ترجمة وتحرير: نون بوست
نظرا لكونه رجل قضى ثلاثة عقود من العمل بشكل وثيق مع أجهزة الاستخبارات في العالم العربي والغرب، كان المعارض السعودي والكاتب الصحفي لدى صحيفة “واشنطن بوست”، جمال خاشقجي يعلم جيدا أنه سيواجه مخاطرة كبيرة بدخول مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول الأسبوع الماضي في محاولة منه للحصول على وثيقة تثبت طلاقه من زوجته السابقة.
كان خاشقجي، أحد المطلعين على خبايا نظام الحكم في وقت سابق، الذي وجه انتقادات إلى ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، وهو الحاكم الفعلي للمملكة السعودية التي لا تتسامح مع أي انتقاد على الإطلاق، يعيش في واشنطن منذ السنة الماضي في المنفى الذي اختاره لنفسه، وسط حملة قمع موسعة للأصوات المستقلة في وطنه. وقد تحول خاشقجي إلى شخصية محبوبة لدى المذيعين الذين يهتمون بقضايا الشرق الأوسط. ومع أكثر من مليوني متابع على تويتر، كان من أشهر النقاد السياسيين في العالم العربي وضيفاً منتظماً على شبكات الأخبار التلفزيونية الرئيسية في بريطانيا والولايات المتحدة. ولذلك لسائل أن يسأل؛ هل يجرؤ السعوديون على إلحاق الأذى به؟ في الواقع، اتضح أن الإجابة على هذا السؤال كانت “من دون شك، نعم”.
في أعقاب زيارات خاطفة للقنصلية والسفارة السعودية في واشنطن في وقت سابق، تم الإطاحة بخاشقجي ضمن خطة قاتلة وبربرية جدا، لدرجة أنها تعيد للذاكرة قصة الغرفة الفرعية في إحدى روايات جون لوكاريه. في الحقيقة، دخل خاشقجي للقنصلية السعودية ولكنه فشل في الخروج منها. وقد زعم المسؤولون في الشرطة والمخابرات التركية أن فريقا مؤلفا من 15 شخصا يحملون جوازات سفر دبلوماسية سعودية، وصلوا صباح اليوم نفسه في طائرتين خاصتين. ووصلت قافلتهم من سيارات الليموزين إلى مبنى القنصلية قبل وقت قصير من وصول خاشقجي.
وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، كان من بين فريق الاغتيال أكبر خبير في الطب الشرعي بالمملكة، الذي أحضر منشارًا عظميًا لتقطيع جثة خاشقجي
فما هي مهمتهم السرية التي قدموا من أجلها؟ الإجابة: تعذيب جمال ومن ثم تصفيته وتصوير حيثيات العملية الشنيعة لترسل للشخص الفاقد للرحمة والإنسانية الذي أمر بقتله. وقد أكد المسؤولون الأتراك أن جثة خاشقجي شوهت وتم وضعها في صناديق قبل نقلها في سيارة سوداء ذات نوافذ معتمة، ومن ثم فر القتلة من البلاد. في الأثناء، جاء رد السعودية ونفيها وإنكارها الضلوع في العملية سريعا، حيث صرح السفير الأمريكي في واشنطن أن التقارير التي تفيد بأن السلطات السعودية قتلت خاشقجي “خاطئة تماما”. لكن في ظل هذه الظروف، ومع وجود خطيبته في انتظاره، وانعدام أي كاميرات أمنية تثبت أنه قد غادر السفارة، بات العالم يتساءل عما إذا كان بن سلمان قد أشرف بنفسه على عملية قتل خاشقجي.
عندما قال مسؤول سعودي آخر “دون ظهور جثة، لا توجد جريمة”، لم يكن من الواضح ما إذا كان يقصد بذلك السخرية من الوضع القائم. ويبقى السؤال القائم: هل يستخدم هذا الأمير الذي يدعو للإصلاح، والذي يتبنى أهدافا يقف لها الغرب بإجلال، فعلا أساليب وحشية للتخلص من أعدائه؟ عموما، تعتبر المعلومات الواردة إلى حد الآن غير مشجعة فيما يتعلق ببراءة الأمير السعودي. والجدير بالذكر أن صحيفة تركية مقربة من الحكومة نشرت هذا الأسبوع الصور الفوتوغرافية وأسماء القتلة السعوديين المزعومين، محيلة إلى أنها حددت هوية ثلاثة منهم على اعتبارهم أعضاء في فريق الحماية الشخصية التابع لبن سلمان.
تواترت التقارير في وسائل الإعلام الأمريكية التي تفيد بأن كل لقطات كاميرات المراقبة تمت إزالتها من مبنى القنصلية، وأن جميع الموظفين الأتراك هناك وقع فجأة منحهم إجازة. ووفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، كان من بين فريق الاغتيال أكبر خبير في الطب الشرعي بالمملكة، الذي أحضر منشارًا عظميًا لتقطيع جثة خاشقجي. ولم يتم التحقق من هذه المعلومات بشكل مستقل، ولكن هناك رواية مظلمة جدا ما فتأت تظهر على السطح.
في كثير من النواحي، كان نظام بن سلمان ثوريًا. فقد سمح للسيدات بقيادة السيارة، ووقف إلى جانب إسرائيل ضد إيران، وقام بتقليص دور الشرطة الدينية. عندما كان بوريس جونسون وزيرا للخارجية الأمريكية، قال إن تولي بن سلمان لزمام الأمور في المملكة يعد أفضل أمر يحدث في المنطقة منذ عقد من الزمن على الأقل، وأن أسلوب حكم هذا الأمير، البالغ من العمر 33 سنة، مختلف تماما. مع ذلك، لم يتوقف بن سلمان عن استخدام سياسة استعمال القوة وإراقة الدماء، حيث لا تزال المملكة العربية السعودية تنفذ العديد من أحكام قطع الرؤوس أمام العامة وغيرها من العقوبات الجسدية الصارمة. كما لا تزال الرياض تقاتل في اليمن، في خضم حرب أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 10 ألاف مدني.
لم يكن لدى خاشقجي الكثير من الوقت للدفاع عن الديمقراطية التعددية على النمط الغربي
من جانب آخر، ورد أن الأمراء ورجال الأعمال الذين تم اعتقالهم واحتجازهم ضمن الحملة ضد الفساد قد تعرضوا للتعذيب، كما تم تقتيل المتظاهرين الشيعة في الشوارع وأصبحت قصورهم مجرد أنقاض. فضلا عن ذلك، حكم على الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بآلاف الجلدات، وتم اعتقال عائلات الناشطين في الخارج بشكل تعسفي. وفي محاولة لتبرير ذلك، قال بن سلمان هذا الأسبوع إنه “يحاول التخلص من التطرف والإرهاب والحيلولة دون نشوب حرب أهلية، ودون إيقاف النمو الذي تحرزه البلاد، مع ضمان التقدم المستمر في جميع القطاعات”. وأضاف بن سلمان، أنه “إذا كان هناك مقابل زهيد سندفعه مقابل تحقيق التقدم، فذلك أفضل من دفع دين كبير للقيام بهذه الخطوة”.
لقد أثار مصير خاشقجي غضباً عالمياً على أقل مستوى، لكنه كان للأسباب الخاطئة. لقد قيل لنا إنه صوت ليبرالي سعودي معارض يناضل من أجل الحرية والديمقراطية، وشهيد دفع ثمن قوله الحقيقة للسلطة. هذا ليس خاطئًا فحسب، بل يصرف نظرنا عن فهم ما تخبرنا به الحادثة بشأن ديناميكيات السلطة الداخلية لمملكة تمر بفترة غير مسبوقة من الاضطرابات. تبين هذه القصة أيضاً كيف تورط رجل مع عائلة سعودية حاكمة تعمل مثل المافيا. وبمجرد الانضمام إليهم، يعني ذلك ضرورة أن تبقى وفيا لهم مدى الحياة، وإذا حاولت المغادرة، فسيتوجب عليهم تصفيتك.
في الحقيقة، لم يكن لدى خاشقجي الكثير من الوقت للدفاع عن الديمقراطية التعددية على النمط الغربي. في السبعينيات انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، التي وجدت لتخليص العالم الإسلامي من النفوذ الغربي. لقد كان إسلاميًا سياسيًا حتى النهاية، حيث امتدح مؤخرًا جماعة الإخوان المسلمين في صحيفة “واشنطن بوست”. كما دافع عن المعارضة الإسلامية “المعتدلة” في سوريا.
قام خاشقجي مراراً وتكراراً بالمراوحة بين معتقداته الإسلامية والإشارة بشكل مستمر إلى الحرية والديمقراطية، لكنه لم يخف أبداً أنه يؤيد وجود الإخوان المسلمين في جميع أنحاء الشرق الأوسط. كان نداءه المتكرر لبن سلمان في أعمدة الصحف التي يكتب لصالحه، يتمثل في ضرورة اعتناق الديمقراطية لا على النمط الغربي، بل من خلال تبني الإسلام السياسي الذي صعد منذ نشوب الربيع العربي دون قصد. وبالتالي، بالنسبة لخاشقجي كانت العلمانية هي العدو.
كان جمال صحفياً في الثمانينيات والتسعينيات، لكنه أصبح بعد ذلك يضطلع بدور أكثر حيوية من بقائه مجرد متفرج. قبل العمل مع مجموعة من الأمراء السعوديين، كان خاشقجي يشغل منصب رئيس تحرير بعض الصحف السعودية. وتتمثل المهمة الحصرية لرئيس تحرير صحيفة مكلف من قبل الحكومة السعودية في ضمان عدم جعل ما ينشر فيها يمت بصلة إلى الصحافة النزيهة. وتمكن خاشقجي من جمع قدر من الأموال في البنك، مما جعل الحياة الكريمة دائما من أبرز أولوياته. في الواقع، إن صوت الأفعال، على أي حال، أعلى بكثير من الكلمات.
كان خاشقجي وزملاؤه، الذين فضلوا نفي أنفسهم خارج بلدانهم، يؤمنون بإمكانية فرض الحكم الإسلامي من خلال الانخراط في العملية الديمقراطية
كان ياسين أقطاي، النائب السابق لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، الرجل الذي طلب خاشقجي من خطيبته الاتصال به إذا لم يخرج من القنصلية. ويعد حزب العدالة والتنمية الفرع التركي لجماعة الإخوان المسلمين. ويعد صديق جمال الأكثر ثقة مستشاراً للرئيس أردوغان، الذي أصبح يعرف بسرعة بأنه أكثر مضطهدي الصحفيين شراسة على وجه الأرض. لم ينتقد خاشقجي أبدًا أردوغان، لذا يجب ألا ننظر إلى هذه القضية على أنها عملية اغتيال لليبرالي مصلح.
كان خاشقجي يتمتع بهذه المكانة غير المستحقة في الغرب بسبب الدعاية التي أحاطت بإقالته كمحرر لصحيفة الوطن السعودية اليومية سنة 2003. في الحقيقة، تم فصله من العمل بسبب سماحه لكاتبة عمود بانتقاد مفكر إسلامي يعتبر الأب المؤسس للوهابية. ونتيجة لذلك، وبين عشية وضحاها، أصبح خاشقجي يعرف بأنه ليبرالي تقدمي.
في المقابل، كان الإخوان المسلمون دائما على خلاف مع الحركة الوهابية. وكان خاشقجي وزملاؤه، الذين فضلوا نفي أنفسهم خارج بلدانهم، يؤمنون بإمكانية فرض الحكم الإسلامي من خلال الانخراط في العملية الديمقراطية. في الواقع، يكره الوهابيون الديمقراطية ويعتبرونها اختراعا غربيا. بدلا من ذلك، اختاروا أن يعيشوا الحياة كما يفترض أنها كانت في زمن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). وبناء على التحليل النهائي، هناك وسائل مختلفة لتحقيق نفس الهدف: الثيوقراطية الإسلامية.
يعد هذا المعطى مهما للغاية، لأنه وعلى الرغم من أن بن سلمان قد رفض الالتزام بالوهابية، لإرضاء الغرب، لا يزال ينظر إلى جماعة الإخوان المسلمين على أنها التهديد الرئيسي الذي يحتمل أن يعرقل رؤيته لمملكة سعودية جديدة. والجدير بالذكر أن معظم رجال الدين الإسلاميين في المملكة العربية السعودية الذين سجنوا خلال السنتين الماضيتين، يعتبرون من أصدقاء خاشقجي ولهم علاقات قديمة بجماعة الإخوان المسلمين. وبناء على ذلك، ظهر خاشقجي في صورة الزعيم الفعلي لفرع جماعة الإخوان المسلمين السعودي. ونظرًا لملفه ونفوذه، كان خاشقجي أكبر تهديد سياسي لحكم بن سلمان خارج العائلة المالكة.
يعتبر الأمر الأسوأ من وجهة نظر العائلة المالكة في أن خاشقجي كان همزة الوصل بين السعودية والقاعدة قبل هجمات 11 أيلول/ سبتمبر. لقد كان جمال على صلة مقربة بأسامة بن لادن في الثمانينيات والتسعينيات في أفغانستان والسودان، بينما كان يدافع عن جهاده ضد السوفييت في التقارير الرسمية في ذلك الوقت. في الأثناء، كان خاشقجي يعمل لدى المخابرات السعودية في محاولة لإقناع بن لادن بشأن إبرام هدنة مع العائلة المالكة السعودية. فما كانت نتيجة ذلك؟ كان خاشقجي الشخص الوحيد الذي لا ينتمي للعائلة المالكة لكن على إطلاع على الاتفاقيات التي تبرم مع القاعدة في الفترة التي سبقت هجمات 11 من أيلول/ سبتمبر. ومن شأن هذا المعطى أن يكون حاسما إذا قرر خاشقجي تصعيد حملته لتقويض حكم ولي العهد.
كان خاشقجي يعد، في وقت سابق من هذه السنة، لبعث تجمع سياسي جديد في الولايات المتحدة أطلق عليه اسم “الديمقراطية للعالم العربي الآن”، الذي سيدعم مكاسب الإسلاميين في الانتخابات الديمقراطية في جميع أنحاء المنطقة.
على غرار العائلة المالكة السعودية، قطع خاشقجي علاقته ببن لادن بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر. بعد ذلك عمل جمال مستشارا للسفير السعودي في لندن ومن ثم في واشنطن، الأمير تركي الفيصل. وكان الفيصل رئيس الاستخبارات السعودية من سنة 1977 ليتنحى عن منصبه قبل عشرة أيام فقط من هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، حيث استقال بطريقة مفاجأة على نحو غير قابل للتفسير. مرة أخرى، من خلال عمله جنبا إلى جنب مع الأمير الفيصل خلال الفترة التي كان فيها سفيرا، وحينما كان يكتب تقاريره عن بن لادن، تواصل خاشقجي مع مسؤولي الاستخبارات البريطانية والأمريكية والسعودية. باختصار، كان قادرا بشكل كبير على الحصول على معلومات داخلية لا تقدر بثمن.
من المرجح أن السعوديين قلقون أيضا من أن خاشقجي قد أصبح مستشارا لبعض الأطراف الأمريكية. في واشنطن سنة 2005، أخبرني أحد كبار المسؤولين في البنتاغون عن خطة سخيفة، حيث اضطروا إلى “تجريد السعودية من صفة المملكة العربية” (وذلك بعد حالة الغضب التي طغت بعد حادثة 9/11). وقد شملت الخطة إنشاء مجلس يتكون من شخصيات سعودية مختارة في مكة المكرمة لحكم البلاد تحت رعاية الولايات المتحدة بعد سيطرتها على النفط. وقدم أسماء ثلاثة سعوديين كان فريق البنتاغون على اتصال منتظم بهم فيما يتعلق بالمشروع، واحد منهم كان خاشقجي.
قد يبدو الأمر ضربا من الخيال، لكنه يبين إلى أي مدى كان ينظر إليه على اعتباره عنصر فعال من قبل أولئك الذين كانوا يأملون أن تتغير السعودية. لهذا السبب أو لأسباب أخرى، وعملا بمقولة “دع أعدائك بالقرب منك”، قدم بن سلمان عرضًا قبليًا تقليديًا للمصالحة مع خاشقجي قبل بضعة أسابيع من خلال منحه منصب مستشار إذا عاد إلى المملكة، وذلك وفقا لأحد أصدقاء خاشقجي.
في المقابل، رفض خاشقجي بسبب مبادئ “أخلاقية ودينية” تحول دون ذلك. وربما كان هذا الرفض بمثابة ضربة قاتلة لمستقبل المعارض السعودي. وقد لا يكون ذلك فحسب، من ذلك فقد كان خاشقجي يعد، في وقت سابق من هذه السنة، لبعث تجمع سياسي جديد في الولايات المتحدة أطلق عليه اسم “الديمقراطية للعالم العربي الآن”، الذي سيدعم مكاسب الإسلاميين في الانتخابات الديمقراطية في جميع أنحاء المنطقة. وبالتالي، كان كابوس بن سلمان بشأن المعارضة السياسية الإسلامية بقيادة خاشقجي على وشك أن يصبح حقيقة.
كان الغرب يتظاهر بالتودد لبن سلمان، لكن كيف يمكن أن نتغافل الآن على ما يبدو أنه جريمة قتل شبيهة بجرائم المافيا؟ في هذا الصدد، قال دونالد ترامب: “لا أريد أن أسمع أي شيء عن ذلك. لا أحد يعرف ما الذي حدث بالفعل، لكن هناك بعض الروايات السيئة جدا يتم تداولها. وأنا لا أحب ذلك”. حسنا، هناك الكثير من الروايات التي تنبثق من هناك، قصص عن الأمير القاسي الذي يختفي خصومه عادة. ويعتبر مصير خاشقجي من المؤشرات الأخيرة والحديثة على ما يحدث حقاً داخل المملكة العربية السعودية. فإلى متى سينظر قادتنا للجانب الآخر من القصة؟
المصدر: ذا سبيكتاكيلور