بعد فشل الأطراف الفاعلة بشكلٍ مباشرٍ في الأزمة السورية، روسيا وإيران من جهة وتركيا من جهةٍ أخرى، في تحقيق حلول مُطلقة تصب في صالح أحد الأطراف على حساب الطرف الآخر، اتجهوا صوب النظر في عملية تسوية “توافقية” تراعي مصالحهما المشتركة، ومصالح كل طرفٍ على حد قدر الإمكان. ومن هذه الرؤية ظهر للسطح ما عُرف بمسار الآستانة الذي أسس أول مرحلة حقيقية في عملية تسوية الأزمة السورية، بخلاف مسار جنيف الذي لم يؤدِ إلى أي نتيجة ملموسة، بل بات ضمن مسار الآستانة.
وفي ظل مشارفة مسار الآستانة على الانتهاء، بعد تحقيق هدفه الأساسي في تحديد مناطق النفوذ الدول الفاعلة بشكلٍ مباشر، يُصبح التساؤل المطروح: “ما هي مراحل مسار عملية تسوية الأزمة السورية؟”
المرحلة الأولى؛ مسار الآستانة
بعد “اتفاق حلب” الذي جاء بين تركيا وروسيا، مستثنياً إيران والولايات المتحدة اللتين كانتا تُبديان طموحاً في إطالة أمد الصراع، لكسب المزيد من الوقت الذي يحقق لها تقدم ميداني يُعزز أرواقها التفاوضية، استنبطت تركيا وروسيا إمكان السير في مسار الحل التوافقي من أجل الحفاظ على مصالحهما في سوريا قدر الإمكان، لا سيما بعد سأمهما من إطالة التحالف الدولي لأمد النزاع بلا فائدة تعود عليهما، بل يعود عليهما بتكاليف باهظة، وبعد تخوفهما المشترك من اتجاه التحالف الدولي نحو ترسيخ أسسه في المنطقة الشرقية الشمالية على نحوٍ لا يخاطب طموحهما.
ومن “اتفاق حلب” انتقل الطرفان إلى “إعلان موسكو” الذي كان لا بد من إشراك إيران فيه، كقوة تشترك معهما في نقطة ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وقوة لها نفوذها الميداني الملموس الذي لا يمكن تجاوزه.
وبعد إصدار الدول الثلاث “إعلان موسكو” نهاية كانون الأول/ديسمبر 2017، أعلنت المعارضة السورية، عبر ما عُرف باسم “إعلان أنقرة”، موافقتها على الانضمام لعملية التسوية بضمان الدول الثلاث المذكورة، وفي 23 كانون الثاني/يناير 2017، انطلقت أولى جلسات محادثات آستانة التي عُقدت على 10 جولات إلى الآن.
حققت محادثات آستانة، حسب ما يبدو من توصلها لاتفاقات بخصوص مناطق خفض التصعيد التي كان أخرها محافظة إدلب، مأربها التي انطلقت من أجلها
على الأرجح، حاولت روسيا، تحديداً، من خلال مسار آستانة تحقيق اتفاقات إقليمية خالية من التعقيدات الدولية، من خلال التعاون مع العناصر الإقليمية الأكثر فاعلية في المسألة السورية، في سبيل تحديد مناطق نفوذها، وبالتالي تأسيس ميزان قوى يُدّعم من وجهة نظرها، كقوة إقليمية قوية متوافقة على عدة نقاط، في مسار الحل الدولي العام.
لقد حققت محادثات آستانة، حسب ما يبدو من توصلها لاتفاقات بخصوص مناطق خفض التصعيد التي كان أخرها محافظة إدلب، مأربها التي انطلقت من أجلها. فمناطق نفوذ إيران باتت مُحددة بعد سيطرتها على البوكمال، وبعد تحقيق اتفاق روسي ـ “إسرائيلي” يمنع الميليشيات الإيرانية من تجاوز مسافة 85 كيلو متر في المناطق المحاذية “لإسرائيل. كذلك مناطق نفوذ تركيا باتت مُحددة في إطار مُخرجات آستانة 6 التي قضت بانتشار تركي ـ روسي تشاركي ما بين سكة حلب والخط الدولي، وانتشار تركي شمال الخط الدولي في محافظة إدلب.
ولقد حققت محادثات آستانة قناعة لدى الأطراف المتشاركة أن التفاوض الدبلوماسي التوافقي يحقق لها مكاسب نسبية، لا يمكن الحصول عليها في حال استمرار النزاع، ولعل استكمالهم للمحادثات، بالرغم من فشل بعضها؛ كفشل محادثات آستانة 3 و5 و7، خير دليل على قناعتهم بنجاعة المحادثات على حساب الصراع باهظ الثمن وعديم الفائدة.
المرحلة الثانية؛ مسار إسطنبول
بتحديد مناطق نفوذ إيران، وغموض مناطق نفوذ تركيا والمعارضة، باتت عملية إعداد الدستور، وإعادة اللاجئين، وإعادة الإعمار، مواضيع الأجندة السورية. وفي ظل حاجة تركيا لدعم غربي في رؤيتها تجاه سوريا، تم شق مسار إسطنبول الذي جاء على صيغة قمة رباعية جمعت تركيا وألمانيا وفرنسا وروسيا.
على هامش زيارته لبرلين، في 28 أيلول/سبتمبر المنصرم، اتفق الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مع المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركيل، على ضرورة عقد قمة رباعية جديدة في إسطنبول خلال الشهر الجاري
عُقدت القمة الرباعية الأولى في 7 أيلول/سبتمبر المنصرم، وأفضت إلى تأكيد على ضرورة دعم تركيا في التوصل إلى حل سلمي مع فصائل المعارضة المعتدلة والمتشددة في إدلب. وقد ظهر التأثير النسبي للقمة في منح روسيا، على هامش قمة سوتشي بين بوتين وأردوغان، لتركيا فرصة شهر، لإتمام عملية تعويم الفصائل المُسلحة في إدلب.
وعلى هامش زيارته لبرلين، في 28 أيلول/سبتمبر المنصرم، اتفق الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مع المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركيل، على ضرورة عقد قمة رباعية جديدة في إسطنبول خلال الشهر الجاري، لتأتي في إطار الإشارة على شق هذا المسار حتى تحقيق بعض النقاط المُشترك بين تركيا والاتحاد الأوروبي من جهة، وروسيا والاتحاد الأوروبي على حساب الولايات المتحدة من جهة أخرى.
وعن دوافع شق هذا المسار من قبل الدول الأربع، يُمكن ذكر التالي:
ـ مساندة حامي الحدود الشرقية في أزمته مع الولايات المتحدة. كما هو معلوم، تُمثل تركيا بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي الجبهة الأمامية ضد المخاطر القادمة من الشرق، لا سيما خطر الإرهاب، مع خطر الهجرة واللجوء الذي جعل الاتحاد الأوروبي على شفا التفكك، بعد رفض عدد من دوله الحصة التي فرضها الاتحاد عليها. وانطلاقاً من كون برلين الدولة الأكثر نفوذاً، والأكثر قوةً في الاتحاد الأوروبي، بحيث تظهر على أنها رأسه الأكثر تحملاً للمسؤولية أيضاً، يبدو أنها رأت ضرورةً في التحرك نحو مساندة تركيا اقتصادياً، عبر الاستثمارات والدعم الإعلامي، في أزمتها مع الولايات المتحدة، بعد انهيار الليرة التركية لمستويات مُخيفة، فضلاً عن دعمها أمام روسيا في ملف إدلب، بعد عدم إبداء الولايات المتحدة الدعم المطلوب نتيجة الأزمة، بالإضافة إلى حاجة تركيا لداعم دولي، في ظل تخوفها من توجه روسيا لتحقيق اتفاقات مع الولايات المُتحدة على حساب مصالحها.
وفي سياق متصل، تجدر الإشارة إلى أن الموقفين الروسي والإيراني من العقوبات الأمريكية المفروضة على تركيا، لم تكن على النحو المرجو، إذ لم يصدر أي بيان روسي أو إيراني على مستوى رفيع، إذ اكتفت إيران بتغريدة لوزير خارجيتها يتهم الولايات المتحدة بممارسة الابتزاز، واكتفت روسيا، بتصريح لرئيس العلاقات الدولية في مجلس الدوما يتهم الولايات المتحدة بممارسة عقوبات ضد الدول الراغبة في الاستقلال. بمعنى أن تركيا أدركت في أزمتها الأخيرة، أن أعضاء القطب الغربي هم الأكثر قدرة على المناورة على الساحة الدولية، مقارنة بالأقطاب الأخرى التي يبدو أنها تُجري فقط مناورات “ردة فعل” في الإطار المُتاح لها من قبل الغرب.
إدراك تركيا لأهمية موقعها الجيواستراتيجي بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي. لذا مالت نحو مطالبتها بتقديم الدعم لها في إدلب،وبالفعل هذا ما حدث
ـ رغبة الاتحاد الأوروبي في إقامة دور فعال لتأسيس السلام الاقتصادي. ورغبته في عدم توجه الولايات المتحدة نحو بناء استراتيجيتها ضد النفوذ الإيراني، بما يخلق حالة من الصراع الدائم في سوريا.
ـ مجابهة النفوذ الروسي عبر حليف “الناتو”. في ضوء تخوف تركيا من استدارة روسية، وفي ظل تنامي النفوذ الروسي في سوريا، وحوض شرق البحر المتوسط، على حساب الخفوت النسبي للنفوذ الأمريكي، في ظل إدارة ترامب، تُصبح دول الاتحاد الأوروبي بحاجة ماسة لتركيا؛ الدولة الضامنة لعملية التسوية السورية وذات النفوذ الجغرافي والعسكري في حوض شرق البحر المتوسط. بهذه المعادلة تُمثل تركيا عنصر مهم جداً لتأسيس ميزان قوى يواجه النفوذ الروسي القائم على مشروع “الأوراسيانية” الذي يعني اتساع نفوذ روسيا الأمني والاقتصادي والدبلوماسي في جغرافيا ومياه قارتي أوروبا وآسيا، لفك العالم من الهيمنة الغربية. وتحاول روسيا اليوم، عبر بناء قواعد عسكرية والحصول على حق التنقيب عن حقول النفط والغاز الطبيعي وإبرام اتفاقيات السلاح، إحراز مبتغاها. ولإبعاد تركيا عن تحقيق المزيد من التقارب لروسيا، وللإبقاء على تركيا قوية الأوراق نسبياً أمام روسيا في سوريا وحوض شرق البحر المتوسط، يبدو أن ألمانيا، ويساندها في ذلك فرنسا وبريطانيا، ارتأت ضرورة في التحرك الاستباقي نحو دعم تركيا من أجل موازنة روسيا قبل تناميه في المنطقة قدر الإمكان.
ـ إدراك تركيا لأهمية موقعها الجيواستراتيجي بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي. لذا مالت نحو مطالبتها بتقديم الدعم لها في إدلب، وبالفعل هذا ما حدث؛ حيث تم عقد قمة رباعية بحضور ممثلين رفيعي المستوى عن ألمانيا وفرنسا وتركيا وروسيا، خرجت بتأكيد ضرورة إبقاء الضمانة التركية في سوريا. كما أسفر اجتماع أردوغان بميركل الأخير عن إعلان وجود قمة رباعية مماثلة ستُعقد الشهر المقبل، على الأرجح تأتي في إطار مطالبة روسيا منح تركيا المزيد من الوقت لإنهاء وجود هيئة تحرير الشام في إدلب.
بهذه العوامل تم شق مسار إسطنبول، من أجل فتح الباب أمام عمليتي إعادة اللاجئين والإعمار على النحو الذي يوافي شروط التوجه الأوروبي والتركي، والركون لورقة إعادة الإعمار كسلاح للضغط على روسيا في تحقيق توجه فعال في عملية الانتقال السياسي، وإعداد الدستور.
المرحلة الثالثة؛ مسار الأمم المتحدة
يأتي مسار الأمم كمرحلة أخيرة من أجل “البصم” أو “التوقيع” على الاتفاق النهائي الذي يبدو أنه بحاجة لتوافق بين روسيا والولايات المتحدة بشكلٍ أساسي. فالمساران المذكوران أعلاه قد يكفلان لروسيا تسوية الأمور مع الأطراف الإقليمية والأوروبية، لكن في ظل توجه الولايات المتحدة نحو تثبيت نظام حكم يكفل نفوذها “النسبي” غير المباشر داخل سوريا، والمباشر على حدودها مع العراق، تبقى هناك حاجة لقمة تُحدد آلية عمل نظام الحكم في إطار هذا الطموح. وعلى الأرجح، شملت اللقاءات الثلاث التي جمعت بين بوتين وترامب، هذا الأمر الاستراتيجي. وبالتالي، يبدو أن انهاء روسيا من مسار إسطنبول الذي قد يُحدد آلية إعداد الدستور على وجه التحديد، سيُنقلها للنظر نحو مسار الأمم المتحدة للتوقيع.
في الختام، باتت الأطراف الفاعلة في سوريا على قناعة تامة أن الحل الوسطي هو المسار الأساسي لعملية الحل في سوريا، وبالتالي المُرشح فيما يتعلق بالمسألة السورية، مواصلة التشاور الدبلوماسي حتى التوصل لحل يُوقع في قمة تكون برعاية الأمم المتحدة