في أوائل التسعينات من القرن الماضي، قامت “إرين غرويل”، المعلمة الأمريكية صغيرة السن، بإحداث فارقٍ كبيرٍ في حياة طلابها المراهقين الذين يتواجدون بين ذات الجدران دون أن يجدوا طريقةً للتعايش والتأقلم وتقبّل بعضهم البعض نظرًا لكونهم ينتمون لأعراق دينية وإثنية وعرقية مختلفة في مجتمعٍ لا يزال يعاني من تاريخٍ طويل من التفرقة العنصرية والتمييز العِرقي.
ففي خريف عام 1994، في مدرسة “في مدرسة وودرو ويلسون الثانوية” في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وجدت “غرويل” نفسها لتعلّم اللغة الإنجليزية لأكثر من 150 طالبًا ممّن وُصموا بمشاركتهم وافتعالهم لأحداث الشغب والأعمال العدائية وحرب العصابات في المنطقة قبل عامين من قدوم المعلّمة.
الفيلم الصادر عام 2007 “كتّاب الحرية Freedom Writers“، يروي قصة غرويل وتجربتها في تلك المدرسة مع طلّابها الـ150، لا سيّما قصة نجاحها في تحويلٍ مجموعةٍ من الطلاب الذين تقوم حياتهم على إثارة المشاكل وافتعال المشكلات إلى مجموعة من الكتّاب الذين أصبح كتابهم ذات يومٍ من أكثر الكتب ممبيعًا في الولايات المتحدة الأمريكية.
تريلر الفيلم
باختصار، تقوم القصة الرئيسية على رحلة غرويل في إصلاح تلامذتها ومحاولتها لمساعدتهم على التخلص من آثار الصدمات النفسية التي مرّوا بها، من خلال تشجيعهم على الكتابة، تحديدًا كتابة مذكّراتهم، إيمانًا منها بأنّ الكتابة قادرة على أنْ تكون وسيلةً كاشفةً وفعّالة في مساعدة الأشخاص على الاقتراب من الواقع والتصالح معه وفهم تبعيّاته من أفكار ومشاعر وعواطف. إضافةً إلى كونها وسيلةً ناجحة في استدعاء الذكريات لفهمها وتحليلها.
تُعتبر الكتابة شكلًا من أشكال التنفيس أو التفريغ النفسيّ، وهو إطلاق العنان للمشاعر والذكريات والأفكار المكبوتة بهدف تفريغ الانفعالات والتقليص من حجمها.
بدأت غرويل رحلتها من خلال تعريف طلّابها على قصصٍ ومذكّراتٍ من التاريخ لأشخاصٍ عانوا من الصدمات المختلفة والأشكال المتنوعة من التفرقة العنصريّة. وشيئًا فشيئًا استطاع الطلّاب الشعور بالصلات التي تربطهم بكتّاب تلك القصص وتشابههم معهم. وبذلك بدأوا بتدوين مذكّراتهم الشخصية بما في ذلك قصصهم في التعاطي مع المخدّرات والكحوليات، الإساءات الجسدية والجنسية التي يتعرّضون لها، الإهمال الأسريّ والمشاكل العائلية التي يعايشونها يوميًا، وتعرّضهم للتفرقة العنصرية على أساس لون بشرتهم أو عِرقهم أو إثنيّتهم، وهكذا.
إرين غرويل مع طلابها
تروي غرويل لصحيفة “ذا أتلانتك“: “عندما دخلت إلى الفصول الدراسية لأول مرة، كان هناك 150 طفلاً يكرهون الكتابة ويكرهونني ويكرهون كل شيء. كان عليّ إيجاد كيف يمكنني جعل الكتابة والقراءة ذات صلة بهم… لهذا بدأت بالبحث عن قصص تهمّهم، قصص لأشخاص يكتبون عن أشياء ترتبط بأولئك الأطفال وبحياتهم.”
عام 1999، نشرت غرويل وطلّابها كتاب “يوميات كتاب الحرية” وهو عبارة عن مجموعة من مقالات الطلاب اليومية
ومع الوقت، تحوّلت الكتابة عند الطلاب لأسلوبٍ حياتيّ يساعدهم على التأقلم ومقاومة قسوة الحياة الحيومية بما فيها من تحديات وصعوبات، حتى تخرّجوا من المدرسة واستطاعوا الالتحاق بالجامعات، بعضهم التحق بجامعة كاليفورنيا، أو إيجاد وظائف محترمة. وفي عام 1999، نشرت غرويل وطلّابها كتاب “يوميات كتاب الحرية” وهو عبارة عن مجموعة من مقالات الطلاب اليومية. وقد أطلقوا على أنفسهم اسم “كتاب الحرية” تكريمًا لفرسان الحرية الذين عُرفوا بمحاربتهم للفصل العنصري أثناء حركة الحقوق المدنية الأمريكية.
هل يمكن للكتابة أنْ تكون علاجًا؟
شهد التاريخ الكثير من قصص المحاربين أو السجناء أو الوحيدين أو المريضين نفسيًا ممّن أنقذتهم الكتابة من صدمات الحياة التي تعرّضوا لها أو ما زالوا يتعرّضون لها. ولربّما تتساءل فعليًا عن فوائد كتابة المذكّرات، وكيف يمكن لها أنْ تساعد في فهم الواقع والاتصال به، أو عن الطريقة التي يمكن فيها للشِعر أنْ يكون شفاءً لصاحبه.
يفترض “العلاج النفسي التعبيريّ” أنّ استخدام الفنون التعبيرية المختلفة قد يكون بالفعل وسيلةً ناجعة وناجحة في المساعة على سيرورة الشفاء وتقدّمه. وتشكل الفنون التعبيرية هذه الفنون والرقص والحركة والموسيقى والرسم والشِعر والدراما والخيال. فخِلافًا للتعبير الفني التقليدي، تؤكّد هذه الأشكال خلال عملية العلاج على أهمية عملية الخلق الإبداعي في النفس البشرية.
يفترض العلاج بالكتابة أنّه من خلال التعبير الإبداعي والاستفادة من الخيال عبر الكتابة، يمكن للأشخاص تحليل أنفسهم ومشاعرهم وعواطفهم وأفكارهم وذكرياتهم المرتبطة بالاضطراب أو المشكلة النفسية
ومنا هُنا ظهر لدينا في السنوات الأخيرة ما يُعرف باسم العلاج بالرسم أو العلاج بالموسيقى أو العلاج الدرامي. أمّا العلاج بالكتابة، والذي رأيناه في فيلم “كتّاب الحرية”، فيفترض أنّه من خلال التعبير الإبداعي والاستفادة من الخيال عبر الكتابة، يمكن للأشخاص تحليل أنفسهم ومشاعرهم وعواطفهم وأفكارهم وذكرياتهم، أي أنهم يستطيعون بشكلٍ أو بآخر تحليل مكنوناتهم الذاتية المرتبطة بالاضطراب أو المشكلة النفسية التي يبحثون عن علاجها.
بكلماتٍ أخرى، تُعتبر الكتابة في العلاج النفسّ وسيلةً كاشفة وعلاجية تساعد على إظهار ما هو باطنٌ إلى السطح للتعامل معه ومحاولة فهمه. بالإضافة إلى كونها تُعتبر شكلًا من أشكال التنفيس أو التفريغ النفسيّ، وهو إطلاق العنان للمشاعر والذكريات والأفكار المكبوتة بهدف تفريغ الانفعالات والتقليص من حجمها.
وكما هو الحال في معظم أشكال العلاج، يتم استخدام العلاج بالكتابة للعمل مع مجموعة واسعة من الأمراض النفسية، بما في ذلك اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب والوحدة والغضب وعدم القدرة على مواجهة تحديات الحياة اليومية. ويأخذ هذا العلاج أشكالًا عديدة مثل كتابة المذكّرات أو الرسائل أو الحوارات أو الشِعر والقصص.
لهذا، ربما لا تستغرب في المرات القادمة من حديث أصدقائك الذين حافظوا على تقليد كتابة المذكرات منذ سنوات حين حديثهم عن دور الكتابة في فهمهم لذواتهم أو في سبرها لمكنوناتهم وإخراجها للسطح للتعامل معها بطرقٍ أكثر صحية وفعالية.