من الباب الخلفي للمشرحة العتيقة، خرج موكب مكون من عدة سيارات للإسعاف مع بضعة سيارات كتب عليها بخط أحمر غير واضح “سيارة تكريم الموتى”. خروج الموكب مبكراً سهل عليه الإفلات من الزحام الصباحي الروتيني لشوارع القاهرة.
وجهة الموكب كانت معلومة لقائد السيارة الأولى، نهاية شارع “بيرم التونسي” عند أول مطلع “زينهم” بحي “السيدة زينب” القديم، حيث توجد مقابر جماعية معروفة بالمقابر الميري أو… “مقابر الصدقة”.
توقفت السيارة أمام أحد الأبواب الحديدية الصدئة وأطلق قائد الموكب بضعة “كلاكسات” معلناً لحارس المقابر المهملة وصول الموكب المنتظر…
بعد دقيقة أو إثنين وبعد عدة أبواق أخرى، سمع سائق السيارة الأولى من الموكب صوت حارس المقبرة، فأدار محرك السيارة إستعداداً للدخول وبدأ العمل.
فتح الحارس بوابة المقبرة على مصرعيها دون التأكد من هوية الموكب…
لا بأس فقد كان يتوقع وصولهم اليوم بعد إتصال أحد العاملين بالمشرحة معه في الليلة الماضية.
دلفت بعض السيارات التي استوعبها المكان إلى الداخل، وأنتظر باقي الموكب في الخارج، وسط إستغراب الحارس من عددهم الذي لم يعهده منذ زمن طويل؛ منذ حادث غرق عبارة السلام ربما؟!
لا؛ حتى حادث عبارة السلام لم يصل بعده موكب كهذا، فالجثث التي التهمت الأسماك أطرافها تم التعرف على معظمها وتم دفنها بمقابر أسرها وفقاً للمناسك اللائقة المتعارف عليها عند المصريين.
أستدرك في سره: ألف رحمة ونور تنزل عليهم ماتوا ظلم…
ثم توجه بالسؤال لمندوب مصلحة الطب الشرعي: هم كام ؟!
جاءه الرد: 35
متفاجئاً قال الحارس: لا إله إلا الله… ومحدش عرفهم خالص؟!
– لأ، بقالهم 5 شهور في المشرحة ومحدش عارفلهم أهل.
لاحقاً وأثناء البدء في حمل هذه الأجسام الخفيفة المغلفة بالأقمشة البيضاء، سأل الحارس أحد العاملين: هم مالهم خفاف كده ليه يابني، هم متشرحين؟!
رد العامل: لأ، دول محروقين يا حاج، محروقين. شيل من سكات الله لا يسيئك…
***
(2)
“جريدة الشروق”
الإثنين 6 يناير 2014 – 3:47 م
بالصور والفيديو.. دفن 35 جُثة مجهولة منذ أحداث “رابعة” و”مسجد الفتح”
***
(3)
يفتح المقطعين السابقين ملفاً إنسانياً شديد المأساوية في مصر، ملف “المفقودين في أحداث فض الإعتصامات والمظاهرات”.
ومشكلة هذا الملف تكمن في عدم وجود تغطية إعلامية له مطلقاً، ولا حتى على القنوات الإعلامية القليلة التي تدعم التظاهرات وتنقل صوت المتظاهرين، فالجميع لا يعلم أن هناك مئات الأسر المصرية -الآن- لا تعلم طريقاً لأبنائها، بل لا تعلم هل هم على قيد الحياة من الأساس أم لا.
ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أن أقصى أماني هذه الأسر هي أن يكون فقيدهم محتجز يتم تعذيبه في أحد السراديب السرية لمباني أمن الدولة، أو أنه فاقد للذاكرة يهيم على وجهه في مكانٍ ما!!
تخيل فقط أن تكون هذه هي الآمال والأماني لأمهات مصريات…
***
(4)
أثناء البحث شديد الصعوبة عن موضوع المفقودين، توصلت لجهات حقوقية قليلة جداً توثق معلومات حول هذا الملف وتحاول نشره بلا جدوى أو صدى إعلامي حقيقي.
أغلب هذه الجهات قائم بشكل رئيسي على متطوعين، ولمست من هؤلاء جميعاً شيئاً مشتركاً: الحذر الشديد، وبعد قليل من الثقة بادرني بعضهم بالإعتذار عن هذا الحذر، معللاً الأمر بأن زميلاً لهم تم رصده وإعتقاله.
يذكر أن «المنظمة العربية لحقوق الإنسان» ومقرها “لندن” بالإضافة لمجموعة «إعرفوهم» هم أكثر هذه الجهات نشاطاً.
تواصلت مع بعض المسئولين في الحملتين، وأثناء ذلك تعرفت على الأستاذ مصطفى عزب، وهو حقوقي مهتم بشئون المفقودين والمعتقلين، ويعمل بالمنظمة العربية لحقوق الإنسان، وكان بيننا هذا الحوار.
• في البداية، متى تم البدء في توثيق حالات الفقد؟
– التوثيق بدأ منذ أحداث المنصة قبيل عملية فض إعتصامي رابعة والنهضة، وبدأ الأمر من خلال شباب متطوعين قاموا ومازالوا يقومون بعمل جيد جداً، والتوثيق مستمر حتى الان.
• تعني أن المفقودين لم يكونوا في أحداث فض إعتصامي النهضة ورابعة العدوية فقط؟!
– بالظبط، تم توثيق حالات متعددة قبل وخلال وبعد عملية الفض، وتم توثيق حالات لمفقودين إختفوا منذ وقت قريب خلال مظاهرات شبابية مختلفة؛ أي أننا نقوم الآن بإكتشاف حالات فقد وقعت منذ تاريخ الفض، كما نقوم بتوثيق حالات تم فقدها حديثاً.
• وكم وصلت أعداد المفقودين حتى هذه اللحظة؟
– لدى المنظمة بيانات دقيقة لحوالي 170 حالة.
• هل الرقم في إزدياد أم يتقلص بعد مجهودات المنظمة والمتطوعين؟!
– للأسف الرقم في إزدياد، منذ فترة كان عدد الحالات الموثقة 133 حالة، إرتفعت بالتدريج حتى وصلت إلى 170 حالة بعد إكتشاف حالات جديدة، وأتوقع إستمرار زيادة الرقم.
• ما هي أوجه التشابه بين الحالات التي تم توثيقها؟! وهل نجحتم في إيجاد بعض المفقودين؟
– العامل المشترك الأبرز بين معظم حالات الفقد هو أنها تمت خلال اعتداءات الامن على التظاهرات. وتم ايجاد بعض المفقودين بالفعل.
• أحياء؟!
– بعضهم.
• ماذا تعني ؟!
– تم العثورعلى بعض الأحياء، أغلبهم تم خطفه وتعصيب عينيه، وإقتياده إلى اماكن مجهولة ومن ثم تعذيبه، ثم أخيراً القاؤه على احد الطرق السريعة بعدها بأيام في حالة إعياء شديدة.
• ذكرت أن بعضهم كانوا أحياء، هل يعني ذلك أنكم عثرتم على حالات متوفاة ؟!
– بالفعل، على سبيل المثال يوم 9 أكتوبر 2013 ، تم العثور على جثتين، أحدهما لشاب يدعى أحمد تامر صلاح الدين نبيل ،مواليد 18 أكتوبر 1990، ويقيم في السيدة زينب ـ القاهرة، والأخرى لشاب من إحدى محافظات الصعيد يدعى عمر خليفة عثمان عبدالصمد، مواليد 11 نوفمبر 1992 طالب بالفرقة الثالثة كلية هندسة المطرية جامعة حلوان وكان مقيما في بني سويف – مركز الفشن قرية الطلا.
وتم فقدهم يوم 6 أكتوبر بعد إعتداء قوات الأمن على المظاهرات التي كان يشارك فيها الشابين. وتلقى أهالي الشابين يوم 9 أكتوبر إتصالاً من قسم شرطة إمبابة يفيد بأنه تم العثور على جثتي الشابين غارقتين في النيل بمنطقة روض الفرج، وكانت جثة الشاب الأول منتفخة وبها كسر فى الجمجمة وملابسه عليها آثار دماء ، ولون جسده أسود ، وعينيه جاحظة ولسانه يتدلى خارج فمه بينما تعض اسنانه عليه ، كما وُجدت متعلقاته الشخصية وأوراقه سليمة لا يوجد بها آثار للماء، وهو ما يثير الشكوك حول رواية الشرطة.
• هل تم البحث عن المفقودين في السجون والأقسام والمسشفيات؟
– بلا جدوى، بل تم أيضاً عمل تحاليل للحامض النووي على نفقة الأسر للجثث التي كانت موجودة بالمشرحة قبيل دفنها، بلا جدوى أيضاً.
• تقصد ال 35 جثة المتفحمة التي تم دفنها بمقابر الصدقة؟
– نعم
• هل تم إحصاء هذه الجثث مع القائمة الخاصة بالمفقودين لديكم؟
– لا؛ القائمة التي لدينا مكونة من بلاغات وصلتنا من أهالي المفقودين وتم التحقق منها، أما الجثث الغير معلومة الهوية فلم يتم إضافتهم للقائمة. وهناك أيضاً قوائم للمفقودين عند بعض المراكز والمجموعات الحقوقية، لكن لم تدخل بعد في قوائمنا لصعوبة التحقق من دقتها بسرعة.
• ألا يعني ذلك أن الأعداد الحقيقية للمفقودين قد تكون أكثر بكثير مما قمتم بإحصاؤه؟!
– هذا أكيد، فلا توجد جهة حكومية تحصى المفقودين، ولا يوجد تعاون حكومي مع الأمر، وبالتالي لا توجد منظمة أو نشطاء بإمكانهم حصر الأعداد بدقة، فالعمل الحقوقي والتوثيقى في مصر عمل بالغ الخطورة، ومن ترصده السلطات قد يصبح هو الاخر فى عداد المفقودين أو المعتقلين، وقد تعرض احد باحثي المنظمة للإعتقال وتم تعذيبه بشكل بالغ القسوة وصعقه بالكهرباء حتى فقد القدرة على النطق لفترة جاوزت الشهر.
***