قبل يناير 2011، لم يكن يُسمع في تونس عن مصطلح “السياحة الحزبية”، فحينها لم يكن غير حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل محتكرا للفضاء العام، وما أحزاب المعارضة الموجودة في العلن إلا أحزابا كرتونية تأتمر بأمره، ولا نشاط لها سوى تأثيث الركح واضفاء أجواء “الديمقراطية المزيفة” على البلاد، حسب قول التونسيين.
جاءت الثورة، وجيئت معها عديد السلوكيات الجديدة منها “السياحة الحزبية”، أي أن يتجول النائب بين الكتل النيابية غير عابئ بإرادة الناخب الذي لم يصوت لشخصه بل لقائمة حزبية تخص حزبا بعينه، سلوك جديد بدأه حزب نداء تونس، غير أنه الأن يكتوي بناره.
حزب السبسي يسنّ الظاهرة الجديدة
23 أكتوبر 2011، شهدت تونس انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، لم يكن يومها لحركة نداء تونس وجودا، ثمانية أشهر على هذه الانتخابات، حتى تشكّل الحزب كردّ فعل على نتائج انتخابات المجلس التأسيسي، وكان هدفه “التصدي لتغول حركة النهضة وخلق توازن سياسي في البلاد”.
حينها لم يكن أي نائب في البرلمان ينتمي إلى الحزب الناشئ، غير أن النداء سرعان ما أقنع عددا مهم من النواب للانسلاخ عن كتلهم البرلمانية الأصلية والانضمام إليه، فتمكّن من تشكيل كتلة نيابية بالمجلس التأسيسي تضم أحد عشر عضوا من أحزاب مختلفة التوجّه.
بعد انتخابات 2014 أغلب التنقلات الحزبية والبرلمانية حصلت في كتلة حركة نداء تونس
تمكّن الحزب بسرعة من تشكيل كتلة برلمانية له في المجلس التأسيسي، عبر شراء عديد النواب ممن يقدمون أنفسهم كحداثيين ومناهضين لمشروع حزب النهضة الإسلامية، وبفضل هذه الكتلة البرلمانية التي تشكّلت بسرعة، أصبح للنداء كلمته التي يحسب لها ألف حساب في المجلس.
ترك هؤلاء النواب، أحزابهم الأصلية التي نشأوا في محاضنها وتبنّوا برامجها، ورفعوا شعاراتها وترشّحوا باسمها، وانتقلوا إلى نداء تونس استجابة لإغراء المال وطلبا للشهرة عبر الانخراط في لوبيّاتٍ نافذة في البلاد في جميع المجالات.
النداء يكتوي بالنار التي أشعلها
أكتوبر 2014، فازت حركة نداء تونس التي تضم في صفوفها خليطًا من اليساريين والنقابيين وقدماء التجمعيين (بعض القيادات وقاعدة واسعة) وعددًا مهمًّا من رجال الأعمال والشخصيات والرموز الفكرية والنقابية المستقلة بالانتخابات وتصدّر الكتل البرلمانية في مجلس نواب الشعب.
يومها كان عدد كتلة نداء تونس 86 نداء، غير أنها اليوم مع افتتاح البرلمان التونسي دورته الخامسة والأخيرة، لا تضمّ سوى 43 نائبا ويرشّح أن ينقص هذا العدد أكثر، مع وجود بوادر لاستقالة عدد أخر من نواب نداء تونس وانتقاله إلى كتلة الإتلاف الوطني.
أربع سنوات، كانت كفيلة أن تفقد الحزب المكانة الأولى التي منحها له الناخبين أكتوبر 2014، فقد خسر معظم مقاعده لصالح كتل أخرى، فأغلب التنقلات الحزبية والبرلمانية حصلت في كتلة حركة نداء تونس التي انقسمت بخروج محسن مرزوق ومن معه وتأسيسهم لحزب المشروع.
تراجع كتلة نداء تونس إلى المرتبة الرابعة في البرلمان
كما انبثقت أحزاب أخرى عن نداء تونس زعزعت كيان حزب رئيس الجمهورية وملأته تصدعات، الأمر الذي انعكس سلبا على تماسك الحزب وكتلته النيابية وجعل حركة النهضة تصبح صاحبة أكبر كتلة في البرلمان.
حتى حزب مشروع تونس الذي أسسه الأمين العام السابق لحزب نداء تونس محسن مرزوق، والمكون أصلاً من نواب منشقين عن حزب “النداء”، عرفت كتلته مؤخرا انسحابات وانشقاقات، احتجاجًا على السعي لاختيار مسار غير ديمقراطي للحزب، ما وضع الحزب الفتي على هاوية الانهيار مثلما حصل للحزب الأم “نداء تونس”.
بالتوازي مع تراجع كتلة النداء، تشكلت كتلة نيابية جديدة قوامها نواب مستقلون وآخرون مستقيلون، وهي كتلة الائتلاف الوطني التي تدعم الاستقرار الحكومي وتدعم مواصلة تقلد يوسف الشاهد منصب رئاسة الحكومة، وتستحوذ في الوقت الراهن على 47 مقعدا في المرتبة الثانية.
ويعود سبب الترحال السياسي الذي عرفه نداء تونس إلى أزمة الديمقراطية الداخلية التي يعيشها، فقد تأخر انعقاد مؤتمر نداء تونس كما يفتقد الحزب لأي مؤسسة داخلية منتخبة، فضلا عن هيمنة شخصية نجل الرئيس حافظ قائد السبسي الذي يسعى إلى الاستئثار بالحزب.
لم يكن نداء تونس الحزب الوحيد الذي طالته هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة، فقد مسّت معظم الأحزاب الجديدة
سبب أخر لا يقلّ أهمية عن الأول، وهو وجود رغبة كبيرة لدى النواب المستقلين في التموقع مجددا في الخارطة السياسية في تونس بعد أن تأكّدوا أن نجم نداء تونس قد هوى وأن هذه المرحلة هي مرحلة يوسف الشاهد، لذلك سارعوا إلى الاستقالة من النداء والالتحاق برئيس الحكومة، في انتظار تأسيس حزبه المفترض، ليكون بوابتهم للعودة إلى البرلمان أو الحصول على مواقع متقدمة في الحكومة ومؤسسات الدولة في الفترة القادمة.
ويسعى هؤلاء إلى الاندماج في مشروع الشاهد، وهو ما يفسّر غياب الانتماء الحزبي لهم وانعدام التكوين السياسي، فمن المفترض أن يكون هناك رابط أخلاقي بين النائب والحزب الذي أوصله للبرلمان فالتونسيين ينتخبون الحزب لا الشخص.
النداء يدعو لسنّ قانون يمنع
بعد أن اكتوى بنارها، يعمل نداء تونس على سنّ قانون يمنع السياحة الحزبية، ومؤخرا دعا القيادي بنداء تونس فوزي اللومي، إلى سن قانون يمنع السياحة الحزبية ويفرض على كل النائب الاستقالة من المجلس إذا لم يعد موافق على خيارات حزبه.
واعتبر اللومي أن مجلس النواب الحالي أصبح جزء أساسي من الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد مشيرا إلى أن الأزمة السياسية ستتواصل بعد انتخابات 2019 إذا لم تمنع السياحة الحزبية ويتغير القانون الانتخابي.
سبقه في ذلك رئيس الجمهورية ومؤسس النداء الباجي قائد السبسي، فبعد أن كان “عراب” هذه الظاهرة، أوضح السبسي أنه مع سنّ قانون يمنع انتقال النواب من حزب إلى حزب، خاصة وأنه فقد حزبه الذي أنشاءه صيف 2012.
ضرب الاستقرار السياسي للبلاد
بغضّ النظر عن المستفيد والخاسر منها، يرى معظم الخبراء والمحللين أن السياحة الحزبية التي سنّها نداء تونس سنة 2012، أثّرت كثيرا على الاستقرار في المشهد السياسي، ذلك أنها من أبرز أسباب عدم وصول المسار السياسي إلى بر الأمان هو عدم استقرار الكتل النيابية، الأمر الذي انعكس سلبا على المشهد العام.
ويقول بعض الخبراء إن معظم الكتل النيابية عرفت استقالات وتغييرات في الولاءات جعلت الخريطة البرلمانية تتغير في مناسبات عدة، باستثناء حركة النهضة الإسلامية التي تعرف كتلتها تماسك ولم تشهد أي انقسام منذ انتخاب أعضائها لعراقة اشتغالها بالشأن السياسي.
لم يفلح السبسي في ضمان استقرار حزبه
لم يكن نداء تونس الحزب الوحيد الذي طالته هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة، فقد مسّت معظم الأحزاب الجديدة التي تنتمي إلى ما يُعرف بالتيّار الديمقراطي الاجتماعي، ومنها حزب العريضة الشعبية، والمؤتمر من أجل الجمهوريّة، والتكتّل من أجل العمل والحرّيات، وآفاق تونس، والاتحاد الوطني الحرّ…
وتؤدّي الاستقالات المتكررة والمستمرة في كلّ مرّة، إلى إعادة تشكيل الكتل داخل البرلمان بشكل جعل الخريطة الحزبية غير مستقرّة، وهو ما يهدّد نظام الحكم واستقرار الدولة، فالكتل النيابية في البرلمان التونسي تشهد كل مرة عملية إعادة تنظيم، وهو ما يؤثر على عمل البرلمان والمصادقة على القوانين والاتفاق حولها، مثلما حصل في عديد المرات.
إلى جانب ذلك، من شأن هذه الظاهرة أن تقوّض منسوب الثقة بين الناخبين والسياسيين، وتساهم في مزيد ابتعاد التونسيين خاصة الشباب منهم عن العمل السياسي وترسيخ ثقافة المقاطعة لديهم، فهم ينتخبون شخصا على أساس الحزب الذي ينتمي إليه والبرنامج الذي يقدمه ثم يجدوه في حزب أخر يدافع عن برنامج مخالف، فما الفائدة من الانتخابات حينها؟