ترجمة وتحرير: نون بوست
أثار احتمال مقتل الصحفي خاشقجي على يد السعودية داخل محيط قنصليتها في إسطنبول ازدراء دوليا تجاه المملكة وولي عهدها محمد بن سلمان، في وقت التزمت فيه الدبلوماسية الغربية الصمت.
بالنسبة للدولة التي تريد ارتكاب جريمة، فمن الصعب أن تكون أكثر شفافية من قتل الضحية في قنصليتها الخاصة. وفي الوقت الذي تواصل فيه السعودية إنكار تورطها في اختفاء الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، داخل مركز تمثيلها الدبلوماسي في إسطنبول، تحيل جميع الأدلة التي تم جمعها حتى الآن إلى أن المملكة تتحمل مسؤولية هذه الحادثة.
يتساءل الجميع عن الذي حصل لخاشقجي، هل قتل عمدا، أم أختطف، أم قتل عن غير قصد؟ لم يتم التوصل إلى شيء إلى حد الآن رغم مرور أكثر من أسبوع عن اختفاء خاشقجي منذ دخوله القنصلية السعودية في إسطنبول، على الرغم من الاتهامات العديدة التي وجهتها الشرطة والحكومة التركية للسلطات السعودية. في شفافية غير مسبوقة ومثيرة للفضول، أثارت الشكوك حول استعمال السلطات التركية هذه القضية كأداة لأهداف معينة، قام العديد من المسؤولين الأتراك بالاتصال بوسائل الإعلام الدولية لتزويدهم بصور كاميرا فيديو المراقبة الخاصة بالقنصلية السعودية، ومدهم بتفاصيل عن الجريمة، مما خلف قدرا كبيرا من الغموض.
تواصل موقع “ميديابار” الفرنسي مع رئاسة الجمهورية ووزير الشؤون الخارجية الفرنسية لتوضيح موقفهم من هذه القضية، إلا أنه لم يتلق أية إجابة
وصل حوالي 15 سعوديًا إلى تركيا يوم الثلاثاء 2 تشرين الأول /أكتوبر على متن طائرتين خاصتين، وحجزوا عددا من الغرف في فنادق، ثم انطلقوا إلى القنصلية وغادروا منها بعد بضع ساعات نحو الرياض. وأكدت العديد من المصادر والصحافة التركية هذه المعلومات، عبر نشر صور لنحو 15 شخصا بينهم عدد من الضباط في الجيش السعودي وطبيب شرعي.
لكن ما الذي حدث خلال الفترة الفاصلة بين وصول هذا الفريق ومغادرته؟ لا زال الأمر غامضا ويحيل إلى قدر كبير من التناقض. وأفاد المحققون أن موظفي القنصلية كانوا في إجازة خلال ذلك اليوم، وشاهد آخرون سيارات سوداء أمام القنصلية ثم رأوها تغادر المكان. وقد لوح أحد المصادر بأن هنالك شريط فيديو يصور عملية قطع جثة خاشقجي بمنشار بتر، على طريقة الفيلم الأمريكي “الخيال الرخيص”. كما أفادت صحيفة تركية يومية مقربة من الحكومة أنه من المحتمل أن المعارض السعودي قد تعرض لعملية اختطاف. وقد ورد أن المخابرات الأمريكية كانت على علم مسبق بها قبل وقت وجيز.
لم يتم بعد تأكيد هذه الفرضيات من قبل السلطات التركية، وخصوصا الرئيس أردوغان، الذي لم يدلي بأي تصريح علني في هذا الصدد. ويبقى السؤال القائم: هل تتفادى السلطات التركية تقديم أي توضيحات رسمية لأن التفاصيل الخاصة بالجريمة تعد مجرد إشاعة، أم أن الحكومة التركية، التي لا تعد صديقًا للمملكة العربية السعودية، تسعى إلى إيجاد مخرج من هذه القضية؟
من جهة أخرى، لا تزال الدبلوماسيات الأجنبية تلتزم الصمت بشكل مثير للاستغراب. بعبارة أخرى، حتى وإن افترضنا أن جمال خاشقجي “اختفى” ببساطة خلال الأيام العشرة الأخيرة، لا تزال هذه الحقيقة غامضة وتستحق إجراء تحقيق شامل. لكن الأمر استغرق أسبوعًا في وزارة الخارجية الفرنسية لنشر بيان، جاء فيه “نعبر عن انشغالنا بقضية خاشقجي، ونجدد أمنيتنا أن يتم الكشف عن كل ما في هذه القضية”.
بالنسبة لقصر الإليزيه، الذي استقبل ولي العهد بن سلمان بحفاوة، خلال شهر نيسان/أبريل سنة 2018، فقد التزم الصمت. من جهته، تواصل موقع “ميديابار” الفرنسي مع رئاسة الجمهورية ووزير الشؤون الخارجية الفرنسية لتوضيح موقفهم من هذه القضية، إلا أنه لم يتلق أية إجابة. من جهتها، انتظرت للولايات المتحدة، التي تعد الحليف الأول للرياض الأمر الذي تعزز أكثر منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بدورها أسبوعاً لتلقي بيانا فيما يتعلق بقضية خاشقجي. والجدير بالذكر أن جمال خاشقجي كان يقيم في العاصمة الأمريكية، واشنطن، وينشر مقالات في صحيفة واشنطن بوست.
نجح بن سلمان في إغراء الصحفيين والحكام على الرغم من القيود الواضحة التي فرضها على برنامجه الإصلاحي
خلال يوم الأربعاء 10 من تشرين الأول/ أكتوبر، أصدر ترامب، الذي كان يصف الصحفيين “بأعداء الشعب”، بيانا تحذيريا قال فيه: ” لا يمكننا أن نتحمل مثل هذه الحوادث التي تطال الصحفيين أو أي شخص آخر. أنتظر توضيحا لهذه القضية”. وأضاف الرئيس الأمريكي، أنه “لطالما اعتقدت أن محمد بن سلمان رجل صالح”. وفي رده عن مقترح بعض نواب الكونغرس في خصوص التوقف عن بيع الأسلحة للسعودية، ذكر ترامب، قائلا: “أعتقد بأن ذلك سيضر بنا، لدينا مواطن شغل في هذا المجال ستكون عرضة للخطر”.
يبدو أن القلق الذي ينتاب رئيس الولايات المتحدة من إمكانية تدهور العلاقة مع السعودية، قد طال أيضا العديد من الدول الغربية، بما في ذلك فرنسا. وقد تجلى ذلك من خلال التصريحات المحتشمة دون أن تتساءل باريس عن الثمن الذي سيضطر محمد بن سلمان لدفعه في حال ثبتت عملية القتل. من جانبهم، يعتقد بعض المحللين والمختصين في الشأن السعودي أن الجهات التي استثمرت الكثير في دعم ولي العهد للوصول إلى السلطة، بعد الاقتناع بخطابه الإصلاحي، ستكتشف أنها قد ارتكبت خطأ يصعب تلافيه على الساحة الدولية.
في المقابل، يرى آخرون أن اختفاء جمال خاشقجي أو احتمال تصفيته يعكس ببساطة حقيقة الطبيعة الوحشية والاستبدادية التي يتميز بها بن سلمان، الذي نجح في تظليل الغرب. كما يحيل ذلك إلى أن “الأعمال”، على الرغم من ذلك، ستستمر كما كانت من قبل بين الرياض وبقية الدول الغربية.
محمد بن سلمان قادر على “التأثير” على الغرب من خلال أمرين، التجارة والإغراء
منذ أن تحول إلى أقوى رجل في المملكة العربية السعودية بفضل والده الهرم ومن خلال تنفيذ انقلاب داخل العائلة المالكة خلال شهر يوليو / تموز من سنة 2017، لم يتوقف محمد بن سلمان عن مكافأة كل من يدعمه ومعاقبة جلّ المعارضين في داخل أو خارج المملكة. ساهمت كل من الحرب الهمجية في اليمن، وعملية إيقاف النخب السعودية وتجريدهم من ممتلكاتهم على طريقة عصابات المافيا في تشويه سمعة في بن سلمان، فيما كشف سجنه لناشطين في حقوق الإنسان، وخطفه لرئيس الوزراء اللبناني عن جانبه المظلم. في المقابل، أظهرت كل من خطته لإصلاح الاقتصاد السعودي وتجهيزه لمرحلة ما بعد النفط، والسماح للمرأة بالقيادة وإعادة فتح دور السينما وتشديد الضغط على التطرف الديني الوهابي، الجانب المشرق من شخصيته.
من خلال هذه الخطوات، نجح بن سلمان في إغراء الصحفيين والحكام على الرغم من القيود الواضحة التي فرضها على برنامجه الإصلاحي. في شهر تشرين الثاني /نوفمبر من سنة 2017، أورد الصحفي الأمريكي المختص في السياسة الخارجية توماس فريدمَن، الحائز على جائزة بوليتزر في مناسبتين، أن بن سلمان يعد “وريث الربيع العربي”. أما الآن، يعتقد فريدمَن، الذي يعد من بين أصدقاء خاشقجي، أن هذه الحادثة تمثل “مصيبة وكارثة” حلت ببن سلمان والمنطقة، الأمر الذي سيتسبب في هروب المسؤولين والمستثمرين الغربيين.
دائما ما يتريث الغرب عندما يتعلق الأمر بأخذ موقف إزاء ما يحصل في هذه البلدان أو بشأن خطأ ارتكبوه خارج حدودهم
من جهته، يرى المحافظ الجديد والمستشار السابق لجورج بوش، إليوت أبرامز، في بن سلمان “المستبد المستنير”. كما أكد أبرامز أن هذه القضية ستحدث “ضررا لا يمكن إصلاحه”، سيطارد المملكة العربية السعودية وقيادتها. ووفقا لهؤلاء المختصين، لن تتمكن المملكة ولا حاكمها من تجاوز هذه الحادثة التي كانت أقرب إلى توجيه ضربة على نحو صريح للمعايير الدبلوماسية والإنسانية. ولم يرتكب خاشقجي أي ذنب سوى انتقاد سياسات معينة للسعودية، كما أن زيارته إلى القنصلية كانت فقط من أجل تسوية وثائق إدارية خاصة بزواجه.
في الأثناء، أورد الأستاذ في معهد الدراسات السياسية بباريس، ستيفان لاكروا، أن “بن سلمان بدأ حملته الترويجية عبر فتح قنوات تواصل مع العالم الغربي، وذلك من خلال تنظيم رحلات إلى الخارج ونشر إعلانات عن الإصلاحات الكبرى. ولكن هذه الصورة أخذت تتهاوى الآن، لتكشف عن سلسلة من الأحداث التي لا تعد قضية خاشقجي إلا أحدث حلقة منها، والتي تشمل الحرب على اليمن، والمناوشات مع كندا، ورفض أي أوجه النقد. ويبقى السؤال المطروح ما إذا كانت المملكة العربية السعودية في حاجة حقاً إلى تلميع صورتها؟ هذا ليس مؤكدا”.
دونالد ترامب يحمل لافتة تظهر أرباح الولايات المتحدة من مبيعات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية، في حضور محمد بن سلمان في البيت الأبيض خلال شهر آذار/ مارس 2018.
يعتقد العديد من المراقبين أن هذه الحادثة مهما كانت بشعة، فلن تؤثر بشكل دائم على علاقات الدول الغربية مع المملكة العربية السعودية. وفي هذا السياق، ذكر مارك لينش، المختص في العلاقات الدولية في جامعة جورج واشنطن أن “الولايات المتحدة وبلدان أخرى تأبى التحدث منذ سنوات عن القمع المستمر في المملكة العربية السعودية، كما أن إدارة ترامب مصابة بهوس إزاء إيران أكثر من اهتمامها بحقوق الإنسان أو الحريات، حيث لا تسترعي هذه المسائل اهتمامها كثيراً… في الواقع، سيكون صادما إذا لم تستغل الإدارة الأمريكية حادثة اختفاء خاشقجي لمراجعة سياسة الولايات المتحدة تجاه الرياض”.
منذ اعتلائه السلطة، اتسم أسلوب بن سلمان بالازدواجية ليضمن دعم، وصمت الديمقراطيات الغربية. ويتمثل الأسلوب الأول في اعتماد النموذج الكلاسيكي القائم على دبلوماسية مبيعات النفط والأسلحة. ويجعل ذلك من المملكة العربية السعودية بائعا للذهب الأسود وزبون هاما في مجال الأسلحة، حيث لا تستطيع الولايات المتحدة وشمال أمريكا الاستغناء عنها بسهولة. وقد اعترف دونالد ترامب بأن المملكة العربية السعودية “تؤمن الوظائف لنا”. وقد لاحظنا أيضا تردد فرنسا في استنكار قتل المدنيين في الحرب الدائرة باليمن، كما لم تبد باريس تضامنها الكامل مع كندا عندما أقدمت على انتقاد سجن أحد الناشطين حقوق الإنسان السعوديين.
لن يؤثر أي أمر على سيطرة ابن سلمان المطلقة على دواليب السلطة في المملكة ولا على براءته من أي جرم على المستوى الدولي التي منحها إياه حكام العالم الغربي، حيث يدينون له بالكثير من الأمور
يكمن الأسلوب الثاني، الذي يتبعه بن سلمان، في سياسة الإغراء، حيث لعب الأمير الشاب، الذي يبلغ من العمر 33 سنة، ورقة الإصلاح، بغض النظر عن مدى نجاحه في تحقيق النتائج المنتظرة. ويعتبر بن سلمان الرل الذي بإمكان الغربيين أن يعتمدوا عليه في المنطقة. ويعد بن سلمان حليفا لجاريد كوشنر، صهر ترامب، حيث قلل من حدة الهجمات ضد إسرائيل وتدخل في خطة السلام الأمريكية بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
تعهد ولي العهد السعودي بانفتاح الاقتصاد المحلي على الاستثمار الأجنبي، وقام بجولات في أوروبا والولايات المتحدة، وأضحى منافسا رئيسيا لطهران، الأمر الذي أثار إعجاب الأمريكيين والمحافظين الجدد. بالإضافة إلى ذلك، حظي بن سلمان بإعجاب إيمانويل ماكرون، بعد أن أطلق سراح رئيس الوزراء اللبناني عقب لقائه في الرياض، ودعمه لمؤتمر إنساني زائف عن اليمن في باريس في شهر حزيران/ يونيو من سنة 2018.
أفاد ستيفان لاكروا، أن “هناك معتقد سائد في صفوف الحكومات الغربية، وخاصة ضمن وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية، يتمثل في فوز الثورة المضادة على الثورات العربية التي قامت سنة 2011، وأنه يجب علينا التعامل مع هذه الأنظمة، سواء كانت المملكة العربية السعودية أو مصر… ودائما ما يتريث الغرب عندما يتعلق الأمر بأخذ موقف إزاء ما يحصل في هذه البلدان أو بشأن خطأ ارتكبوه خارج حدودهم”.
في الوقت الراهن، لا يبدو أن هناك ما يقف في وجه بن سلمان، ما يعطي شرعية لمواقفه. وإلى حد الآن، وبغض النظر عن الممارسات التي يقوم بها، لن يؤثر أي أمر على سيطرته المطلقة على دواليب السلطة في المملكة ولا على براءته من أي جرم على المستوى الدولي التي منحها إياه حكام العالم الغربي، حيث يدينون له بالكثير من الأمور. ولكن هل سيؤدي اختفاء (أو اغتيال) جمال خاشقجي إلى تغيير هذه المعادلة المميتة؟ ستبقى خذه المسألة موضع شك.
المصدر: ميديابار الفرنسية