كان لـ”طوفان الأقصى” من اسمه نصيب، لا في الحدود الجغرافية المحيطة به وحسب، لكن أيضًا على بُعد آلاف الأميال: في بلاد العمّ السام، فمنذ السابع من أكتوبر وقفت الولايات المتحدة بكامل قوتها وجبروتها في ظهر الترسانة الإسرائيلية، حتى بات السؤال مشروعًا: من يحكم من؟
وخلافًا لما يعتقده البعض من أن الدعم الأمريكي غير المشروط لـ”إسرائيل” يأتي كنتيجة طبيعية وسلسة للمصالح العضوية التي تربط البلدين، فإن جهودًا جبّارة تبذلها جماعات الضغط الموالية لـ”إسرائيل”، المعروفة اصطلاحًا بـ”اللوبي الصهيوني”، في أروقة البيت الأبيض والكونغرس تدرجًا حتى أصغر دائرة حكم في الولايات.
ضغوط منوعة بين الابتزاز والتحايل والتهديد والملاحقة، ساهمت -إلى جانب ظروف أخرى- بظهور هذا الاصطفاف الفجّ للمسؤولين الأمريكيين إلى جانب السياسات والمصالح الإسرائيلية البربرية في الشرق الأوسط، وعلى رأسها حرب الإبادة الوحشية في قطاع غزة التي تدخل عامها الثاني على التوالي.
يستعرض هذا المقال أهم الجهود التي بذلها اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لمصلحة “إسرائيل” منذ السابع من أكتوبر، كيف وهل حقق أهدافه من حينها؟ ما هي أدواته؟ وكيف تحولت بنيته لتواكب التغير الدراماتيكي في وضع “إسرائيل” في المنطقة؟ وهل أخضع -كما يبدو للناظر من بعيد- جميع الرقاب في أروقة الحكم الأمريكية؟ أم أن مقاومة رسمية وشعبية ما زالت تلاحقه وتؤرق منامه؟
بعد طوفان الأقصى: مكاسب ضخمة بجهود اللوبي الصهيوني
الدعم الأمريكي لـ”إسرائيل” ليس موقفًا وليد اللحظة، فهناك تاريخ طويل من العلاقات المتشابكة بين الحكومات الأمريكية والإسرائيلية المتعاقبة، إلا أن العقود الأخيرة، خاصة بعد تعرض “إسرائيل” لموجات مسلحة من فصائل المقاومة، شهدت تصاعدًا تدريجيًا في قيمة ونوعية المساعدات، وقد لعب اللوبي الصهيوني دورًا مفصليًا في الضغط باتجاه إقرار حزم مساعدات ضخمة لـ”إسرائيل” لمواجهة الأخطار والتهديدات المحدقة بها.
بلغت موجات المساعدات أوجها منذ منتصف العقد الماضي، ففي عام 2016 دخلت “إسرائيل” باتفاقية مع حكومة الولايات المتحدة، توفر بموجبها الأخيرة حزمة مساعدات قدرها 38 مليار دولار تتلقاها دولة الاحتلال خلال مدة 10 سنوات (2019-2028) بواقع 3.8 مليارات دولار سنويًا، يتوزع المبلغ بين مساعدات مالية لأغراض عسكرية بمقدار 33 مليار دولار وأنظمة دفاع للقبة الحديدية ومقلاع داوود ونظام السهم بواقع 5 مليارات دولار سنويًا.
تعدّ هذه الاتفاقية أكبر اتفاقية مساعدات تمنحها حكومة الولايات المتحدة لدولة أخرى في تاريخها، إلا أن السابع من أكتوبر شكّل منعطفًا حادًّا في حزم المساعدات الأمريكية لـ”إسرائيل”، فقد سعى اللوبي الصهيوني في الكونغرس وأروقة البيت الأبيض حثيثًا باتجاه دفع الحكومة الأمريكية لمضاعفة مساعداتها لـ”إسرائيل”، في ظل الظرف التاريخي الذي تعاني منه الأخيرة.
ومع حصول “إسرائيل” على أسلحة أمريكية سواء مصدّرة حديثًا إليها أو حتى إمكانية استخدام السلاح الأمريكي المخزّن على أراضيها منذ ثمانينيات القرن الماضي، أقرَّ الكونغرس في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حزمة مساعدات ضخمة لـ”إسرائيل”، بواقع 14 مليار دولار أمريكي كجزء من حزمة أضخم لـ”إسرائيل” وأوكرانيا وتايوان بواقع 105 مليارات دولار أمريكي.
حتى في الأوقات التي عانى فيها الكونغرس من انقسام حول مشروطية وعدم مشروطية الدعم الأمريكي لـ”إسرائيل”، توجّهت جماعات اللوبي الصهيوني بالضغط على البيت الأبيض في سبيل التحايل على الكونغرس وتمرير حزم مساعدات دون المراجعة التشريعية المعتادة، وضمّت هذه الصفقات متفجرات موجهة وأخرى تعدّ “غبية” أو غير دقيقة ساهمت في مضاعفة الضحايا بين المدنيين الفلسطينيين، بمعرفة المسؤول الأمريكي ووسط انتقادات دولية صارخة.
وقد بلغت الصفقات الأمريكية التي تضمّنت مساعدات عسكرية لـ”إسرائيل” قرابة الـ 100 صفقة خلال أقل من عام، بلغت قيمة صفقتين منها فقط ما مقداره 250 مليون دولار أمريكي، لكن السؤال المطروح هنا هو: كيف استطاعت جماعات اللوبي الصهيوني تحقيق هذه المكاسب المهمة لـ”إسرائيل”؟ وبأي أدوات؟
عندما يتحدث المال
لا يتورّع اللوبي الصهيوني عن استخدام أكثر الأدوات فظاظة وخسّة حين يتعلق الأمر بمصلحة “إسرائيل”، إلا أن الجماعات المشكّلة له حريصة كل الحرص أن تظهر بمظهر الملتزم بالقانون وقواعد اللعبة الديمقراطية، خاصة على الساحة الأمريكية الداخلية مخافة الملاحقة القانونية والنبذ المجتمعي الواسع.
بناءً على ذلك، تنوعت أدوات اللوبي ووسائله المستخدمة لتحقيق أهدافه، فبينما بقيت أدوات مثل التهديد المبطن والابتزاز وتشويه سمعة المدافعين عن الحق الفلسطيني أدوات يستخدمها اللوبي في الظل، تظهر ورقة المال جلية في تتبّع اللوبي لمصالحه، خاصة في أروقة الكونغرس، حتى أن مصطلح جماعات الضغط الموالية لـ”إسرائيل” (اللوبي) صارت مرادفة في المخيال الجمعي للمال والكثير من المال، فكيف استخدم اللوبي هذه الورقة الناجعة بعد السابع من أكتوبر؟
على مدار عقود مضت، استطاعت جماعات الضغط الموالية لـ”إسرائيل” وعلى رأسها “إيباك”، وهي المنظمة الصهيونية الأهم والأقوى في جماعات اللوبي، التأثير على الحكومة الأمريكية ودفعها باتجاه تقديم دعم غير مشروط لـ”إسرائيل” عسكريًا وماليًا ودبلوماسيًا، وتضاعفت الجهود في هذا المضمار بعد السابع من أكتوبر، إذ لعب المال دورًا مفصليًا في شراء أصوات أعضاء الكونغرس ودفعهم إلى تبني قرارات تقدم مزيدًا من الدعم المالي والعسكري لـ”إسرائيل”، وفي المقابل معارضة كل طلب بوقف إطلاق النار في غزة.
أنفقت “إيباك” ما مقداره 3.7 ملايين دولار في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 على أعضاء الكونغرس لشراء القرارات والدعم الذي تريده لـ”إسرائيل”، بينما مع بداية العام الحالي فقط كانت المنظمة قد أنفقت ما مقداره 18 مليون دولار أمريكي، لضمان فوز من ترغب بفوزهم في الكونغرس في انتخابات 2024، وهم بالطبع موالون بلا تحفُّظ لـ”إسرائيل”.
قدّم السابع من أكتوبر فرصة ذهبية للوبي الصهيوني لجمع التبرعات واستنفار أصحاب رؤوس الأموال من المتعاطفين مع “إسرائيل” لتقديم الحماية والدعم للكيان المنكوب، ففي فترة قياسية كان مجلس العلاقات الأمريكية الإسرائيلية “إيباك” قد جمع ما يفوق الـ 90 مليون دولار من تبرعات الصهاينة ومن يواليهم، حيث عشية هجوم المقاومة الفلسطينية على غلاف غزة، استطاعت “إيباك” جمع 40 مليون دولار وتبعها 50 مليون أخرى خلال فترة شهرين فقط.
وإذا ما قارنا ذلك المبلغ بمجموع التبرعات التي كانت تحصل عليها المنظمة من قبل، سنجد أن المبلغ قد تضاعف 3 أضعاف نتيجة الهجمات، فبين شهرَي يناير/ كانون الثاني وسبتمبر/ أيلول 2023 كانت المنظمة تجني ما مقداره 12 مليون شهريًا من التبرعات الفردية والجمعية للصهاينة.
في المقابل، شهدت الأشهر القليلة التالية لـ”طوفان الأقصى” صعودًا حادًّا في المبالغ التي أنفقتها لجنة العمل السياسي التابعة لـ”إيباك”، والتي تعدّ إحدى أذرعها السياسية المؤثرة في سير الانتخابات الأمريكية، فمن مبلغ 275 ألف دولار كانت اللجنة تنفقه أسبوعيًا لـ”شراء” المسؤولين واللجان الموالية لـ”إسرائيل” في أروقة البيت الأبيض والكونغرس والإدارات المنتشرة في الولايات، صعد العداد إلى مبلغ 740 ألف دولار أسبوعيًا ينفق لهذه الغاية بعد السابع من أكتوبر.
كما شهدت الحسابات البنكية لبعض الشخصيات ذات الوزن والمواقع الحساسة في الكونغرس، مثل المتحدث باسم مجلس النواب مايك جونسون، تبرعات سخية من “إيباك” بعد السابع من أكتوبر، فالتبرع الذي لم يزد عن 5 آلاف دولار في الأشهر التسع السابقة لـ”طوفان الأقصى” تحول بين ليلة وضحاها إلى 246 ألف دولار.
كانت هذه الأموال كفيلة بتحويل جونسون إلى دمية ناطقة باسم “إسرائيل” ومدافع شرس عن سياسات نتنياهو في الكونغرس وأثناء الحملات الانتخابية للحزب الجمهوري، فقد كان جونسون من أكبر الضاغطين باتجاه تبنّي الكونغرس لحزمة الدفاع عن “إسرائيل” التي تلت هجمات السابع من أكتوبر، وبلغت حينها 14 مليار دولار تمّ استخدامها لتحسين أداء القبة الحديدية وتدعيم الترسانة العسكرية لـ”إسرائيل”.
بينما أظهرت الكشوفات الفيدرالية لـ”إيباك” إنفاقها مبلغ 800 ألف دولار في الربع الأخير لسنة 2023، أي بعد السابع من أكتوبر، في سبيل الضغط على المشرعين الأمريكيين لتبنّي تشريعات تدين حماس و”حزب الله” والحوثيين.
كما شهدت بداية العام الحالي إنفاقًا غير مسبوق من “إيباك” على وسائل التواصل الاجتماعي لمناصرة “إسرائيل” ومحاولة التأثير على الرأي العام الأمريكي، حيث بلغت إعلانات المنظمة خلال شهر واحد فقط 600 ألف دولار أمريكي للضغط على أعضاء الكونغرس، لإدانة هجمات حماس ودعم حق “إسرائيل” بالدفاع عن نفسها.
والآن مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية الرئاسية، دخلت جماعات اللوبي الصهيوني بكامل قوتها لدعم المرشح الرئاسي دونالد ترامب وحزبه الجمهوري مقابل الديمقراطيين الذين يراهم اللوبي “لا يقدّمون الدعم الكافي لإسرائيل”، حيث تخطط “إيباك” لإنفاق ما يزيد عن 100 مليون دولار لدعم مؤيدي “إسرائيل” في انتخابات 2024، وعلى رأسهم ترامب وزبانيته في الولايات المختلفة.
مع العلم أن المنظمة لم تكن تنفق بشكل مباشر على الحملات الانتخابية قبل الحرب الأخيرة مع قطاع غزة، إلا أن الوضع تبدّل منذ معركة “سيف القدس” عام 2021، حيث غيّرت “إيباك” من بنيتها وتوجّهت للدعم المالي المباشر لحملات المرشحين، بدلًا من الإنفاق على جهود الضغط والإعلام وتغيير الرأي العام بصورة غير مباشرة.
ترفعُ أقوامًا وتضعُ آخرين
ليس بالمال وحده تفرض جماعات اللوبي أجندتها في أروقة الحكومة الأمريكية، فلأساليب الابتزاز والتهديد وتلفيق التهم دور هامّ في ترهيب الأصوات المعارضة وتكميم الأفواه، فمنذ السابع من أكتوبر نجحت جماعات اللوبي الصهيوني وعلى رأسها “إيباك” بالإطاحة بأصوات مؤيدة تاريخيًا للقضية الفلسطينية، خاصة في الولايات التي تعدّ ذات حساسية لثقلها السياسي والاقتصادي في الولايات المتحدة.
حيث تمكنت المنظمة من إسقاط عدد من النواب التشريعيين المؤيدين للفلسطينيين في الانتخابات التمهيدية، والمعروفين اصطلاحًا باسم “الشلة”، وفي مقدمتهم جمال بومان وكوري بوش اللذان كانا يعدّان جزءًا مهمًّا من مجموعة النواب المدافعين عن القضية في الكونغرس، إلى جانب إلهام عمر ورشيدة طليب، ومصدر إزعاج لكثير من مواليي الكيان الصهيوني في البيت الأبيض.
كما هاجمت مؤسسات اللوبي الصهيوني الشخصيات التي رفضت الانصياع لمطالبها في الكونغرس بتقديم دعم غير مشروط لـ”إسرائيل” وشنّت حملة تشويه ممنهجة ضدهم، فقد عملت مؤسسة “مشروع الديمقراطية الموحدة” المحسوبة على اللوبي الصهيوني بمهاجمة جمال بومان ممثل ولاية نيويورك، ونشرت إعلانات في وسائل النقل تتهمه بموالاة حماس ودعم الإرهاب والتنكُّر للقيم اليهودية التي تدعم “إسرائيل”، بسبب مطالبته بوقف إطلاق النار واعترافه بحقّ الشعب الفلسطيني بتقرير المصير والدفاع عن أرضه، كما واجه بومان تحقيقات واتهامات متعلقة بحادثة إطلاق صفارة إنذار الحريق في مكاتب مجلس النواب دون ضرورة تستدعي ذلك.
عملت جماعات اللوبي على تلفيق تهم لبقية أعضاء “الشلة” أيضًا، فقد تم فتح تحقيق مع كوري بوش غداة الانتخابات الداخلية للحزب تمهيدًا لخوض الانتخابات العامة في نوفمبر/ تشرين الأول 2024، بتهم تتعلق بإنفاق أموال الحملة الانتخابية.
ورغم أن هذه المعارك الكيدية تبدو هامشية، إلا أنها استنفدت طاقات الممثلين التشريعيين وأثّرت على حظوظهم في الانتخابات التمهيدية، حيث خسر المرشحان بوش وباومان أمام مرشحي اللوبي الصهيوني، وتمّ استبعاد أصوات تاريخية مناصرة للفلسطينيين في الكونغرس.
تعرّضت كذلك النائبة رشيدة طليب ذات الأصول الفلسطينية لتضييقات غير مسبوقة في الكونغرس، فقد كانت الممثلة التشريعية الأولى التي تتعرض لعقوبة “الرقابة” التي يصوّت عليها أعضاء الكونغرس، وذلك بتهمة تأييد حماس ومعاداة “إسرائيل”.
قدّمت “إيباك” دعمًا سخيًا للمسؤولين والشخصيات التي نفّذت أجندتها بالخصوص، وناصبت المؤيدين للحق الفلسطيني العداء، فعلى سبيل المثال تلقّى الممثل التشريعي ريتشي توروس، وهو ديمقراطي معروف بدفاعه الشرس عن “إسرائيل” وعدائه المعلن لـ”شلة” المؤيدين لفلسطين في الكونغرس، مبلغ 201 ألف دولار أمريكي كتبرع من “إيباك” خلال نوفمبر/ تشرين الأول 2023 وحده، حيث كان توروس ممّن صوّت بالتأييد على معاقبة طليب في الكونغرس.
لم يسلم أي عضو في الكونغرس ممّن أيّد ولو تلميحًا صفقة تبادل أو وقفًا مشروطًا ومؤقتًا لإطلاق النار في القطاع من ملاحقة “إيباك“، فالنائبة بيتي ماكوم كانت ممّن تحدث عن صفقة رابحة لكل أطراف النزاع، لتجد حملة تشويه وملاحقة تتابعها من المنظمة وتتهمها بـ”محاولة إنقاذ حماس”.
بينما لقيَ النائب اليهودي المعروف بيرني ساندرز مصيرًا مشابهًا، عندما دعا إلى تقييد مساعدة “إسرائيل” بالتزامها بأحكام القانون الدولي وحقوق الإنسان، الدعوة التي لاقت فشلًا ذريعًا بعد أن أيّدها 11 نائبًا فقط، ورغم هذا المشهد القاتم لم يخلُ الأفق من بصيص نور ولو بعيد، فهل بقيت المنظومة محصّنة من التشكيك والانتقاد؟
تحدي المنظومة القائمة
بدأت أهم طلائع اللوبي الصهيوني تتشكل في أروقة الحكم الأمريكية خمسينيات القرن الماضي، رغم أن البدايات تعود إلى عقود أبعد من خلق “إسرائيل” نفسها، ومهّدت بصورة أو بأخرى لظهورها وتغولها في الأرض المحتلة.
وشهدت سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي دعمًا ماليًا غير مسبوق لتسليح “إسرائيل”، وتمكين مجتمعاتها الاستيطانية من تثبيت جذورها في القرى والمدن الفلسطينية المغتصبة، ورغم الدور الواضح الذي لعبه اللوبي في الكونغرس الأمريكي والبيت الأبيض، بقيَ الخوف سيد الموقف من تحدي وجوده والدور المشبوه الذي يضطلع به، وبدا إلى حدّ بعيد أن اللوبي أكبر من الانتقاد وعتيّ على التحدي والمواجهة، وأن من يجرؤ على مواجهة الوحش يحكم على مسيرته المهنية والشخصية بالإعدام.
إلا أن الوضع بدأ بالتحول في آخر عقدين بالتحديد مع تولي بنيامين نتنياهو رئاسة الوزراء في الكيان، وما رافق ذلك من تحدٍّ لسياسة باراك أوباما بتجريم الاستيطان والسعي لتوقيع اتفاقية نووية مع إيران، إذ ساهم هذا التحول البطيء في ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وتراجُع دور وسائل الإعلام الرسمية المعروفة بانحيازها الأعمى للرواية الإسرائيلية.
ظهر جيل من الديمقراطيين الشباب أكثر تعاطفًا مع القضية الفلسطينية، وأجرأ على انتقاد دور اللوبي الصهيوني في أروقة التشريع والحكم، كما ظهر انقسام جليّ في الجبهة اليهودية في الولايات المتحدة، حيث انتشرت في الأعوام القليلة الماضية ظاهرة اليهود الأمريكيين المعادين لـ”إسرائيل”، وقد برزت هذه الظاهرة بشكل كبير منذ السابع من أكتوبر، لاعبة دورًا مهمًّا في تغيير الرأي العام الأمريكي ودعم الأصوات الرسمية المعادية للوبي الصهيوني ودوره في السياسة الداخلية والخارجية الأمريكية.
هذا التغيير المفاجئ في مواجهة اللوبي دفع بالأخير إلى التكشير عن أنيابه، ففي إعلان صادم اعترفت “إيباك” أن الوقت لم يعد ملائمًا للمداهنة والدبلوماسية وتجميل الوجوه، وأن اللوبي الصهيوني وعلى رأسه “إيباك” لديه هدف واحد يضعه نصب عينيه وهو مصلحة “إسرائيل” أولًا.
وعليه، كشفت المنظمة أنها لن تهادن باختيار من ستدعم من المرشحين، وأن قيم الديمقراطية الأمريكية لم تعد أولوية بالنسبة إليها، وتمخّض عن هذا الاعتراف دعم اللوبي لمرشحين معروفين بتاريخهم العنصري واللأخلاقي، حتى أن بعضهم يملك سجلًّا جنائيًا فقط لتأييدهم غير المشروط للسياسة الإسرائيلية الاستعمارية، ومنهم جوش هولي، ورون جنسون، وريك سكوت، مثيرة بذلك زوبعة من الانتقادات الحادة حتى بين يهود أمريكا أنفسهم.
دفعت هذه التوجهات المكشوفة لـ”إيباك” وغيرها من جماعات الضغط الأصغر حجمًا وتعارضها من قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، بالعديد من المنظمات الأمريكية لإعلان الحرب عليها، فقد أطلقت مجموعة كبيرة من المنظمات الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني الأمريكي، وعلى رأسها منظمات يهودية أمريكية مثل “إن لم يكن الآن” و”أصوات يهودية من أجل السلام”، مشروع “رفض إيباك”.
حيث انطلق المشروع بعد السابع من أكتوبر بهدف حضّ المجتمع الأمريكي على التصويت لأسماء ومرشحين ترفضهم “إيباك” وتحاربهم، ومن ناحية أخرى حضّ أعضاء الكونغرس على رفض تدخل “إيباك” ومساهماتها المالية لمكاتبهم وحملاتهم الانتخابية.
قبيل شهر واحد من الانتخابات الرئاسية الأمريكية وحرب الإبادة غير المسبوقة في التاريخ تدخل عامها الثاني، تبدو معركة الوعي الآن على أشدها بين أنصار القضية الفلسطينية وجماعات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، حيث إن المسألة بينهما هي مسألة مصيرية وليست مجرد مصالح ومكاسب، والأيام القادمة كاشفة لنتائج الاستقطاب الحاد بين القطبين المتعاديين، والتي ستكون لها نتائج وتداعيات دراماتيكية على مسار الأحداث في الولايات المتحدة والشرق الأوسط على السواء.