في بداية القن العشرين، أصبح الفن لغة قوية وعالمية لها تأثيرها في الأوساط العامة والساحات السياسية، فمنذ بداية التاريخ حاول الفنانون التعبير عن أفكارهم وآراء الشارع حول الإجراءات السياسية غير العادلة، سواء بأدوات مرئية أو سمعية أو حركية، بغرض التوعية والتشكيك بالقرارات الحكومية وإيقاظ العقول المغلقة والنائمة حول الانتهاكات التي تحدث يوميًا في العالم.
لتحقيق هذه الغاية، اعتمد الفنانون على عدة أنواع مختلفة من الفن، وأهمها ما يسمى بـ”الفن الاحتجاجي” الذي يعتبر أحد أهم الأدوات المستخدمة في الدفاع عن القضايا الحقوقية والإنسانية والسياسية في العالم.
الفن الاحتجاجي: أدواته وغايته
صورة من احتجاجات نساء لبنانيات على قانون الاغتصاب
يشير مصطلح “الفن الاحتجاجي” إلى جميع الأعمال التي ينتجها نشطاء الحركات الاجتماعية من ملصقات ولافتات وجداريات ورموز وأغاني وعروض، وتكون عادةً خارج المتاحف والمعارض والمسارح والأماكن التقليدية للفن، فهي لا تتبع قواعد الفن التخصصي أو المعرفي، وتهدف بالأساس إلى بناء جسر متين ومباشر مع الطبقات المهمشة والمظلومة في الشارع.
لا يشجع هذا النوع من الفنون على التظاهر أو العصيان أو الثورة، وإنما يسعى إلى تكلم الحقيقة مع السلطة بشكل رمزي، وبأسلوب جريء، ويتعمد في ذلك غالبًا الرسومات الرمزية أو الكاريكاتورية الساخرة واللاذعة بالمعنى، ولا تكون بالضرورة مؤذية.
يتحدث هذا الفن غالبًا عن المسائل التي يصعب التكلم بها لتوضيح رأي الشارع للسلطة، وتكون قيمته في تسجيل الأحداث والوقائع للأجيال القادمة
كما يتحدث هذا الفن غالبًا عن المسائل التي يصعب التكلم بها لتوضيح رأي الشارع للسلطة، وتكون قيمته في تسجيل الأحداث والوقائع للأجيال القادمة، إضافة إلى إثارة الشك في قرارات السلطة وإثارة ملفات اجتماعية مثل النسوية والمهاجرين وغيرها، بهدف إحداث تأثير على الرأي العام وبالتالي الضغط على السلطات.
على سبيل المثال، في عام 2016، ارتدت نساء لبنانيات أثواب زفاف ملطخة بالدم كطريقة للاحتجاج على قانون الاغتصاب الذي يجبر الفتاة على الزواج من مغتصبها، وبالفعل تم تعديل القرار لاحقًا. في حادثة أخرى، تم تعليق أكثر من 5 آلاف تنورة وفستان على حبال الغسيل في كوسوفو للفت الانتباه إلى وصمة العار التي يعاني منها ضحايا العنف الجنسي في حرب كوسوفو (1998-1999)، ومحاولة فنية لتذكر آلام النساء وإخبارهم أنهم ليسوا وحدهم.
يعد استخدام الدمى والأقنعة شكل من أشكال الاحتجاج والتمرد، فهي أسهل الخيارات لإخفاء الهوية وجذب الانتباه مع الألوان الزاهية للقناع أو الدمية التي تكون عادةً شخصية معروفة
يضاف إلى ذلك، استخدام الدمى والأقنعة كشكل من أشكال الاحتجاج والتمرد، فهي أسهل الخيارات لإخفاء الهوية وجذب الانتباه مع الألوان الزاهية للقناع أو الدمية التي تكون عادةً شخصية معروفة، ما يجعل هذه الأداة لغة ثقافية مشتركة بين المحتج والرأي العام وإشارة إلى وجود قواسم مشتركة في الآراء والأفكار بينهم.
مع العلم أن هذه الفكرة الشهيرة مستوحاة من رواية ألون مور لعام 1982 وتحمل عنوان “V for Vendetta” والتي تتحدث عن شخصية تخطط إلى تنظيم ثورة ضد الدولة، وهي نفس الأداة التي استخدمت لاحقًا في مسلسل مستر روبوت والذي احتج بقوة على النظام الرأسمالي في الدولة.
امرأة هندية ترتدي قناعة رأس البقرة احتجاجًا على القيم المجتمعية
في عام 2017، أطلق سوجاترو غوش، فنان ناشط، سلسلة من الصور التي تظهر نساء يرتدين قناع على شكل رأس بقرة، محاولًا أن يظهر كيف تقدر بلاده البقرة أكثر من المرأة، فوفقًا لبيانات مكتب الجريمة الوطنية، أكدت الإحصاءات ارتفاع كبير في الجرائم ضد المرأة في الهند وهذا يشمل الاغتصاب والقتل حتى للواتي لم تتجاوز أعمارهن ثماني سنوات، هذه البيانات شجعت الفنان غوش على استخدام هذا القناع الذي يحتج من خلاله على الحماية والأمان التي تتمتع بهما الأبقار أكثر من النساء، وذلك بسبب قدسية هذه الحيوانات عند الهندوس.
حيث يقول غوش: “من خلال عملي، تعلمت كيف يلعب الفن دورًا رئيسيًا في مساعدتنا في تكوين الآراء وتثقيفنا حول الحقيقة ولطالما كان هذا هو السعي وراء كل أعمالي في القضايا الاجتماعية”، ويضيف “أنا أسعى لإعطاء صوت لمن لا صوت لهم، ولخلق قوة داخل الضعفاء”.
كُتب إلى جانب الرسم، عبارة “ابن مهاجر من سوريا”
في مثال آخر، رسم بانكسي، فنان جرافيتي إنجليزي مشهور ومجهول في نفس الوقت، عمل فني على حائط مخيم كاليه للاجئين، بهدف تسليط الضوء على الأوضاع غير الإنسانية التي يعيشها آلاف المهاجرين من الناس، حيث يصور بانكسي مؤسس شركة آبل الرحل ستيف جوبز مع حقيبة سوداء اللون وجهاز كمبيوتر أبل، مشيرًا بذلك إلى هوية وأصول جوبز السورية.
هذه الأعمال الفنية شكلت رصيدًا غنيًا للتاريخ، فقد نجحت في تسجيل وتوثيق أحداث وأزمات رئيسية في العالم
ففي تعليق مرافق للعمل، قال بانكسي: “غالباً ما نعتقد أن الهجرة هي استنزاف لموارد البلاد ولكن ستيف جوبز كان ابن مهاجر سوري. إن شركة أبل هي الشركة الأكثر ربحية في العالم، حيث تدفع أكثر من 7 مليارات دولار سنوياً (أي 4.6 مليار جنيه استرليني) من الضرائب – وهي موجودة فقط لأنها سمحت بدخول شاب من حمص”.
ختامًا، لا شك أن هذه الأعمال الفنية شكلت رصيدًا غنيًا للتاريخ، فقد نجحت في تسجيل وتوثيق أحداث وأزمات رئيسية في العالم، بدايةً من المواقف الاحتجاجية على القرارات السياسية والاقتصادية ونهايةً بالمواضيع الاجتماعية والإنسانية، كما أنها أضافت طابع جديد من المصارحة العلنية وحرية التعبير.