تترقب الأوساط السياسية في الجزائر ما ستؤول إليه العلاقات مع فرنسا بعد وصول اليمينيين إلى رئاسة الحكومة بقيادة ميشال بارنييه، خاصة بعد إعلان وزير داخليته برونو روتايو تأييده لمراجعة اتفاقية الهجرة لعام 1968 الموقعة بين البلدين، وهو ما سيزيد من حالة الجفاء والتوتر التي تطبع علاقات البلدين في الفترة الأخيرة بعد إعلان باريس تأييدها للمقترح المغربي لحل النزاع في الصحراء الغربية.
وفي السنوات الأخيرة، أصبحت العلاقات الجزائرية الفرنسية تسير على نسق توتر دائم رغم الهدوء الذي تعرفه من فترة إلى أخرى، ولم تنفع الاتصالات المتواصلة بين رئيسي البلدين في حلحلتها، بالنظر إلى وجود طرف في الإليزيه معادٍ للجزائر، وفق ما يقول سياسيون في البلد المغاربي، وذلك رغم شبه الخطوة التي حققت في مجال معالجة ملف الذاكرة الذي يبقى حجر الزاوية في تعزيز العلاقات بين البلدين.
إعلان صريح
رغم محاولة رئيس الحكومة الفرنسية ميشال بارنييه إظهار نفسه في حالة السياسي المعتدل لتفادي لجوء اليسار الذي يحوز على أغلبية في البرلمان إلى قرار حجب الثقة عن حكومته، بالنظر إلى الخلافات العميقة بين الجانبين بخصوص عدة قضايا في مقدمتها ملف الهجرة، فإن وزير داخليته لم يتردد في أولى خرجاته في الإعلان صراحة عن مراجعة قانون الهجرة، وذكر بالخصوص اتفاقية الهجرة لعام 1968 التي تحكم العلاقات بين البلدين.
وقال برونو روتايو في مقابلة تلفزيونية مع قناة “تي أف 1” الفرنسية إنه متمسك برأيه بشأن ملف الهجرة، وفي مقدمته ضرورة إلغاء اتفاقية الهجرة الموقعة في ديسمبر/كانون الأول 1968 مع الجزائر، كونه يعترض على استمرار تفعيلها.
وأضاف روتايو: “هذا موقفي، لكنني لست وزير الخارجية.. قرار إلغائها ليس بيدي، حتى لو كنت مؤيدًا لذلك”.
ولم يعلق وزير الخارجية الفرنسي على تعليقات زميله في الحكومة الهجينة التي لم تتشكل إلا بعد أسابيع من المشاورات بين الرئيس إيمانويل ماكرون والأحزاب السياسية، في سابقة تعيشها باريس.
ومنذ أول يوم تسلم مقاليد وزارة الداخلية، أظهر روتايو عدم حيادته عن سياسة اليمين المتشدد، حيث تعهد بـ”إعادة النظام” وفرض السيطرة على ملف الهجرة، وفي أول زيارة ميدانية له بعد ساعات من تسلمه منصبه، توجه إلى مركز الشرطة في لاكورنوف، إحدى ضواحي سان دوني (شمال باريس)، وأكد على سياسته الصارمة تجاه الهجرة وتعهد بأنه سيستخدم كل الوسائل المتاحة قانونيًا لتكثيف عمليات ترحيل المهاجرين، وخاطب رجال الشرطة قائلًا: “هذه الزيارة الميدانية الأولى التي أقوم بها، وهي من أجلكم”.
وتتهم منظمات حقوقية الشرطة الفرنسية بارتكاب مخالفات ضد المهاجرين تصل حتى ارتكاب عنف، ولعل قضية قتل القاصر نائل ذي الأصول الجزائرية أكبر دليل على ذلك، حيث لم ينل الشرطي الذي ارتكب جريمة القتل العمدي جزاءه حتى الآن كما يجب.
ويتخوف مراقبون من أن يحذو ريتايو حذو الرئيس السابق نيكولا ساركوزي عندما كان وزيرًا للداخلية، إذ زار مركز الشرطة نفسه قبل 20 عامًا وتعهد آنذاك باستخدام آلة “الكارشير” للتعامل الحازم مع الجريمة والعنف في تلك الضواحي، من خلال الادعاء بـ”تعزيز الأمن وزيادة وجود الشرطة”.
وما يزيد من تخوف الجزائريين والمهاجرين في فرنسا مما ستفعله الحكومة الفرنسية اليمينية هو التناسق في الأفكار بين رئيس الحكومة ووزير داخليته، فميشال بارنييه الذي يعد من بين مهندسي قانون الهجرة المتشدد في مجلس الشيوخ الفرنسي قال: “سنقوم بأشياء عملية، مثل جميع جيراننا، للسيطرة والحد من الهجرة”، وهذا يعني أنه سيسير على خطى رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا مليوني اليمينية.
وترتكز خطة الحكومة اليمينية بشأن الهجرة على “استخدام سلطة القانون للسيطرة على الوضع، من خلال العمل على تسوية أوضاع المقيمين بطريقة محدودة ومنح الجنسية بشكل مقتصد، مع تكثيف عمليات الترحيل، وإرساء قانون جديد أكثر صرامة تجاه المهاجرين، وتشكيل تحالفات أوروبية مع الدول التي تسعى إلى تبني سياسة هجرة صارمة، بهدف مراجعة النصوص القانونية الأوروبية التي لم تعد تتناسب مع الواقع الحالي”.
ويشدد ريتايو على ضرورة إعادة تجريم الإقامة غير الشرعية التي تم إلغاؤها خلال حكم الرئيس اليساري فرانسوا هولاند، وذلك بتجريم الدخول غير القانوني إلى فرنسا ليصبح جريمة يعاقب عليها القانون.
وفي الحقيقة، سعت الحكومات الفرنسية الأخيرة منذ عهد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي لما كان وزيرًا للداخلية على تشديد التعامل مع المهاجرين، واستطاع الجزائريون بفضل الميزات التي تحفظها لهم اتفاقية 1968 من أن لا تطبق عليهم مجمل الإجراءات المتشددة، لكن وصول الحكومة اليمينية الحالية يثير قلقًا أكبر، بالنظر إلى أن وزير الداخلية الفرنسي لا يتحدث عن مراجعة لبعض بنود الاتفاقية إنما بإلغائها كلية، وهو ما ترفضه الجزائر جملة وتفصيلًا.
مخاوف من تضييقات على المهاجرين في فرنسا
لم تمر تصريحات وزير الداخلية الفرنسي وسياسة الحكومة الجديدة بشأن الهجرة مرور الكرام، فقد اعتبر النائب بالبرلمان الجزائري الممثل للجالية الجزائرية بالخارج عن المنطقة الأولى بباريس أن الطابع اليميني لحكومة بارنيه واضحًا ولا يمكن إخفاؤه.
وقال يعقوبي في مقابلة مع صحيفة “الخبر” الجزائرية إنه من “المتوقع أن يواجه المهاجرون في فرنسا، تضييقًا أكبر مع توجهات الحكومة تحت قيادة وزير الداخلية برونو روتايو، فهو معروف بانتمائه إلى اليمين المحافظ، ويدعو إلى سياسة صارمة تجاه الهجرة”.
وأشار يعقوبي إلى أن الحكومة الجديدة ستسعى إلى “تصعيد الضغط على الجزائر بخصوص إصدار التراخيص القنصلية لإعادة المهاجرين غير الشرعيين، حيث يُتوقع أن تتخذ الحكومة الفرنسية إجراءات أكثر تشددًا”، بالنظر إلى أن “روتايو، وغيره من الشخصيات اليمينية، يرون أن الجزائر لا تبدي تعاونًا كافيًا في هذا المجال، ما قد يدفع فرنسا إلى تقليص عدد التأشيرات، بما في ذلك التأشيرات الدبلوماسية، كما أشار إليه السفير الفرنسي السابق، كزافييه دريانكور، في كتابات صحفية. هذا التشدد قد يزيد من صعوبة الدفاع عن حقوق المهاجرين، خاصة إذا واصلت الحكومة اتباع سياسات أكثر حدة تجاه الهجرة”.
وشكل ملف التأشيرات والهجرة على الدوام خلافًا بين البلدين رغم وجود اتفاقية 1968 التي تضبط بوضوح تسيير ملف تنقّل الأشخاص بين البلدين، فقبل 3 سنوات في سبتمبر/أيلول 2021 استدعت الخارجية الجزائرية السفير الفرنسي لديها احتجاجًا على قرار باريس تشديد إجراءات منح التأشيرة للجزائريين.
وقالت الخارجية الجزائرية وقتها إنها أبلغت السفير الفرنسي احتجاج السلطات الجزائرية على “قرار أحادي الجانب من الحكومة الفرنسية أثر سلبًا على حركة الرعايا الجزائريين نحو فرنسا”.
ولم يفاجئ هذا الموقف الجزائريين، بالنظر إلى أن اليمين الفرنسي توعد منذ تحقيقه تقدمًا في الدور الأول من الانتخابات البرلمانية الفرنسية، بالعمل على التضييق على المهاجرين، وعلى رأسهم الجزائريين الذين يبلغ عددهم 5 ملايين بفرنسا وفق إحصاءات غير رسمية، وذلك بالسعي لإلغاء اتفاقية 1968.
ورغم التعديلات العديدة التي مسّت اتفاقية الهجرة الموقعة في ديسمبر/كانون الأول 1968، تظل بالنسبة للجزائريين ميزة لا يمكن التنازل عنها في علاقاتهم المعقدة مع فرنسا، حيث تحكم هذه الوثيقة تنقّل وتوظيف وإقامة الجزائريين في فرنسا وتحدد مستقبل عائلاتهم.
وكانت اتفاقية 1968 تسمح للجزائريين بالسفر إلى فرنسا ببطاقة تعريف فقط ودون جواز سفر أو تأشيرات، إلا أنه تم تعديلها عام 1986 لتفرض حينها التأشيرة على الجزائريين، وذلك بعد التفجيرات التي نفّذتها حركة مجاهدي خلق في فرنسا، لتحدث تعديلات أخرى أعوام 1993 و1998 و2001 التي قلصت من الامتيازات التي كانت للجزائريين الموجودين بفرنسا، إلا أنها أبقت لهم الأفضلية في الحقوق مقارنة بباقي الدول خاصة المغاربية والعربية.
وتنص الاتفاقية بموجب تعديل عام 2001 على تسوية وضعية الجزائريين الذين يتزوجون برعية فرنسية أو أجنبية لها وثائق إقامة في باريس، وفق بند لمّ شمل الأسرة الذي يضمن لأفراد العائلة الحق في العلاج الصحي والوظيفة والتعليم، ومنح إقامة لمدة سنة قابلة للتجديد.
وتمكّن بنود الاتفاقية الجزائريين، مقارنة بباقي الأجانب، من الحصول على ما يُعرف بإقامة 10 سنوات بعد 3 سنوات من الإقامة، مقابل 5 سنوات في القانون العام الفرنسي، كما أنه بعد 10 سنوات من الإقامة بفرنسا – حال استطاع المعنيّ إثباتها – يمكن للجزائري الذي يوجد في وضعية غير قانونية الحصول آليًا على وثائق الإقامة.
كما تنصّ الاتفاقية على تسهيل منح الجنسية الفرنسية للجزائريين الذين وُلدوا في فرنسا وأقاموا بها لمدة تزيد على 8 سنوات وتابعوا تعليمًا بمدارسها، ومن بنود الاتفاقية أن تمنح السلطات الفرنسية تفضيلات في التأشيرة والإقامة للطلبة والباحثين والفنانين والأدباء وكل من له صلة بالإبداع والتأليف إن كان يحمل الجنسية الجزائرية.
تأثير إلغاء الاتفاقية على علاقات البلدين
وفي حال أقدمت الحكومة الفرنسية على محاولة إلغاء اتفاقية 1968، فإن العلاقات مع الجزائر الموجودة أصلًا على كف عفريت ستعرف تأزمًا لم تشهده سابقًا.
ولا ترفض الجزائر تعديل الاتفاقية من حيث الشكل، إلا أنها لا تقبل الغاية التي تستهدفها باريس، والتي ترمي إلى انتهاك حقوق المهاجرين الجزائريين، لذلك تصرّ على أن تكون أي مراجعة لهذه الوثيقة بالتشاور بين الطرفَين، وبما يتوافق مع المتغيرات الجديدة التي تسهّل تنقل الأشخاص لا تعقيدها وتصعيبها.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2022، خلال انعقاد الدورة الخامسة للجنة الحكومية رفيعة المستوى التي عُقدت في الجزائر، اتفق البلدان على إعادة تفعيل الفريق التقني الثنائي المكلف بمتابعة اتفاق 1968، من أجل إعداد الاتفاق التكميلي الرابع في الوقت المناسب.
وأشار الطرفان إلى أهمية وجود عمل منسَّق في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية، واستعدادهما استئناف أشكال الحوار التي شُرع فيها قبل جائحة كورونا، مع تأكيد التزامهما باحترام علاقاتهما والإطار القانوني الذي ينظم العودة والسماح بالدخول مجددًا.
وسحبت الجزائر سفيرها من باريس نهاية يوليو/تموز الماضي بأثر فوري عقب إقدام الحكومة الفرنسية على الاعتراف بالمخطط المغربي للحكم الذاتي كأساس وحيد لحل نزاع الصحراء الغربية، في سابقة لم تعرفها العلاقات بين البلدين.
ويحاول الرئيس الفرنسي تدارك هذا الموقف، بالتأكيد على عمل إدارته لبناء علاقات جيدة مع الجزائر، فقد جاء في رسالة تهنئة أرسلها إلى تبون بمناسبة فوزه بولاية رئاسية ثانية أن “العلاقات مع الجزائر تبقى استثنائية، في كل المجالات ولا سيّما منها المجال الأمني ومكافحة الإرهاب”.
وأضاف ماكرون “الحوار بين الجزائر وفرنسا، يعد أساسيًا خاصة مع تواجد الجزائر بمجلس الأمن الأممي”، وحسب ماكرون، فإن “روابط الصداقة قوية بين فرنسا والجزائر، وأنه يعتزم بحزم مواصلة العمل الطموح الذي تضمنه إعلان الجزائر، لتجديد الشراكة بين بلدينا”.
لكن الرئاسة الجزائرية التي نشرت هذه التهنئة على صفحتها في فيسبوك، لم ترفقها بصورة ماكرون إلى جانب الرئيس تبون مثلما فعلت مع باقي رسائل التهاني التي نشرتها بالمناسبة ذاتها.
ودفع هذا الموقف بالإليزيه إلى إرسال المبعوثة الخاصة ومستشارة الرئيس الفرنسي لشمال إفريقيا والشرق الأوسط آن كلير لوجوندر إلى الجزائر لتسليم رسالة من ماكرون إلى تبون.
من المؤكد أن العلاقات الجزائرية الفرنسية لن تعود إلى ما كانت عليه قبل نهاية يوليو/تموز الماضي في الوقت القريب، والدليل على ذلك أن زيارة تبون إلى فرنسا التي كانت مقررة في أكتوبر/تشرين الأول الحالي أصبحت في خبر كان حاليًا، إلا أن سعي الحكومة الفرنسية اليمينية إلى إلغاء اتفاقية الهجرة من شأنه أن ينسف أي محاولة فرنسية جديدة لتخفيف التوتر في العلاقات بين البلدين.