في الساعة السادسة وتسع وعشرين دقيقة من صباح يوم السابع من أكتوبر 2023، كانت فلسطين على موعد مع لحظة تاريخية فاصلة تعيدها إلى سدّة الأولويات والقضايا عربيًا وإقليميًا ودوليًا، فمع عبور أبناء المقاومة الفلسطينية الجدار الفاصل والدفاعات التكنولوجية الحصينة نحو عمق دولة الاحتلال، وتسجيلهم تفوقًا أمنيًا واستخباراتيًا بل عسكريًا على منظومة هي الأكثر “تفوقًا” إقليميًا، بدا أن التاريخ لا يعيد نفسه فقط، إنما يراجع حساباته.
الضربة التي أفقدت الاحتلال أكثر من أمنه وتوازنه وتفوقه، دفعت الدماء الحارّة من جديد في قلوب الفلسطينيين والعرب وأحرار العالم من المؤمنين بعدالة قضيتهم وحقوقهم التاريخية والإنسانية، على عدة مستويات، بدءًا من الشعوب وحتى السياسيين، ومن ثم الدول والمنظومة الأممية، وحتى الخطاب الإعلامي السائد والحالة النفسية المصاحبة له.
تأسّست بذلك سردية فلسطينية أخرى، تعيد كتابة التاريخ والجغرافيا، وتعدّل موازين القوى واصطفاف الشعوب والأنظمة، وإحياء القرارات الأممية والدولية، وصبغ المحتل بالإرهاب والإبادة والوحشية والعنصرية، وتأزيم روايته وشخوصه دوليًا وأمميًا، حتى يبدو “النبذ” سمة عامةً ملاصقةً له.
تستعرض هذه المادة ما أحرزه “طوفان الأقصى” من إحياء للسردية الفلسطينية، وتوسع وانتشار لها، وما حققه من مراكمة للمنجزات خارج حدود الميدان العسكري وداخل مدار الميادين الإنسانية والشعبية والإعلامية والقانونية، دون إغفال دماء الألوف المؤلفة من الشهداء الذين خطت سردية الفلسطيني بعد السابع من أكتوبر 2023 بصمودهم وتضحياتهم ودمائهم.
العالم كمنصة للصوت الفلسطيني
لم يكن من المفاجئ خروج الجماهير العربية والإسلامية إلى الشوارع تعبيرًا عن التضامن مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة إبّان عملية “طوفان الأقصى”، فلطالما احتفظت القضية الفلسطينية بحرارتها، ولو بتذبذب، في قلوب العرب والمسلمين.
لكن المفاجئ كان حجم النفير الكبير في دول العالم الغربي رفضًا وتنديدًا للحرب الإسرائيلية ولكل من يقف معها ويدعمها، لأنها المعقل الأساسي للحركة الصهيونية ومنبت مشروعها، ومنها تكتسب دولة الاحتلال أكسير حياتها بتجنيدها للطاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية لدوام وجودها، ولذا كان كل ناطق بغير العربية رافض للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بمثابة ناقوس خطر يدقّ في أذن الرواية الإسرائيلية.
وفي غضون 5 أيام فقط من اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، سجّل العالم موقفه الرافض للاحتلال وعدوانه، من خلال أفواج المتظاهرين ومظاهر الرفض الشعبي العارم التي سادت أوروبا من شرقها إلى غربها بمعاقلها الإمبريالية (بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وبولندا، وإسبانيا) والولايات المتحدة الأمريكية (نيويورك، وواشنطن، وفلوريدا، وكاليفورنيا، ولوس أنجلوس)، كما بدأت المظاهرات تكتسب زخمًا أقوى وأكثر مأسسةً وتنظيمًا.

وخلال أول مئة يوم فقط من الحرب وصل عدد المسيرات المتضامنة مع فلسطين حول العالم إلى 3 آلاف و700 مسيرة ومظاهرة، غطت ما نسبته 90% من دول العالم، مقابل 520 مسيرة داعمة لـ”إسرائيل” فقط، أي ما نسبته 13% من الحراك الشعبي المتعلق بالحرب وأحداث فلسطين.
ووفقًا لإحصائية مشروع بيانات مواقع النزاع المسلح وأحداثه، خرجت 600 مسيرة في الولايات المتحدة وحدها فقط، أما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فقد وصلت عدد المسيرات إلى 1400 مسيرة، تركزت في اليمن وتركيا وإيران والمغرب، ورغم أن الحراك الأوروبي احتل المرتبة الثالثة في الـ 100 يوم الأولى، إلا أنه أثبت تواجدًا قويًا يمكن تلمّسه بتنظيم 170 مسيرة في برلين بألمانيا رغم قرارات الشرطة وقمعها.
وبعد 10 أشهر من الحرب كانت الساحة الأوروبية تتصدر مشاهد التفاعل الشعبي مع فلسطين، حيث رصد المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام أكثر من 22 ألف مظاهرة وفعالية في أكثر من 600 مدينة أوروبية، غطت أكثر من 20 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، وشاركت بها نقابات عمالية وجمعيات خيرية وسياسيون وناشطون مجتمعيون.
مع استمرار زخم الحرب أصبح الحراك الشعبي أكثر وعيًا بآليات التظاهر والاحتجاج ورفع نسب التفاعل والضغط على الحكومات، حيث استفاد المنظمون من القوانين المحلية في دعم حراكهم، ففي أول مظاهرة مرخّصة مؤيدة لفلسطين في فرنسا، خرج أكثر من 15 ألف مشارك هتفوا جميعًا: “يا غزة.. باريس معك”.

بينما في مدينة دوسلدورف الألمانية خرجت مظاهرة مرخّصة شارك فيها أكثر من 100 ألف داعم للقضية الفلسطينية ومطالب بوقف الحرب، أكثر من نصفهم من الألمان الأوروبيين، وهو ما أثبت أن التنوع الثقافي والعرقي للمظاهرات ساهم في انتشارها في دوائر لا تقتصر على المهاجرين العرب والمسلمين في أوروبا، بل تصدره -وأحيانًا تنظّمه وتقوده- جماعات يهودية ومسيحية رافضة للصهيونية، وأحزاب ليبرالية غربية ترفض العنصرية والحرب والإبادة.
هكذا، كانت سردية فلسطين وحريتها من النهر إلى البحر تتصدر ميادين المدن الغربية بمشاركة الآلاف المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، وبخليط متنوع من مختلف الأعمار والخلفيات الثقافية والدينية والأكاديمية، وبتغطية قفزت على قيود الإعلام التقليدي، استخدم فيها المتظاهرون وسائل التواصل الاجتماعية لإيصال رسالتهم والترويج لأنشطتهم.
وبقدرة ضاغطة قلّما أُتيحت للشعوب العربية للتأثير والضغط على الحكومات، وتغيير موازين سياساتها وانجرافها المتسارع نحو تأييد الحرب الإسرائيلية ودعمها عسكريًا واستخباراتيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وهو ما أعطى المقاطعة الاقتصادية حول العالم دفعةً أخرى من النجاح وحظوظًا أكبر في تقويض الداعمين لـ”إسرائيل”.
استفزت تلك النجاحات دولة الاحتلال، فنشطت جماعاتها في محاربة قادة المظاهرات وتفعيل السياسيين لصالح إصدار قوانين عقابية تحت مسمّى معاداة السامية تشمل أي هتاف بالحرية لفلسطين، أو رفع العلم الفلسطيني، أو ترديد مقولة “من النهر إلى البحر”.
بل نشطت مجموعات الضغط المؤيدة لـ”إسرائيل” لملاحقة الداعمين ونشر معلوماتهم الشخصية وعناوينهم وأسماء أطفالهم، إضافةً إلى التهديد بقتلهم، ثم تطور عملهم للاعتداء الفعلي على مؤثرين مناصرين للشعب الفلسطيني، واختراق تجمعات المحتجين ومهاجمتهم بالعصي والحجارة ورذاذ الفلفل، داعين إلى تنفيذ تطهير عرقي آخر للفلسطينيين تحت مسمّى “النكبة الثانية”.

بالنظر إلى طبيعة الحراك الشعبي والجماهيري المصاحب للسابع من أكتوبر، يلاحظ تطوره في الساحات الغربية والعالمية وتنوعه مقارنةً بذبوله واضمحلاله، بل اختفاؤه أحيانًا في ساحات عربية عدّت “سيدة القرار العربي” مثل السعودية التي خفت صوت شيوخها ودعاتها وشبابها، ومصر التي بدأت بمظاهرات نقابية خجولة مصممة مسبقًا وفق نظام رسمي صارم ثم ماتت، والبحرين والإمارات التي التزمت خط السلام الإبراهيمي ونأت بنفسها تمامًا.
رغم ذلك، فإن ميدان السابع من أكتوبر الأعظم كان منصات التواصل الاجتماعي التي قدّمت صورة عالمية وعربية وإسلامية للفلسطيني الصامد المقاوم في مواجهة المحتل، وأعادت تطهير الوعي من حملات التشويه والتطبيع وتحرير الأجيال الشابة من أكاذيب الوئام الصهيوني والتخلي الفلسطيني، ودفعت بالسردية الفلسطينية إلى واجهة اهتماماتهم مدّعمةً بالحقائق التاريخية والأمثلة الصارمة للمقاوم والخائن والمطبّع والمحتل على حد سواء.
أظهرت دراسة جديدة أجرتها مؤسسة يوغوف العالمية للدراسات والاستطلاعات في 5 دول أوروبية، هي بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والسويد، منتصف أبريل/ نيسان الماضي، أن نسبة كبيرة من الشباب الأوروبي يعتقد أن “إسرائيل” ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، بنسبة تزيد عن 43% في كل من إيطاليا والسويد وبلجيكا، وعن 33% في كل من فرنسا وألمانيا.
كما أظهرت الدراسة نفسها أن فئة الشباب (18-24 سنة) المعروفة باسم جيل Z أكثر وعيًا بحقوق الفلسطينيين وما تمارسه “إسرائيل” بحقهم من إبادة وتهجير وتشريد، كما تفوق وعيهم بأدوار منصات التواصل الاجتماعية في ملاحقة المحتوى الفلسطيني والرقابة على المنشورات.
وتُظهر المسيرات والفعاليات المتزايدة أن نتائج الدراسة قابلة للتعميم بشكل كبير غربيًا وعالميًا، كما تعكس قدرة الاختراق الفلسطيني للأسوار الحديدية الغربية حول مظلومية “إسرائيل” وأحقيتها في فلسطين انطلاقًا من موقعها كضحية للهولوكوست، ولو أن بيانات كهذه ستكون مشجّعة أكثر في أي مكان آخر حول العالم لا تمارس فيه “إسرائيل” سطوتها الفكرية والاقتصادية والسياسية.
اختراق الوعي الأكاديمي
بالتوازي مع الحراك الشعبي والفعاليات الثقافية والفنية والسياسية والإعلامية، والمؤتمرات واللقاءات والاحتجاجات التي لاحقت المسؤولين أمام منازلهم ومكاتبهم، وطالت كل مسؤول إسرائيلي حطَّ قدميه في العواصم الغربية، بدا أن الحراك أصبح يتخذ مظاهر مختلفة تقف على النقيض من أي وجود إسرائيلي في العالم الغربي.
بدءًا بالمتاحف ومهرجانات الفن والسينما ومسابقات الغناء الأوروبي “اليوروفيجن”، مرورًا بالرياضة والمباريات وما صاحبها من نفور شعبي ورفض عارم للوجود الإسرائيلي فيه، وانتهاءً بالجامعات والمعاهد والمراكز الأكاديمية التي حقّق فيها الحراك مستويات أخرى من الاختراق.

بعد قرابة 6 أشهر على طوفان الأقصى، وبعد عودة الجامعات الغربية إلى الانتظام في دوامها المعتاد، ظهرت إرهاصات حراك الشارع في الحرم الجامعي لأكثر من 60 جامعة أمريكية و20 جامعة أوروبية عريقة ما بين بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والدنمارك والنرويج وألمانيا وإسبانيا، ليظهر الوجه الآخر للديمقراطية الغربية في واحدة من أشد عمليات القمع البوليسي للطلبة والأكاديميين، وأكثر التغطيات الإعلامية تشويهًا وتضليلًا لمطالبهم.
حيث نشطت مجموعات مثل “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” في الكثير من الجامعات الأمريكية، ونظموا اللقاءات والتجمعات وأصدروا بيانات للمطالبة بوقف إطلاق النار وبوقف الدعم الأمريكي لـ”إسرائيل”، كما شملت أنشطتهم تنظيم استفتاءات طلابية للمطالبة بمقاطعة “إسرائيل” وسحب الاستثمارات الجامعية في الشركات الداعمة لـ”إسرائيل”.
وهو ما دفع المجموعات الداعمة لـ”إسرائيل” إلى مهاجمتهم والسعي لإصدار قرارات تحدُّ من تحركهم، فتمَّ حظر العديد من التنظيمات الطلابية الداعمة لفلسطين، ثم تأليب السلطات المحلية لملاحقتهم، فاندفع الطلبة لإنشاء مخيمات اعتصام داخل الحرم الجامعي لأكثر من 30 جامعة، لتقوم إدارة الجامعات باستدعاء قوات الشرطة لفضّ اعتصام الطلبة وتفكيك مخيماتهم بالقوة.

بالمحصلة، تمّ اعتقال أكثر من 3 آلاف طالب وأكاديمي من جامعات الولايات المتحدة وحدها، إضافة إلى العشرات من طلبة وأكاديمي الجامعات الأوروبية المطالبين بسحب الاستثمارات الجامعية وقطع العلاقات الأكاديمية والبحثية مع “إسرائيل” ومؤسساتها، ووقف أي مظاهر سياساتية داعمة لـ”إسرائيل” أو لمؤسساتها الخارجية الداعمة للإبادة الجماعية.
كما هاجمت الشرطة ليلًا خيام الطلبة المعتصمين، وأصدرت إدارات الجامعات قرارات تعسفية بالفصل للطلبة والأكاديميين، وطردت عشرات الطلبة من سكناتهم الجامعية، وألغت حفلات التخرج، وأبلغوا البعض بتوديع مستقبلهم المهني، في محاولة لقتل الحراك في مهده، لكن ذلك لم يزد المتظاهرين إلا إصرارًا حتى تمكنوا من تحقيق بعض النتائج.
قطعت كل من جامعية بورتلاند، وكلية ترينتي، وجامعة هلسنكي، وجامعة غنت، وجامعة كوبنهاغن، علاقاتها مع المؤسسات والمراكز البحثية الإسرائيلية والشركات المرتبطة بها، فيما لم تستطع إدارة كل من كولومبيا وهامبولت وأمستردام وكاليفورنيا إيجاد مخرج وسيط إلا بإغلاق الحرم الجامعي.
اتّسم الحراك الطلابي في الجامعات بكثير ممّا اتّسم به الحراك الشعبي من تنوع عرقي وثقافي وديني، وبدعم كبير من منظمات حقوق الإنسان والنقابات العمالية، ومشاركة واسعة من جمهور الطلبة قدّرت في الولايات المتحدة بأكثر من 8%، وبمساندة من أعضاء الهيئة التدريسية، وطبعًا قوبلت بإدانة سياسية من المسؤولين المؤيدين لـ”إسرائيل” مثل الرئيس الأمريكي جو بايدن، ورؤساء الوزراء في أستراليا وبريطانيا وفرنسا وهولندا، ورئيس دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو.

لكن أيًّا من تلك الإدانات لم تنفِ حقيقة التغيير في وعي المجتمع الغربي الأكاديمي تجاه الوجود الإسرائيلي واستعماريته الكيانية، بل أكّدت وجود التهديد المستقبلي للإرث الصهيوني الغربي الذي بدأ في جامعات النخبة الأوروبية والأمريكية، وترسخ معها وحظيَ في كل مفصل من مفاصله بدعمها اللامحدود.
كما عبّر عن نجاح “طوفان الأقصى” في تصدير القضية الفلسطينية إلى صدارة اهتمامات وأولويات الشباب الأمريكي والأوروبي المتعلم والمثقف، بصورتها الأصلية وسرديتها الحقيقية لا بالسردية الإسرائيلية، وهو ما انعكس في تصدر مئات من الأكاديميين والمؤثرين اليهود والمسيحيين الأرثوذكس للحراك الطلابي ورفضهم ربطه بأي شكل من أشكال معاداة السامية.
العنوان الرئيسي لأجندة العالم
لم يكن يتوقع أحد أن تستطيع غزة التي لا تزيد مساحتها عن 365 كيلومترًا التأثير في الحكومات والأنظمة الغربية والدولية بهذا الوضوح، بل أن تتربّع على مدى عام كامل على سدّة أولويات المجتمع الدولي، وتغدو أحداثها حاضرة في كل لقاء ومؤتمر دولي مهما كان طابعه.
لكن ذلك تأتّى من حجم المفاجأة التي أصابت الاحتلال صبيحة السابع من أكتوبر، وما ارتبط به من حرب مستعرة حملت عناوين مختلفة، بدءًا من التهجير فالحصار فالتجويع والتشريد والإبادة، وحتى التطهير العرقي، لتكون كل هذه العناوين محاطة بعجز أو تراخي المجتمع الدولي عن إيقافها أو الحد من نتائجها.
وأمام هذه الحرب الشرسة وجدت المستويات السياسية الإقليمية والدولية نفسها مدفوعة لطرح العديد من الخيارات والحلول للخروج من عنق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي تتزايد احتمالات توسعها وتقلّ إمكانيات التنبؤ الدقيق بكيفية نهايتها أو أوجُه حسمها، ما يترك جميع أطرافها على قارعة القلق والتوجس الشديد.
وهو ما جذب العالم لإعادة طرح مصطلحه الميت “حل الدولتين” في محاولة لكبح جماح الفلسطينيين وخفض سقف الاندفاع العربي، بتقديم مبكر لحلّ دبلوماسي مائع يمكن لجميع الأطراف ادّعاء الموافقة عليه دون الحاجة إلى تطبيقه، وبما قد يكون محاولةً لرفع العتب عن المجازر الدائرة بإعادة تدوير المصطلح مرارًا وتكرارًا على ألسن ومؤتمرات ولقاءات مختلفة.
لكن دولًا عديدة تجاوزت الطرح إلى التنفيذ من خلال الاعتراف بدولة فلسطين وفق حدود عام 1967، بما لا يترك للاحتلال مجالًا بتأكيد ضمّ الأراضي الفلسطينية لسلطته أو شرعنة ذلك، وبما لا يتيح لحليفته واشنطن إمكانية الاعتراف بها كأراضٍ إسرائيلية على غرار الجولان.
بدأ هذا الطرح من إسبانيا وزيارة رئيس وزرائها لمعبر رفح خلال شهر ونصف من الحرب الإسرائيلية، حين أشار في مؤتمره الصحفي الذي كان بصحبة رئيس الوزراء البلجيكي، إلى عزم بلاده الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال وقت قصير، مشجّعًا المزيد من الدول والاتحاد الأوروبي للإقدام على كذلك، مفجّرًا مفاجأة أثارت حنق الجانب الإسرائيلي حين قال: “إذا لم يعترف الاتحاد الأوروبي بالدولة الفلسطينية فإن إسبانيا ستتخذ قرارها بنفسها وتفعل ذلك”.
وهو ما التزمت به إسبانيا برفقة كل من النرويج وإيرلندا وسلوفينيا، فيما أبدت دول أخرى مثل مالطا وبلجيكا استعدادًا مستقبليًا لذلك، وجاءت خطوة الاعتراف الأوروبي مدفوعة بعدد من المتغيرات، أولها الحرب الإسرائيلية الواسعة على قطاع غزة وحجم الانتهاك الكبير لحقوق الإنسان والتجاهل للأعراف والمواثيق الدولية، وثانيها الحراك الشعبي الضخم والضاغط في أوروبا الرافض للحرب وللاحتلال الإسرائيلي وللدعم الغربي له.
والذي تؤكد استطلاعات الرأي التي أشارت إلى أن نسبةً عالية من سكان الدول الأوروبية تتجاوز 40%، يعتقدون أنه يجب على حكوماتهم أن تكون إما أكثر دعمًا للفلسطينيين وإما أن يكون لها موقف متوازن، بدلًا من دعمها المطلق وغير المشروط لدولة الاحتلال الإسرائيلي.
أما ثالثها فهي التأكيدات القانونية والأممية لشبهة ارتكاب دولة الاحتلال جريمة إبادة جماعية في قطاع غزة، وما ارتبط بها لاحقًا من توجُّه المدعي العام للجنائية الدولية للمطالبة باعتقال رأس دولة الاحتلال، رئيس وزرائها نتنياهو ووزير دفاعها غالانت باعتبارهما مجرمَي حرب ومساهمَين في الإبادة.
يتداخل ذلك مع الموقف المتطرف للولايات المتحدة وبريطانيا الداعم للاحتلال في حربه والمساند له عسكريًا واقتصاديًا وماليًا وسياسيًا، من خلال سلسلة جولات دبلوماسية ضاغطة على قادة الشرق الأوسط والعالم لمنع توسع الحرب ووقف كافة الجبهات المستنزفة لدولة الاحتلال والشاغلة لها عن إبادتها لقطاع غزة وأهلها، وهو ما تسبّب في انقسامات داخلية وسياسية في عدد من الدول الأوروبية، ونأيها عن النمط الغربي السائد في دعم “إسرائيل”.
حيث يدلل على ذلك تصريح كل من إسبانيا وإيرلندا والنرويج المستبق لعثرات واشنطن في الأمم المتحدة، والتي ربطت اعترافها بدولة فلسطين باستخدام الولايات المتحدة لحق النقض الفيتو في مجلس الأمن أمام قرار العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، حيث سبق للدول الثلاث أن صرّحت أنها ستعترف بفلسطين بدءًا من 28 مايو/ أيار في حال استخدمت واشنطن نقضها منتصف أبريل/ نيسان.
هذا الحراك الأوروبي الرسمي اُعتبر قدرة فلسطينية فائقة في تحقيق انقسام وشرخ كبير في الساحة الأوروبية لصالح القضية الفلسطينية، لا سيما أن هذه القدرة كانت ترجمة للعمل المقاوم والجهد التحريري والصمود الشعبي المتواصل أمام آلة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.
ورغم أهمية الاعتراف على المستوى الدولي والسياسي، واعتباره رصيدًا خالصًا للسابع من أكتوبر، لا سيما أن حكومات العالم تجاهلت القضية الفلسطينية بشكل متزايد في السنوات الأخيرة، وغضّت الطرف عن تهويد القدس وتهجير أهلها، وسياسات الضمّ في الضفة الغربية، وحصار قطاع غزة المتواصل منذ 17 عامًا، ثم عادت لتستيقظ بفعل الطوفان.
إلا أن الاعتراف يفتقد القدرة الحقيقية على إحداث تغيير على الأرض لصالح الفلسطينيين، لا سيما مع رفض أي من الدول السبع الكبار (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، الولايات المتحدة، اليابان، كندا وإيطاليا) الاعتراف بوجود دولة فلسطينية.
رغم ذلك فإن أي تحرك لصالح الفلسطينيين سيكون مؤشرًا هامًّا على تغييرات تكتيكية قد تصبّ لاحقًا في مصلحة تأكيد حقوقهم، خاصة على المستوى الأوروبي الذي سجّلت له هذه الحرب موقفًا أكثر نأيًا عن الإدارة الأمريكية وتحالفها الدولي، ومن المتوقع أن تزداد الرؤى تباعدًا باعتراف 13 دولة من أصل 27 في الاتحاد الأوروبي بفلسطين دولةً وشعبًا.
هرولة في الأروقة الدولية
رغم أن القضية الفلسطينية تحتل مكانةً متقدمة في ميدان القرارات الدولية، واستثنائية الفيتو الأمريكي الصارم المصاحب لكل قرار لمجلس الأمن بإمكانه كبح جماح الانتهاكات الإسرائيلية أو خفض قدرتها التوسعية، إلا أن السابع من أكتوبر وما بعده شهد الفترة الأكثر حراكًا وهرولة في الأروقة الدولية لصالح الخروج بتوافق يحفظ ماء وجه الجميع، دون أن يمسّ بما أسمته المنظومة الغربية “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
نتيجة لذلك أصبح في حصيلة فلسطين أكثر من 700 قرار من الجمعية العامة ومجلس الأمن، جميعها دون استثناء تحفل بمصطلحات السلام والاستقرار والتهدئة، وجميعها دون استثناء ضربت “إسرائيل” عرض الحائط بها وأكملت عدوانها واجتياحها واستخدامها المحرم للسلاح الحارق، وضمّها للمناطق الفلسطينية بعد ترويع سكانها وتهجيرهم.
أولى قرارات ما بعد السابع من أكتوبر كان اعتماد الجمعية العامة قرارًا يدعو إلى هدنة إنسانية فورية ودائمة في غزة في 27 أكتوبر/ تشرين الأول، كما نصَّ القرار على إدخال السلع والخدمات الأساسية دون عوائق، وقد تجاهلته “إسرائيل” تمامًا.
والحقيقة أن القرار لم يخرج بسهولة، بل احتاج لإعادة صياغة ومناقشات واصطدم برفض أمريكي وأوروبي متكرر، وفشلت الكثير من المحاولات إما نتيجة معارضة طرح المشروع وإما نتيجة استخدام حق الفيتو لنقضه لاحقًا، وهو ما قلص من الأريحية العربية والإسلامية في تقديم مشاريع القرارات لمجلس الأمن مقابل الجمعية العامة.
رغم ذلك ناقشت الأمم المتحدة عددًا من مشاريع القرار المتعلقة بالحرب على قطاع غزة، فمن الدول العربية والإسلامية تقدمت كل من الجزائر وتركيا والإمارات وماليزيا وأندونيسيا بمقترحات لوقف الحرب، حيث قدمت الجزائر في أبريل/ نيسان 2024 مشروع قرار لمجلس الأمن يوصي بقبول دولة فلسطين كعضو كامل في الأمم المتحدة، لكنه قوبل بالفيتو الأمريكي، فتمَّ تقديمه مرةً أخرى بأيادٍ إماراتية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في مايو/ أيار 2024، فأُقرَّ بأغلبية 143 صوتًا.
من بين القرارات المهمة أيضًا كان مشروع قرار تركي لمجلس الأمن يدعو إلى وقف فوري لجميع الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في يونيو/ حزيران 2024، لكن الفيتو أوقفه مرةً أخرى.
أما مساهمة دول شرق آسيا فقد جاءت من ماليزيا التي قدمت مشروع قرار للجمعية العامة يهدف إلى تقديم مساعدات إنسانية عاجلة للفلسطينيين المتضررين من النزاع، في يوليو/ تموز 2024، واستطاع القرار النفاذ بأغلبية كبيرة، بينما تمّت عرقلة مشروع القرار الإندونيسي إلى مجلس الأمن الداعي إلى تحقيق دولي في انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والذي قدمته في أغسطس/ آب المنصرم 2024.
كما قدّمت الدول الغربية عددًا من مشاريع القرار التي لم تحظَ بالتأييد، منها مشروع القرار الفرنسي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 الداعي إلى وقف إطلاق النار الفوري وبدء مفاوضات سلام جديدة بين “إسرائيل” والفلسطينيين، ومشروع القرار الألماني في يناير/ كانون الثاني 2024 الداعي إلى تقديم مساعدات إنسانية عاجلة للفلسطينيين المتضررين من النزاع، ومشروع القرار الإسباني الداعي إلى تحقيق دولي في انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والمقدَّم في مارس/ آذار 2024.
ورغم ما استطاع النجاة من قرارات وما سقط في فخّ الفيتو والاعتراض، إلا أن الجمعية العامة استطاعت تقديم قرارَين هامَّين اُعتبرا نجاحًا فلسطينيًا أولهما في 10 مايو/ أيار 2024، حين أيّدت الجمعية العامة مسعى الفلسطينيين لنيل العضوية الكاملة، مرفقة تأييدها بتوصية لمجلس الأمن الدولي بإعادة النظر في العضوية.
وجاء قرار الجمعية بأغلبية 143 صوتًا مؤيدًا مقابل 9 أصوات معارضة، منها الولايات المتحدة و”إسرائيل”، بينما امتنعت 25 دولة عن التصويت، لكن رغم أهميته الدبلوماسية في منحه الفلسطينيين بعض الحقوق الإضافية والميزات مثل مقعد مع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في قاعة الجمعية، إلا أنه يسلب منهم الحق في التصويت أو الترشح لعضوية الهيئات الأممية.
وردَّ طرح القرار على الجمعية العامة بعدما استخدمت الولايات المتحدة الفيتو في مجلس الأمن الدولي في 18 أبريل/ نيسان 2024، لمنع صدور قرار يمنح دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وهو ما يعتبره ميثاق الأمم المتحدة شرطًا ملزمًا للحصول على العضوية الكاملة، مرفقًا بتوصية إيجابية من مجلس الأمن وإجماع الدول الخمس دائمة العضوية.
القرار الثاني جاء في 17 سبتمبر/ أيلول، وتضمّن الدعوة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي استنادًا لفتوى محكمة العدل الدولية التي أقرّت اعتبار وجود “إسرائيل” في الأراضي الفلسطينية 1967 وجودًا غير قانوني، واحتلالًا يجب إنهاؤه فورًا.
وعليه دعت الجمعية العامة دولة الاحتلال لإنهاء وجودها في الأراضي الفلسطينية خلال 12 شهرًا، وهو ما دفع السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة لوصفها بـ”السيرك”، واعتبار القرار إرهابًا دبلوماسيًا يهدف إلى تدمير الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فيما اعتبرته الدول الداعمة لفلسطين قرارًا “تاريخيًا”.
العالم ضدّ الديمقراطية الوحيدة!
في ظل هرولة الأمم المتحدة، وقراراتها العرجاء، سارعت الدول المتضامنة مع فلسطين إلى طرق أبواب أخرى، من بينها جنوب أفريقيا التي رفعت نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي دعوى قضائية ضد دولة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية، بتهمة “ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية” في حربها على الفلسطينيين في قطاع غزة.
وفيما استندت الدعوى إلى اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية الصادرة عام 1948، وأرفقت بالكثير من الأدلة على تورُّط مختلف المستويات السياسية والعسكرية في دولة الاحتلال بالجريمة، فإن جنوب أفريقيا طالبت بالحدّ الأدنى باتخاذ تدابير مؤقتة لحماية الفلسطينيين ومنع الإبادة الجماعية.
خلال فترة وجيزة اتّسع نطاق الدول المنضمّة إلى جنوب أفريقيا في هذه الدعوى، بدخول كل من نيكاراغوا وكولومبيا وليبيا، فيما أعلنت ماليزيا وأندونيسيا والجزائر دعمها للدعوى وتقديمها أدلة على موثوقيتها.

وبعد جلسة استماع في 11 يناير/ كانون الثاني 2024، أصدرت المحكمة قرارًا في 26 من الشهر نفسه أمرت فيه دولة الاحتلال باتخاذ تدابير مؤقتة لحماية الفلسطينيين ومنع الإبادة في غزة، لكن عدم احترام الاحتلال لأي قرارات دولية أو أممية وإمعانه المقصود في الإبادة، دفع جنوب أفريقيا لطلب فرض إجراءات عاجلة إضافية لحماية الفلسطينيين، خاصة مع الهجوم الذي كان متوقعًا على مدينة رفح الفلسطينية، وهو ما رفضته المحكمة مشددة على ضرورة احترام الاحتلال للإجراءات السابقة.
لكنها في المقابل أصدرت المزيد من القرارات المتعلقة بالحق الفلسطيني، منها الرأي الاستشاري الصادر في يوليو/ تموز 2024 باعتبار الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية 1967 احتلالًا، وإلزامها دولة الاحتلال بإنهاء هذا الاحتلال وتفكيك المستوطنات والانسحاب الفوري وتعويض السكان عن الضرر المادي والمعنوي الذي سبّبته لهم.
مع ما يحمله هذا الرأي من أهمية إلزام المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة بإقرار عدم شرعية الوضع القائم والدعوة إلى إنهائه، وهو ما ترجمته الجمعية العامة في قرارها في 17 سبتمبر/ أيلول، بدعوتها إلى إنهاء أي تدابير أو تغييرات ديموغرافية أو جغرافية على النمط الأصلي للأرض.
كما أصدرت قرارات ملزمة لـ”إسرائيل” بوقف الهجوم العسكري، وتعديل التدابير المؤقتة ورفعها لمستويات أكثر فعالية، وبتحسين الوضع الإنساني في غزة، ورفع الحصار وتوفير الدواء والمياه والغذاء للفلسطينيين، وإيقاف التحريض على الإبادة الجماعية.
كما تضمّنت الإجراءات القانونية الدولية طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في 10 سبتمبر/ أيلول إصدار أوامر اعتقال بحقّ رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، للتحقيق معهما بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو الطلب الذي من المفترض أن يمثل حصارًا سياسيًا ودبلوماسيًا وعسكريًا لدولة الاحتلال، لكنها في المقابل التفّت عليه بالدعم البريطاني القانوني، والمساندة الأمريكية، وملاحقة المدعي العام وتهديده على المستوى العائلي والشخصي.
والحقيقة أن مجموع القرارات الدولية منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم، وما مثلته من زخم قانوني للوضع الفلسطيني، وجميع ما اشتملت عليه من اعتبار دولة الاحتلال “مارقة” بالنسبة إلى القانون الدولي، ووصمها بصفتها نظام فصل عنصري، وذلك في بيانات مؤسسات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وغيرهما.
إلا أن ما ثبت في وعي العالم ووعي الفلسطينيين أن “إسرائيل” فوق القانون وفوق الأديان والمعايير الأخلاقية والإنسانية، وأن جميع هذه المنظومة مصمَّمة لتعمل وفقًا لمصالح الاحتلال أو أن تتوقف عن العمل، كليًا أو جزئيًا، حتى تغدو الحاجة الإسرائيلية لها أكثر إلحاحًا.
وإن كان لـ”طوفان الأقصى” من فضل في ذلك، فهو كشفه عوار المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية الإنسانية، وعجز القانون عن آليات محاسبة أو تجريم حقيقي أو حتى امتلاك قوة لوقف الإبادة الجماعية والاستيطان والاحتلال والهدم والتعذيب، وهو ما عزز من رؤية الفلسطينيين والعالم بأن استنادهم إلى سلاحهم ورصاصهم منذ البداية كان الخيار الأكثر حكمة والأقصر مسافةً نحو حريتهم.
عدنا بعد جيل وجيل
مهما يكن من تبعات زلزال الشرق الأوسط الكبير في السابع من أكتوبر، فإنه بالنسبة إلى الفلسطينيين بدا أشبه بكاشف كيميائي ليس لك إلا أن ترميه في وجه إعلاميي العالم، لتعرف معدنهم وبوصلتهم وموقفهم من حقوق الشعب الفلسطيني وأصالة مقاومته، والحقيقة أن المرارة والحموضة لم تكن في الكاشف نفسه بقدر ما كانت في الأصوات والوسائل الإعلامية المحلية والإقليمية والدولية، التي نزعت عباءة إنسانيتها وارتدّت إلى حضن العدو مدافعةً عنه.
منذ لحظة الطوفان الأولى انقسم المشهد الإعلامي بين المبتهج بفعل المقاومة، أو المصدوم من قدراتها الأمنية والعسكرية، أو المصعوق من المستحيل الذي تجاوزته، أو الناقم شديد العداء الذي يبرر عداءه بنظرية المؤامرة حينًا أو المقامرة حينًا أو المتاجرة حينًا آخر.
بين هؤلاء انقسم الإعلام العربي، فمن محور المقاومة خرج المبتهجون بنصر الله ووعده وفتحه الكبير، ومن محور الحياد والرأي والرأي الآخر خرج المصدوم المحلل لقدراتها الأمنية والعسكرية المتوجّس من الآتٍ المترقب لويل واشنطن ووعيد ربيبتها، ومن المصعوق خرج المتسائل عن الشراكة في القرار والانفراد بالحدث.
أما الناقم شديد العداء عربيًا أو غربيًا فهو الذي يستبق الرأي بالإدانة، ويحذف من التاريخ ما يريد تأييدًا لرأيه وتأكيدًا لموقفه، والمهم له ألا تمس “إسرائيل” ولا صورتها ولا أمنها ولا تفوقها بسوء، فيما لا يعنيه من سعير الحرب إلا ما يمس أمنها الاقتصادي والغذائي.
وخلال مدة قصيرة لم تتجاوز الشهر من العبور الكبير، كانت السردية الإسرائيلية قد اكتسحت العالم، وحققت تعاطفًا غير مسبوق والتفافًا تسبّب للوهلة الأولى في تقوقع الأصوات العربية والفلسطينية الداعمة للمقاومة، بل أضحى الهجوم عليها ووسمها بالإرهاب ومساندة العنف سمة عامة في الإعلام الغربي والعدائي.
لكن المتغير الحاسم الذي لم يكن للسردية الإسرائيلية أن تعلو عليه هو الصمود الفلسطيني الذي مثّلته الكثير من اللحظات على مدى عام كامل من الحرب، صمود الأب وهو يودّع طفله الوحيد، وصمود الأم وهي تودّعها عائلتها بأكملها وتحثو التراب على أطفالها، صمود الجد وهو يكفن أحفاده ويقبّلهم، والأطفال الذين يتحصنون بالأمل وقودًا لهم في ظل شحّ الحياة وتبعثر الموت، صور عديدة خرجت من القطاع رغم التعتيم الإعلامي الإسرائيلي، والقطع المتواصل والمكثف للكهرباء وشبكات الاتصال، وقصف الطواقم الإعلامية والمؤثرين الشباب وقتلهم وترويعهم.
خرجت في النهاية السردية الفلسطينية من فم الفلسطيني إلى الإعلام العربي فالدولي، دون أن تستطيع القنابل إجبارها على الصمت، فيما وقفت السردية الإسرائيلية أمامها عاجزة، لا سيما مع انكشافها لتظهر مقوماتها مبررات للاستعمار واحتلال الأرض وسرقة أرواح السكان الآمنين ليس إلا، فسقطت سردية استخدام المشافي كمقارّ عسكرية، وسقطت سردية الدولة الديمقراطية والجيش الأكثر أخلاقية في العالم، وسقطت سردية تحرير أهل غزة من حكم حماس، وسقطت سرديات إسرائيلية أخرى وُجّهت بعضها لجمهورها الذي أصابته وخزة الفناء، وبعضها الآخر لمموليها حول العالم، وأخرى لمن يرخي لها آذانه من العرب والمسلمين.
وما بين السرديتَين صورتان أخرجتا الشرق الأوسط من قمقم تاريخيته، صورة العبور الكبير للمقاومة برًّا وجوًّا مصحوبة في ظلال صواريخها وطائراتها الشراعية، وصورة نتنياهو يرخي حزنه على كتف بايدن معبّرًا عن الحسرة التي استطاعت المقاومة الفلسطينية تكبيده إياها، وبينهما وقف الزمان عند اللحظة التي أرادها الفلسطينيون، حتى لو يردها في العالم سواهم.
خلف الصورة الأولى برزت صورة فلسطين العربية، والإسلامية التي أعادت رسم الشرق وأهله في عيون المجتمع الغربي، وأسقطت “الهسبراة” الإسرائيلية عن عرشها، فللمرة الأولى تصدح “فلسطين من النهر إلى البحر” بهذا الزخم الجماهيري في جميع أنحاء العالم.
وللمرة الأولى يستعيد العالم لحظة زرع “إسرائيل” في أرض فلسطين وغرس نصالها بأيادٍ بريطانية، ودعم فرنسي، واحتضان أمريكي لا محدود، ونتيجة لذلك سقطت كل عناصرها من ترابط تاريخي وثقافي وعرقي مع العالم الغربي بتزايد رفض الشباب الغربي لها، ثم انقلب حقها التاريخي اليهودي في أرض فلسطين عليها بموازاة التاريخ الفلسطيني ما قبل النكبة والاستعمار، أما صورة الدولة المتطورة الديمقراطية ذات الرفاه المعيشي والاقتصادي وسط المستنقع العربي، فقد ساهم نتنياهو مسبقًا في ضربها من خلال تغييراته في النظم التنفيذية والقضائية، والتي أسفرت عن احتجاجات عميقة وارتفاع في نسبة الهجرة من الكيان.
وحده عنصر القوة العسكرية والتكنولوجية هو الذي بقيَ أقوى من أن يتمَّ إسقاطه، بل يتأكد باعتباره إحدى آليات الإبادة، بدءًا من استخدام الذكاء الاصطناعي وأدواته وطائراته في تهجير الفلسطينيين وتعذيبهم واستهدافهم بالقتل والتدمير، وانتهاءً بواقعة البيجرز التي أثبتت للعالم كيف يمكن لدولة أن تمارس الإبادة بقفازات حريرية.
لكن هذا لم يمنع الاحتلال من أن يعظّم من هذا العنصر ويزيد أواره، يتعزز ذلك بتصريح رئيس الوزراء نتنياهو: “في الشرق الأوسط يتم تقدير الأقوياء وليس الضعفاء، من يمسّ إسرائيل دمه مهدور، الآن أصبح بإمكان الجميع التأكد من أن يد إسرائيل تطال أي مكان في الشرق الأوسط”.
بهذا التصريح تكون السردية الإسرائيلية إعلاميًا وسياسيًا ودبلوماسيًا قد وصلت إلى أوجها، لا سيما مع تجاهل الاحتلال لصخب العالم ومحاولته دفعها لإيقاف الحرب في غزة أو الاتفاق على وقف نار في غزة، أو خفض حدة الصراع، أو التوقف عن كم الأكاذيب المكشوفة لتبرير استهداف المدنيين.
سقطت سردية الاحتلال، لكن بالنسبة إليه كل سردية بالإمكان ترميمها حين يراد، أما قوة الردع والتفوق العسكري والتوسع الاستيطاني فهي أساسات لا يمكن تجاهلها لصالح “صورة إسرائيل حول العالم”، فالصورة التي يُراد لها أن تكون انعكاسًا لـ”إسرائيل” اليوم، لم تعد الدولة الديمقراطية الاقتصادية ذات الشفافية، إنما صورة سلاح الجو الذي بإمكانه أن يحرق صنعاء، والتفوق الاستخباراتي الذي بإمكانه قطف رؤوس منظمة بأكملها، والغطرسة السياسية القادرة على اتخاذ قرار بالقتل من أروقة الأمم المتحدة.
هذه هي صورة “إسرائيل” اليوم، وما لم تقف الحرب أو يحال بها إلى منعطفات أخرى أكثر اتساعًا أو أقل جمودًا، فإن المنظومة الإعلامية والسياسية قد اتخذت قرارها وخيارها، المهم أن تبقى جسور الأسلحة متواصلة من واشنطن، وأن يكون هناك دائمًا جمهور بإمكانه أن يصفق لنتنياهو، وجماهير أخرى من وراء شاشات عربية تبتهج لإنجازاته.
ما وراء الطوفان
عام كامل مرَّ على “طوفان الأقصى”، تكثفت فيه الدماء والأوجاع والمآسي، إذ اختصر الزمن فيه على الفلسطينيين النكبة والنكسة وما تلاهما من حروب، حرص فيه الاحتلال على كسر العزيمة التي أخرجت الطوفان من عقاله، بالتدمير والحرق والتهجير والتعذيب والاغتصاب والاعتقال، ومرّت خلاله صور عديدة لما رأى العالم في حروبه الكونية وما لم يرَ، فخرجت الألوف، وارتفعت القلوب نحو الحناجر، يترقبون هدنة هنا أو حربًا أوسع هناك، ومع تعاظم الخسارة لم ينسَ الفلسطينيون حلمهم بالحرية، وحقهم في تقرير مصيرهم، والإصرار على المزيد في درب حريتهم.
عام مضى، كانت فيه تسمّى فلسطين وصارت تسمّى فلسطين، أما الاحتلال فكان “إسرائيل” وأصبح تهجيرًا وتوحشًا وإبادة واغتيالات وانتقامًا أسود، وعلى أعتاب الجديد يدرك الفلسطينيون أن الحرب التي لا تنتهي بحريتهم لن تنتهي إلا بطوفان آخر نهايته الحرية الموعودة.
كما يدرك العالم أن المقاطعة والانتفاضة والثورة في أروقة الجامعات أو صناديق الانتخاب، ليست سوى شذرة عابرة يقدمها عالم غافل للفلسطينيين الذين يخوضون حروبًا مكتظة حولهم، تسعى كل واحدة منها إلى تحويل الطبيعي إلى منّة من مأكل أو مشرب أو حتى مأمن.
ختامًا، لم يكن الطوفان سوى طرقة صاخبة على باب الحرية، أو قرعة مدوية على جدران الخزان، يسمعها من يشاء، يهملها من يريد، أما أهلها فشديدو الإلحاح مغرقو الظمأ توقًا لما بعد الباب وما خلف الجدار، وما الحرب والانتقام إلا غرغرة ميت كلما علت أدرك أهل المكان أن الغريب مفارق إلى حيث لا عودة له.