ترجمة وتحرير: نون بوست
حتى بالنسبة للبنانيين أنفسهم، قد يكون من الصعب تحديد متى ساءت الأمور في بلدهم الصغير والجميل.
بالتأكيد كان ذلك قبل وقت طويل من صباح الثلاثاء، عندما توغلت القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان. وقبل وقت طويل من يوم الجمعة، عندما اغتالت إسرائيل حسن نصر الله، زعيم حزب الله الذي ينقسم حوله اللبنانيون، والذي كان يتحكم في السياسة والأمن في البلاد لسنوات.
وكان ذلك قبل وقت طويل من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، عندما بدأ حزب الله وإسرائيل بـتبادل الضربات الجوية وإطلاق الصواريخ عبر الحدود، مما أدى إلى نقل حرب غزة إلى جنوب لبنان الأخضر الخصيب.
إن حزب الله، الميليشيا الشيعية التي تمولها إيران، والتي تعمل أيضًا كحزب سياسي رئيسي في البلاد، ومنظمة تقدم خدمات اجتماعية، لا يدير لبنان بشكل رسمي، ولكن في عهد نصر الله، بدا أحيانًا أنه القوة الوحيدة المؤثرة في البلاد؛ فهو يعتبر دولة داخل دولة، بما يمتلكه من قوات مسلحة ومدارس ومستشفيات وبرامج شبابية.
جاء اغتيال نصر الله كأحدث قنبلة تهز لبنان، البلد المتوسطي الذي يبلغ عدد سكانه 5.4 مليون نسمة، والعالق منذ فترة طويلة في أزمات لا تنتهي.
يقول كثيرون إن معاناة لبنان الحالية بدأت في 2019، عندما انهار الاقتصاد وأخذ معه الطبقة المتوسطة القوية في البلاد. ولم تفلح الاحتجاجات الحاشدة المناهضة للحكومة في ذلك الخريف في إزاحة الطبقة السياسية المكروهة على نطاق واسع في البلاد.
وقد يرجع آخرون ذلك لسنة 2020، والتي أدى فيها فيروس كورونا إلى المزيد من الشلل الاقتصادي، بالإضافة إلى الانفجار الهائل الذي وقع في ميناء بيروت ودمّر أحياء بأكملها في العاصمة.
يرى البعض أن أزمات لبنان تعود إلى الحرب الأهلية التي استمرت 15 سنة وانتهت سنة 1990، والتي أدت إلى ولادة الحركة التي أصبحت حزب الله فيما بعد، ولم تتعاف منها البلاد أبدًا.
لقد تركت كل هذه الأزمات وغيرها، لبنان في حالة لا تسمح له بالصمود في مواجهة صراع متصاعد بشكل حاد مع إسرائيل.
لقد أصبح هذا الأمر واضحًا خلال الأسبوع الماضي، عندما فر ما لا يقل عن 118 ألف لبناني من الغارات الجوية الإسرائيلية في جنوب لبنان، وفي وادي البقاع، وفي الضاحية الجنوبية التي يهيمن عليها حزب الله في بيروت.
وصف مارك ضو، وهو عضو مستقل في البرلمان، بينما كان التلفاز في مكتبه يعرض لقطات إخبارية من الاختناقات المرورية التي استمرت لساعات على طرقات الجنوب الأسبوع الماضي، الرد الرسمي بأنه “فوضوي”.
ولم يتفاجأ ضو بأن الحكومة بدت مذهولة، مضيفًا: “ليس لديهم الأموال ولا السيطرة على ما يحدث على الأرض”، مشيرًا إلى أن الجيش اللبناني لا يملك أي سلطة فعلية، وأنه “رهن لما يقرره حزب الله بشكل أحادي”.
وفي حين خصصت الحكومة مئات المباني العامة كملاجئ للنازحين، إلا أنها لم توفر لهم أي مراتب أو أغطية أو طعام أو أي إمدادات أخرى.
وقد انتشرت المعلومات حول الملاجئ بشكل عشوائي من خلال ما يتم تداوله على تطبيق واتس آب، مع القليل من التوجيهات الرسمية؛ حيث امتلأت الملاجئ بسرعة، مما جعل المئات ينامون في الساحات العامة، وعلى الكورنيش، وتحت الجسور، عندما تم إخلاء الضاحية الجنوبية بعد الغارة الجوية الضخمة يوم الجمعة على مقر حزب الله تحت الأرض.
كان نصر الله بطلاً بالنسبة لبعض اللبنانيين، وشخصية مكروهة بالنسبة للبعض الآخر، بصفته زعيما لجماعة تعتبرها الولايات المتحدة منظمة إرهابية منذ فترة طويلة، لكنها المنظمة التي أخرجت إسرائيل من جنوب لبنان عندما عجزت الدولة اللبنانية عن ذلك. غير أن قوة نصر الله كانت من النوع الذي لا يستطيع سوى قلة من الناس تخيل ما ستبدو عليه البلاد من دونه.
يقول ضو إن لبنان غارق في حالة من الشلل السياسي، وذلك إلى حد ما بسبب عرقلة حزب الله لمحاولات حل الأزمة، فقد أمضى لبنان ما يقرب من سنتين دون رئيس، وليس لديه إلا حكومة تصريف أعمال.
بالكاد، توفر الدولة الكهرباء، مما يجعل اللبنانيين يعتمدون على المولدات الكهربائية، إذا كان بإمكانهم تحمل تكاليفها. ولا تستطيع العديد من المولدات تشغيل سوى جهاز واحد فقط في كل مرة، لذا يقوم السكان بفصل الثلاجات عن الكهرباء أو التخلي عن التكييف عند غسل الملابس.
بسبب الأزمة المالية، أصبح أغلب اللبنانيين عاجزين عن تحمل تكاليف سفرة إلى الخارج، أو التزلج في جبال لبنان آخر الأسبوع، أو قضاء فترة ما بعد الظهيرة في النوادي الشاطئية، حيث أصبحت مدخراتهم محاصرة في البنوك التي تحرمهم من الوصول إلى أموالهم. وفي حالة من اليأس، لجأ بعض أصحاب الحسابات إلى الاحتجاج في فروع البنوك للمطالبة بأموالهم.
غادر البلاد الآلاف من الأطباء والممرضات والعاملين في المجال الصحي، فضلاً عن العديد من المهنيين الشباب، ورجال الأعمال، والمصممين والفنانين. بينما لا يتقاضى المدرسون رواتبهم بشكل دوري، كما لا يستطيع العديد من طلابهم تحمل تكاليف الكتب المدرسية.
يقول سليمان هارون، نقيب المستشفيات الخاصة في لبنان: “إن البلاد في كثير من النواحي لا تستطيع الصمود في حرب طويلة الأمد”. ورغم أن نظام الرعاية الصحية كان يعمل بشكل جيد حتى الآن، إلا أنه يشعر بالقلق من عدم وجود عدد كاف من الطواقم الطبية للتعامل مع الهجوم الإسرائيلي المستمر. وأضاف: “هذا هو مصيرنا، وعلينا أن نواجهه”.
ملأ المانحون من القطاع الخاص، والمتطوعون والنشطاء، ورجال الأعمال، ومنظمات الخدمات الاجتماعية التابعة للأحزاب السياسية الفراغ الذي خلفته الدولة.
وفي المناطق الأكثر ثراءً في البلاد، تسهم هذه الجهود، إلى جانب المقاهي والنوادي الليلية والنوادي الشاطئية والمطاعم الفخمة، في إخفاء انهيار لبنان، لدرجة أن من يزور البلاد لأول مرة سيتفاجأ غالبًا بما يراه من بذخ في الأحياء الراقية.
لقد قام السكان وأصحاب الأعمال بتركيب ألواح شمسية على أسطح المنازل في مختلف أنحاء لبنان للتعويض عن نقص الكهرباء التي توفرها الحكومة. ويدفع المانحون من القطاع الخاص تكاليف إنارة الشوارع في بعض أحياء بيروت.
وخلال الأسبوع الماضي، ومع امتلاء الملاجئ بالنازحين، سارع خليط من المتطوعين ومنظمات الإغاثة المحلية إلى سد الفجوة.
في الأسبوع الماضي، جلست سارة خليل، عضو مجلس إدارة إحدى المدارس الخاصة في وسط بيروت، في ساحة المدرسة للمساعدة في إدارة حملات التبرعات، من طعام ومياه. وكان مجلس إدارة المدرسة قد فتح خمسين فصلاً دراسيًا للعائلات النازحة، وكان أعضاء هيئة التدريس والجيران وعائلات الطلاب وغيرهم من العاملين في المدرسة يحضرون المؤن.
تقول سارة: “هذه هي الطريقة الوحيدة، فلا يمكننا الاعتماد على الحكومة، ولكننا بالتأكيد نستطيع الاعتماد على من حولنا”.
وفي مدرسة الدكتور صبحي الصالح المتوسطة في بئر حسن، فتحت وزارة التربية والتعليم الأبواب للعائلات النازحة. ولكن منظمة الكشافة التابعة لحركة أمل، وهي حزب سياسي شيعي كبير، كانت تدير المأوى وتجمع الإمدادات المتبرع بها.
وعندما سُئل عن سبب عدم تقديم الحكومة المزيد، ضحك محمد جابر، أحد المتطوعين، قائلًا: “لا توجد حكومة أصلا. لن تستيقظ الحكومة إلا بعد انتهاء الحرب”.
وقالت العائلات الموجودة في المأوى إنها جاءت إلى هناك بعد أن سمعت عنه من الأقارب أو عامة الناس. لكن العديد من الملاجئ امتلأت بسرعة، بما في ذلك هذا الملجأ، مما ترك الموجة الأخيرة من النازحين في وضع صعب، إذا لم يكن لديهم عائلة أو أصدقاء لاستقبالهم.
انتهى الأمر بالعديد من العائلات السورية تحت جسر في بيروت بعد ظهر يوم الأربعاء، وسط أبواق المركبات المهترئة وسيارات الدفع الرباعي الفخمة. لقد كان وجودهم هناك تذكيرا بأزمة أخرى أرهقت لبنان: تستضيف البلاد على مضض ما يقدر بنحو 750 ألف لاجئ من سوريا المجاورة، دفعتهم الحرب الأهلية الوحشية في سوريا وأزمتها الاقتصادية والزلزال القوي الذي ضرب البلاد السنة الماضية نحو لبنان.
كانت بشرى علي (24 سنة) تقف تحت الجسر مع ابنها البالغ من العمر 4 سنوات وابنتها البالغة من العمر سنتين، تحمل كيسا بلاستيكيا أسود يحتوي على بعض الضروريات، وهو كل ما تمكنوا من حمله صباح الأربعاء أثناء إخلاء الضاحية التي يهيمن عليها حزب الله في بيروت، والتي ضربتها إسرائيل عدة مرات.
جاءت بشرى من حلب في سوريا مع عائلتها إلى لبنان السنة الماضية، بعد أن دمر الزلزال في شمال سوريا منزلهم، لكن العيش في لبنان ليس سهلا بالمرة؛ حيث تم تسريح زوجها من مصنع أحذية لبناني قبل ثلاثة أشهر، بينما يرتفع إيجار مسكنهم شهريًا. والآن تتساقط القنابل، والمدارس مغلقة أمامهم، لذلك قرروا العودة إلى حلب.
تقول بشرى، وهي تمسح شعر ابنها وعلى وجهها علامات الحزن: “إنه شعور مروع حقًا”.
بدت الحكومة اللبنانية غائبة عن الأنظار على نحو مماثل بعد انفجار الميناء في 4 آب/ أغسطس 2020، الذي ألحق أضرارًا هائلة في بيروت وأسفر عن مقتل 218 شخصًا، وهي الكارثة التي وجدت التحقيقات التي أجرتها وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان في وقت لاحق أنها تعود بالأساس إلى إهمال الحكومة وفسادها وسوء إدارتها. وفي الأيام التي تلت الانفجار، بينما كان الجنود يدخنون في الشوارع الجانبية، كان المواطنون العاديون هم من قام برفع الأنقاض.
في أعقاب الانفجار، بدأت مجموعة صغيرة من الشباب بتوزيع التبرعات والوجبات المجانية من محطة وقود مهجورة في شرق بيروت. وبعد أربع سنوات، بدأت “محطة الأمة“، التي أصبحت الآن تضم مطبخًا ومنظمة مساعدات محلية، بتوصيل حوالي 1600 وجبة يوميًا إلى الملاجئ.
وقالت جوزفين أبو عبده، إحدى مؤسسي المنظمة، والتي تدير طاقم الموظفين والمتطوعين الشباب: “البلد، انهار بالفعل. ولا أصدق أننا نفعل هذا مرة أخرى. لقد عدنا إلى أجواء الرابع من آب/ أغسطس”. قبل أربع سنوات، كان الدافع وراء ذلك هو تقاعس حكومتهم. والآن، كما قالت، كان الهجوم الإسرائيلي هو الذي وحّد اللبنانيين، مضيفة أنه في ظل هذا الهجوم الإسرائيلي، “وهذا أقل ما يمكننا فعله”.
المصدر: نيويورك تايمز