كان جسده النحيل أسهل على أن تندلق الحكايات منه اندلاقاً، وغربته عن عالم عاديٍ إلا أنه لم يعد عالمه أن تملؤه بالدهشة الطاغية من كل ما يشاهد. بدأ الحكاية هكذا بلا مقدمات، كمن يعرف أن عليه أن يحكي، أو كمن كان ينتظر الفرصة أن يحكي، كانت فرصته لمّا توقف بعد الطريق الطويل من داخل حمص المحاصرة إلى أبناء مدينته التي خرج منها قبل عامين ذاهباً إلى حمص في قصة لا تصدق وكانوا ينتظرونه في مدينة تركية.
الصمود في الحصار، حكاية حمص المدينة الأكثر تضرراً في الثورة، قلت في الثورة ولم أقل منها خجلاً من حمص التي حملت الثورة طوال الوقت إلى أن ما عادت تحتمل حتى أن تحمل نفسها، وما عاد ابنها الذي كسره الجوع يمكنه أن يقف.
وحمص البقاء رغم الموت الزائر المقيم الذي لم يقف يوماً واحداً خارجها، وحمص الثبات رغم الحصار الذي دخل يومه ال676 ولم توقفه الاستغاثات من داخله ولا قوافل الأمم المتحدة ولا ما هو أهم من ذلك كما عرف أبناء المدينة: المعركة. المعركة التي ذهب فيها خير شباب حمص في محاولات كسره وكان أعلى ذلك في المطاحن. وحمص المقدرة رغم الخذلان الذي يفهم سببه ” أبو علي ” في الوقت نفسه الذي لا يفهمه، لا يفهم أن كتائب في الريف الشمالي تملك السلاح المديد لم تحاول جادة ولا لمرة واحدة أن تهجم على حاجز ملوك الوحيد الفاصل بين المدينة المحاصرة والريف الواسع بينما يظن هو أنهم لو قصفوه لأسبوع واحد وحسب لن تمكنه المقاومة وسيستسلم. وحمص النصر رغم الهزيمة التي تبدو حتيمة على شباب محاصَرين منذ عامين لم يساعدهم أحد بينما يصرون هم على أنهم سينتصرون، كيف؟ لا نعرف ولا يعرفون إلا إيمانهم بالمعجزة: هم. وحمص الحالة رغم الاستثناء، الحالة التي يشبهها قليلاً أو كثيراً الأماكن القريبة والبعيدة عنها، واستثناؤها أنها حملت الأقصى والأقسى في ذلك، أقصى النصر وأقسى الهزيمة.
وكان أقصى ذلك وأقساه منظومة المصالحة والتسوية التي انتهجها النظام في الأماكن التي يحاصرها حتى مات أبناؤها من الجوع، في جنوب دمشق والغوطة وحمص القديمة. ” أبو علي ” كان أحد الذين خرجوا من الحصار عن طريق النظام لكنه رفض أن يعتبروه في تسوية، يحكي عن ذلك: في الأيام الأخيرة كثرت التسويات، صار عند الجميع أرقام الضباط الذين ينسقون خروج من يطلب التسوية ويؤمنون له الحماية الكاملة حتى يصل إلى حيث يريد. صار الحل الوحيد بعد أن استعصت الحلول جميعها واستحال البقاء في الحال والحالة نفسها إلى الأبد. اُكتشفت الأنفاق التي كانت تستخدم بالكاد للتهريب، ونفذ الطعام الذي كان داخل البيوت، وخسرت كل محاولات كسر الحصار من داخله، ولم يتحرك من هم خارجه، وكان الوضع في تراجع مستمر. اعتدنا أخيراً على العشب الذي كنا نجمعه ولا نعرف عنه. عديدون من أصدقائي ماتوا وآخرون أصابهم الجنون، صاروا يشيرون إلى الأزقة وينظرون إلى الشرفات يطلبون ممن عليها أن ينزل، لم يكن عليها أحد. انتهينا في موت لكن بطئ ننتظره إما من الجوع أو من الاقتحام الذي كان يُعد حثيثاً له. كثيرون رفضوا أن يستجيبوا للتسوية وسخروا منها، كانوا يتناقصون يومياً، يستشهدون غالباً أو ينهارون أخيراً كما انهرت بدوري.
نسقت مع الضابط الذي كان الخروج عن طريقه لا يمر باعتقال في الفرع، خرجت واستقبلني في مدرسة الأمم المتحدة، سلمني ملابس جديدة وطعام ومكان للنوم وقال أنه سيؤجل التحقيق للغد. لما جاء التحقيق كان يسأل فقط ولم يكن يعترض على إجاباتي أو يستفسر عن مزيد، كان يكتب كل كلمة أقولها ولا يطلب مني ما لم أقل. سألني إن كان أحد قد أذاني لمّا خرجت أو طلب مني مبالغ لقاء ذلك، أجبت بالنفي. خيرني في أن أذهب أو أن أبقى، اخترت الذهاب. آخرون قرروا البقاء في المدرسة سجلوا أسمائهم على لوح وأعطوهم بطاقات كمنتمين للمكان يخرجون منه ويدخلون إليه متى أرادوا، مع العتاب لو تأخر أحدهم في الليل “
صار أبو علي يسرد قصة خروجه الذي لا يبدو تصديقها أسهل من تصديق ما كان قبل أن يخرج، والمعاكس تماماً لما حدث في الخروج.
تعيد القصة كما يعيد ما ينقل من البلدات التي صالحت في جنوب دمشق كإصرار النظام أن يكون أول بنود المصالحة رفع رايته على أعلى سارية في البلدة والتي لم يكن هدفها إعلامياً فقط بالتأكيد، والحواجز المشتركة والملتصقة في ببيلا مثلاً التي جعلت المقتول يقف مع قاتله الذي كان يقاتله ليتأكدان مما يبحثان عنه معاً، المعادلة الأولى والخام في سيرة الاستبداد والثورة عليه: الأمن مقابل الحرية، والحياة مقابل الحرية ” .. صحيح تماماً أن بشار الأسد ونظامه من اشرس الأنظمة الاستبدادية التي مرت على المنطقة، ومن أشرهها للدم أي أنها كانت كثيراً ما تقتل لمجرد القتل كما حدث طوال هذه الثورة وقبلها، لكن صحيح أيضاً أنه يريد أن يكون تحته شعباً رضي به بالنهاية، رغماً عنه أو اقتناعاً به، وأن الناس مستسلمين ومنقادين إليه أحب للطاغية من جثثهم التي عليه أن يدفنها وأن يعتذر عنها لمّا يضطر لذلك، وأن البلاد بشعبٍ قطيع، خيرٌ من البلاد التي لا شعب فيها.
كل الأماكن التي حاصرها النظام بالشكل القاسي كانت أماكن عصية عليه ومستحيلة، ولم يكن بإمكانه أن يدخلها مهما حاول، فكان عليه أن يلجأ لأوحش الأساليب وأكثرها بدائيةً بالحصار الكامل والطويل مع القتل المستمر بالقصف ومحاولات الاقتحام ليعيد الناس لشكلهم الأول ياحثون عن أي شئ يؤكل ويعيشوا في معركة خام: معركة البقاء، في الوقت الذي يخذلهم فيه كل من كانوا يظنون أنهم سيساعدوهم والمحملين بالثأر منهم أولاً، ويائسون من المسالك إلا الموت القريب الأرحم من الموت البعيد البطئ. ليفتح لهم القاتل في نهاية ذلك بعد أن يكون قد كسرهم تماماً، كسر المقاومة التي فيهم والثورة بعد أن عجزوا عنها مسلكاً واحداً من خلاله، ويرحب بهم في حضن الوطن الذي يطعمهم ويسقيهم ويؤمنهم بعيداً عن القصف ولن حتى يعيد عليهم السؤال الذي جاوبوه إذ أنه يثق فيهم كأبنائه العاصين لكن التائبين الذين عادوا إليه وتركوا العصابات الإرهابية التي يقاتلها هو ليحميهم. ثمة قاتلٌ وحسب، وثمة قاتلٌ يريد أن يحكم ومستعدٌ أن يلجأ لأي شيء غير القتل لو كان سبيلاً لذلك الحكم. نظام الأسد قاتلٌ يريد أن يحكم، ويعمل جيداً على تركيع الشعب الذي خرج عليه ويفكر فعلاً في أن يسوقه للانتخابات التي يعد لها جاداً برضاه أو بسخطه.
لكن ما لا يعرفه ولا يعرفه طاغية، أن الذي أحسّ بالحرية والانعتاق مرة في المظاهرة التي كان يغني فيها الساروت، وغنى معه: يا وطن يا حبيب.. حتى نارك جنة ” لن يموت قلبه، لن تموت القوة التي في قلبه، وأن كثيرين من الذين كسرهم الحصار واضطروا أن يخرجوا منه لمّا استطاعوا عادوا وحملوا البواريد في مكان آخر يقاتلون فيه قاتلهم. وأن ما سيؤخر أبو علي عن ذلك العملية التي ينتظر أن تُخرج من جسده الشظايا التي كانت فيه طوال الوقت.
المعركة أطول مما كنا نظن ويظنون، والهزيمة أبعد مما نظن ويحسبون. الخجل كل الخجل من الأساطير التي بقيت في حمص المحاصرة تقاتل، والتي تعيش بينما تُكتب هذه الكلمات الفصول الأخيرة ربما من حكايةٍ كان يمكن لو لم يُتركوا فيها لوحدها أن تنتنهي نهاية أخرى كما كان ينشد شبابها ويحلمون.