بينها جامعة نورث ويسترن بولاية إلينوي الأمريكية وجامعة براون في رود آيلاند، وجامعة روتجرز في نيوجرسي، وجامعة كاليفورنيا ريفرسايد “يو سي آر”، بينما تعهّدت 20 جامعة أخرى باتخاذ خطوات تنهي دعمها للاحتلال وعلاقتها الأكاديمية معه.
وفي إسبانيا وحدها قررت 50 جامعة حكومية و26 جامعة خاصة قطع علاقات التعاون مع الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية، وربطت عودة التعاون بتنديد الجامعات الإسرائيلية باجتياح جيش الاحتلال لقطاع غزة.
استثمارات مباشرة وأخرى ملتوية.. ما علاقة الجامعات الأمريكية بـ”إسرائيل”؟
وعلى صعيد المقاطعة التجارية والعسكرية، أغلقت موانئ وأرصفة في وجوه سفن الاحتلال وحاوياته التجارية، حيث حظرت ماليزيا رسو أي سفن شحن تحمل العلم الإسرائيلي أو بضائع مبحرة نحو “إسرائيل”، كما أوقفت شركة السفن السنغافورية ONE عملها مع “إسرائيل”.
أما على الصعيد العسكري، فقد أوقفت إيطاليا توريد الأسلحة لدولة الاحتلال منذ نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، مع استدعاء “إسرائيل” للمحكمة الدولية بشبهة الإبادة، لتتبعها كل من الحكومة الكندية التي أوقفت تصدير الأسلحة في يناير/ كانون الثاني الماضي، والحكومة الهولندية إثر ما اُعتبر “شكوك” حول انتهاك حقوق الإنسان.
وفيما يتعلق بسوق الاستثمارات، فإن خروج 60% من المستثمرين الأجانب من السوق الإسرائيلية، وإعلان وكالة “موديز” خفض التصنيف الائتماني لـ”إسرائيل” إلى “Baa1” للمرة الأولى في تاريخها، يبدو أكثر من كافٍ، لا سيما أن حساسية التصنيف تزداد باحتمال تدهوره مستقبلًا انطلاقًا من توقعات الوكالة “السلبية” عن الاقتصاد الإسرائيلي.
وبالنظر إلى التدهور السريع للتصنيف في مدة زمنية قصيرة، حيث انخفض من “A+” إلى “A” الشهر الماضي، وصولًا إلى التصنيف الحالي الذي سيزيد الضغوط الاقتصادية على سعر السندات الإسرائيلية، ويدفع للمزيد من هروب رؤوس الأموال والشركات، ومهما يكن من تأثيرات المقاطعة وصعوبة حصرها، إلا أنه يكفي الإشارة للمأزق الاقتصادي الغربي والخسائر الكبيرة للشركات الرأسمالية فيه، والتي وصلت في بعضها إلى 52% من صافي الدخل.
القطيعة الدبلوماسية.. شكلٌ من أشكال المقاطعة
على المستوى السياسي نفسه وجدت دول أخرى مساحة لها في المناورة بقطع علاقاتها مع دولة الاحتلال لتأكيد موقفها الداعم للشعب الفلسطيني، وانتقلت هذه المناورة في أكثر من حيز من الدول إلى المجالس المحلية فالمنظمات والأحزاب، وكثيرًا ما توافقت مع الحراك الشعبي والمقاطعة الأكاديمية والاقتصادية والفنية.
يصحّ هذا القول على بوليفيا التي كانت من أوائل الدول التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع دولة الاحتلال في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، ومن ثم دولة جنوب أفريقيا التي سحبت جميع دبلوماسييها إثر رفض الاحتلال احترام القانون الدولي والاستمرار في إبادته الجماعية، ومن ثم البرازيل التي استدعت السفير الإسرائيلي ثم طردته.
وفي إطار الدول ذات الطابع الإسلامي، برز كل من الأردن وتركيا اللذين أقدما على سحب سفيرهما وإعادة السفير الإسرائيلي، ورفع ردود فعلهما المهاجِمة للاحتلال، بينما أقدمت دولٌ أخرى على استدعاء سفرائها من بينها البحرين وتشيلي وكولومبيا وهندوراس وتشاد.
أما على مستوى المجالس المحلية، فقد أعلنت بلدية برشلونة وقف علاقاتها المؤسسة مع بلدية تل أبيب وإنهائها لحالة التوأمة بينهما، فيما صوّت مجلس مدينة دبلن الألمانية لتعليق العلاقات مع الاحتلال بما تتضمنه من توأمة مع مجالسه المحلية ومن بينها تل أبيب.
وفي المملكة المتحدة أعلن مجلس مدينة ليستر قطع علاقاته مع البلديات الإسرائيلية، وتبعه في ذلك مجلس مدينة تورنتو الكندية، أما على مستوى المنظمات فقد أعلن حزب العمل البريطاني عن تعليق علاقاته مع حزب الليكود الإسرائيلي على خلفية انتهاكاته لحقوق الإنسان وخطابه العنصري.
وهو ما دعا حزب الخضر الألماني إلى تطبيقه مع كل من منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش، اللتين طالبتا بفرض عقوبات على قادة دولة الاحتلال ووقف كل أشكال التعاون الدولي مع منظمات وأذرع الدولة، حتى يتم محاسبة المسؤولين عن جرائم الإبادة والانتهاكات ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.
ومن المستويات السياسية إلى الساحات الانتخابية، برزت فلسطين وغزة بشكلٍ واضح خلال العام المنصرم بالتوازي مع توجُّه قرابة 40% من سكان العالم في أكثر من 42 دولة إلى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم، وهو الميدان الذي فاجأت فيه فلسطين السياسيين والخبراء بحضورها وقدرتها على حشد الشعوب والجماهير والطاقات لصالح مرشحٍ دون آخر، أو حتى الدفع نحو مقاطعة العملية الانتخابية في حال غياب البدائل الداعمة لفلسطين.
إذ اُعتبرت غزة في انتخابات الاتحاد الأوروبي جبهة استقطاب موازية لقضية الهجرة والاقتصاد في تأثيرها على الناخبين، وهو ما انعكس على البرامج الانتخابية لعدد من الكتل الانتخابية على المستوى الدولي أو الاتحادي، فقد برز برنامج حزب “فرنسا الأبية” لخوض انتخابات الاتحاد الأوروبي، حيث طالب بوقف فوري لإطلاق النار في الشرق الأوسط وإنشاء ممرات إنسانية وعودة جميع النازحين وإنهاء حصار قطاع غزة فورًا، ووضع حدّ للاستعمار غير القانوني في الضفة الغربية، والاعتراف بدولة فلسطين وسيادتها على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967.
كما استطاع الحزب تحقيق نتائج لافتة خلال الانتخابات الأوروبية، وتصدّر نتائج تصويت الفرنسيين في دول المغرب العربي، أما في ألمانيا فقد دعمت شخصيات أكاديمية عربية وفلسطينية حزب “ميرا 25″، إثر وقوفه بجانب القضية الفلسطينية، حتى قبل “طوفان الأقصى” وطرحه في برنامجه الانتخابي بنودًا مساندة للفلسطينيين تتضمن وقف الدعم وتصدير الأسلحة للاحتلال، والاعتراف بدولة فلسطينية.
وفي بريطانيا حقق المرشحون المستقلون الداعمون لفلسطين فوزًا مريحًا على حساب حزب “العمال” بقيادة ستارمر في عددٍ من الدوائر الانتخابية، حيث تضمّنت برامجهم الانتخابية دعوة للوقف الفوري للحرب في غزة وإنهاء احتلال فلسطين، ونتيجة لذلك حصل زعيم حزب “العمال” المخلوع جيرمي كوربن على نصر مريح في دائرته شمال إيسلينغتون باعتباره مستقلًّا مؤيدًا للفلسطينيين، وفاز معه كل من المرشح المستقل إقبال محمد، والمرشح عدنان حسين، وشوكت آدم.
أما في النمسا، فقد ظهرت “قائمة غزة” التي أطلقتها مجموعة من المناصرين لفلسطين بهدف الانخراط الأولي في الحياة السياسية والبرلمانية، لتغيير آلية صنع القرار السياسي الذي التزم التموضع خلف السردية الإسرائيلية منذ اليوم الأول.
وكانت النمسا واحدة من الدول العشرة التي رفضت وقف إطلاق النار في قطاع غزة، في تصويت للجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول 2023، حيث استطاع مؤسسو القائمة تسجيل حزبهم رسميًا بعد الحصول على تفويض أكثر من 3 آلاف مواطن نمساوي، ليقدموا قائمة من 24 مرشحًا ومرشحة من جميع المحافظات النمساوية، وبتنوعٍ عرقي وديني ومناطقي.
وفي الولايات المتحدة، وإثر تنافس المرشحَين كامالا هاريس ودونالد ترامب على تأييد الاحتلال، برزت المرشحة جيل ستاين الطبيبة الأمريكية اليهودية، التي أعلنت سعيها لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والعمل على إنهاء المساعدات العسكرية الأمريكية للاحتلال، حيث أشارت نتائج الانتخابات الأولية إلى أن 29.1% من المسلمين الأمريكيين يؤيدونها.
أما في الأردن الذي شهد انتخابات نيابية بعد أيام من عملية الكرامة التي نفّذها الأردني ماهر الجازي، فقد فاز حزب جبهة العمل الإسلامي المنضوي تحت الإخوان المسلمين، بأكبر عدد من المقاعد النيابية منذ تأسيس الجماعة، بلغ 31 مقعدًا في البرلمان، ليصبح أكبر كتلة برلمانية.
اعتبر فوز الجناح الإسلامي انعكاسًا لأدواره خلال الفترة الماضية، في تنظيم المسيرات الرافضة لاتفاقيات السلام مع الاحتلال والداعمة للمقاومة الفلسطينية وحربها ضد الاحتلال في قطاع غزة، حيث حصل على نصف مليون صوت رغم الإقبال المنخفض على المشاركة الانتخابية، وهو ما اُعتبر أحد الدلائل على قدرة مسار الحرب في غزة على التأثير في الاتجاهات الانتخابية العربية والإسلامية في الشرق الأوسط.
بالمحصلة..
إن نجاح المقاطعة بأشكالها المختلفة لن يُقاس يومًا بالاستجابة الكاملة لها، لا سيما مع ما تمثله من حرب على الرأسمالية الغربية وعقود من المصالح المشتركة بينها وبين دولة الاحتلال، اقتصاديًا ومجتمعيًا وسياسيًا وعسكريًا وأكاديميًا، ناهيك عن صعوبة تفكيك الروابط وحالة العضوية بين الغرب وربيبته، مع ما تتّسم به من أنماط الظهور والتخفي وصعوبة التتبُّع والانكشاف.
لكن النجاح الحقيقي لها هو تحولها من حالة عابرة إلى رواسخ ثقافية ومجتمعية في ذهن الأفراد والشعوب، مدفوعة بإحساسهم بضرورة اتخاذ موقف أخلاقي وإنساني تجاه الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، في ظل تراخي المجتمع الدولي وغياب إرادته السياسية عن وقف سيلان الدماء المستمر منذ عام.
يضاف إلى ذلك إحساسهم بالقدرة على التفكُّك من قيود الاستهلاك الغربي وتبعيته أولًا، وإمكانية تحدّيه والتأثير به وإضراره ثانيًا، ولا يقتصر ذلك على شعوب العوالم الشرقية والأوسطية فقط، إنما يتجاوزه للفرد الغربي الذي تكشّفت له الحقيقة الكولونيالية لتاريخه وحاضره.
بغض النظر عن ذلك كله، وجميع ما بين السطور من تحدٍّ وإنجازات، فإن المقاطعة رغم أهميتها وتنوع أشكالها لن تكون كافية للتعبير يومًا عن حجم تضحيات الفلسطينيين وخسارتهم في أرواحهم وممتلكاتهم، ولا عن مكنون توقهم للحرية، إلا فيما تبثّه في جمهور الداعمين لفلسطين والمناصرين لقضيتها من عزيمة متقدة لنصرتها أكثر فأكثر، بفعاليات مختلفة، ومظاهرات أوسع، ومقاطعة أشد حصارًا للاحتلال وداعميه، حتى يدركوا جميعًا أن أثمان الحرب لا تُدفع فقط من دماء الفلسطينيين، إنما من جيوب المحتلين وأحلامهم.