يدخل التصعيد الإسرائيلي على الجبهة اللبنانية يومه العاشر وسط مناوشات حادة بين جيش الاحتلال ومقاتلي “حزب الله” أسفرت عن سقوط العشرات بين قتلى ومصابين، وسط ضبابية تخيم على المشهد القابل للانفلات في ظل طموح نتنياهو الجنوني ومحاولة الحزب الاستفاقة سريعًا من فقدان التوازن الذي يعاني منه منذ اغتيال أمينه العام حسن نصر الله.
وبعد نحو 9 أيام كاملة من الاستهدافات الجوية لقواعد الحزب في الجنوب اللبناني، حاول جيش الاحتلال من خلالها تدمير البنية العسكرية له وتفكيك قدراته التسليحية وضرب جبهته الداخلية، دخلت المواجهات منعطفًا جديدًا وبوتيرة أسرع، حيث الاشتباك بين الطرفين من المسافة صفر.
وكان جيش الاحتلال قد اتخذ على مدار الأيام الماضية كل التجهيزات المطلوبة للقيام بعملية برية في الجنوب، زعم أنها محدودة ودقيقة، حيث نشر 5 ألوية على الحدود، بجانب قوات استطلاعية وهندسية لتنفيذ مهام خاصة، محاولًا توظيف الفراغ القيادي الذي يعاني منه “حزب الله” بعد سقوط قيادات الصف الأول وعدم اختيار قيادة جديدة له، للإجهاز على ما تبقى منه.
وفي صبيحة الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2024 قال جيش الاحتلال – بحسب تغريدة للمتحدث باسمه أفيخاي أدرعي – إن جنوده يخوضون معارك عنيفة مع مقاتلي “حزب الله” في جنوبي لبنان، وأن العملية البرية قد بدأت بالفعل، وهو ما نفاه الحزب لاحقًا على لسان مسؤول الإعلام به محمد عفيف، الذي قال إن كل الادعاءات الصهيونية بأن قوات الاحتلال دخلت لبنان كاذبة.
ومع بداية اليوم التالي مباشرة، 2 أكتوبر/تشرين الأول، بدأ الاشتباك الفعلي بين الطرفين، حسبما أشارا في بيانات رسمية لهما، لكن المؤشرات الأولى لملابسات وأجواء هذا الاشتباك وما أسفر عنه من نتائج، تشي إلى أن المعركة لن تكون مجرد نزهة كما كان يتوهم الإسرائيليون المنتشون بفرحة الانتصارات الاستخباراتية التي تحققت في العمق القيادي للحزب على مدار الأيام الماضية.. فإلى أين تذهب العملية البرية المزعومة؟
اشتباكات اليوم الأول.. رسالة إنذار
مع اليوم الأول للاشتباكات، أمس الأربعاء، يبدو أن “حزب الله” قد أحرز هدفًا مبكرًا في مرمى الاحتلال الذي لم يتوقع أن يكون الأداء بهذا المستوى بعد الضربات التي تلقاها الحزب مؤخرًا:
– أعلن الحزب تصديه لمحاولات تسلل إسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية، وتدمير 3 دبابات ميركافا في أثناء تقدمها إلى بلدة مارون الراس جنوب لبنان، فيما أقر جيش الاحتلال بمقتل 8 عسكريين بينهم 3 ضباط بعد محاولتهم التسلل لعبور الحدود.
– كشفت وسائل إعلام إسرائيلية عن إصابة نحو 39 عسكريًا إسرائيليًا خلال اليوم الأول للمواجهات على الحدود اللبنانية الفلسطينية، لافتة إلى أن عناصر “حزب الله” أطلقوا النار علي جنود الجيش من المسافة صفر، فيما ذكرت القناة 12 الإسرائيلية أن 220 صاروخًا أطلقوا من لبنان باتجاه شمال الكيان الأربعاء.
– الحزب أوضح أن مقاتليه خاضوا اشتباكات صاروخية وبأسلحة رشاشة مع قوات إسرائيلية تسللت إلى شرق مارون الراس، مضيفًا أنهم فجروا قوة مشاة إسرائيلية تسللت إلى منزل في محيط بلدة كفر كلا، بعبوة ناسفة وأوقعوها بين قتيل وجريح، كما استهدفوا تجمعًا آخر في بساتين المطلة، وثالث بين مستوطنتي مسكفعام وكفر جلعادي بالصواريخ، ورابع في مستوطنة أبيريم بصلية صاروخية، وخامس بين بلدة العديسة ومستوطنة مسكفعام، وحققوا في كل تلك الاستهدافات إصابات مباشرة.
– ومع فجر اليوم الثاني للمواجهات، الخميس 3 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن “حزب الله” أنه قصف بالصواريخ تحركات لقوات إسرائيلية في مستعمرة مسكاف عام، كما قصف بالمدفعية تجمعًا آخر في موقع حانيتا، وفي القصفين أحدث إصابات مباشرة في صفوف قوات الاحتلال، بحسب بيان له.
– وفي المقابل شنت قوات الاحتلال قصفًا عنيفًا، قُدر بنحو أكثر من 20 غارة، بالصواريخ والمدفعية والمسيرات، على الضاحية الجنوبية وعدد من مناطق الجنوب اللبناني، هذا بخلاف استهداف بعص التجمعات في بيروت بالقرب من مقر رئاسة الحكومة اللبنانية، أسفر عن استشهاد 46 شخصًا وإصابة 85 آخرين خلال الـ24 ساعة الماضية، لترتفع بذلك حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي على لبنان منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى 1928 شهيدًا، و9290 جريحًا، وفق بيان لوزارة الصحة اللبنانية.
سياق مهم
يدخل “حزب الله” تلك المعركة في وضعية مغايرة تمامًا لما كان عليه المشهد منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث ضُربت بنيته الهيكلية القيادية باستهداف الصف الأول وفي المقدمة رأس الهرم القيادي، الأمين العام للحزب حسن نصر الله، بجانب ما تعرضت له منظومته الاستخباراتية والاتصالية من زلزال مدوٍ في أعقاب مذبحة البيجرات وأجهزة الاتصال اللاسلكية، فضلًا عن تعرض جزء ليس بالقليل من قدراته التسليحية للقصف الإسرائيلي.
وأسفرت تلك الضربات التي تلقاها الحزب عن تعرضه لهزة نفسية كبيرة، لم يتعرض لها من قبل، وسط مخاوف من تداعيات ذلك على مستقبله السياسي والعسكري، المحلي والإقليمي، في ظل التطورات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة ومقاربات طهران التي قد تنطوي على التضحية بأذرعها الخارجية في مقابل الحفاظ على مشروعها النووي ونفوذ نظام الملالي بها.
وعلى الجانب الآخر يدخل نتنياهو وحكومته المتطرفة وجيشه المدجج بأحدث الأسلحة والمدعوم من أقوى جيوش العالم، منتشيًا بالانتصارات التي حققها على حساب قيادات الحزب، محاولًا توظيف المشهد واستثماره لأقصى درجة ممكنة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب يغير بها قواعد الاشتباك في المنطقة.
ومن هنا قد يجد الحزب في المعركة البرية التي أعلن نتنياهو عنها فرصته الأخيرة لاستعادة الاتزان في معادلة الردع، وتلقين الاحتلال الخسائر التي يُعيد بها قواعد الاشتباك إلى ما قبل 18 من سبتمبر/أيلول الماضي (مذبحة البيجرات)، فهي بالنسبة له باتت معركة وجود أكثر منها معركة حدود.
قدرات الحزب.. هل تسعفه؟
كثف الاحتلال الإسرائيلي من عملياته على مدار الأسبوعيين الماضيين لإيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف “حزب الله”، على المستويين، الهيكلي القيادي والتسليحي، محاولًا استغلال حالة الدوار التي يعاني منها وعدم منحه أي فرصة لالتقاط أنفاسه أو ترتيب بيته من الداخل.
كما دخل الاحتلال في سباق مع الزمن للإجهاز على ما تبقى من الحزب قبل استفاقته، مستغلًا مقاربات طهران في عدم التصعيد والحفاظ على مشروعها ونفوذها السلطوي، وفي نفس الوقت الدعم الأمريكي المطلق وحالة السيولة السياسية والأمنية التي تحياها المنطقة، وممارسة أقصى درجات الضغط على الأطراف الإقليمية كافة، حكومة ميقاتي ودول الطوق وبعض حلفاء بيروت من المعسكر الغربي، للضغط على الحزب وتجريده من ترسانته التسليحية وضرب حاضنته الشعبية.
لكن الحزب ورغم كل تلك الضربات شدد على الالتزام بمساره كجبهة إسناد للمقاومة في غزة، مواصلًا عملياته واستهدافاته للداخل الإسرائيلي، حتى وإن تراجع مستواها وزخمها عما كانت عليه في السابق، مستندًا إلى ما لديه من ترسانة تسليحية وبشرية من الصعب القضاء عليها بالطريقة الإسرائيلية.
ويمتلك الحزب صواريخ متطورة، يتجاوز مدى بعضها 300 كيلومتر، مثل صاروخ “فاتح 110” الذي قصف به تل أبيب أول أمس، بجانب أخرى يصل مداها إلى 10 كيلومترات مثل صواريخ “بركان” و”فلق”، وثالثة يصل مداها إلى 100 كيلومتر مثل “فجر 3″ و”فجر5″ و”رعد 2″ و”رعد 3″ و”خيبر 1” و”زلزال 2″، علاوة على ترسانة كبيرة من الطائرات المسيرة مثل “مرصاد-1″ (مداها 200 كيلومتر)، و”أيوب” (مداها يصل إلى 1600 كيلومتر)، كما يمتلك مسيّرات انتحارية استخدمها في الهجمات المتتالية على شمال “إسرائيل”.
هذا بجانب امتلاك الحزب لشبكة أنفاق واسعة، تربط بين الجنوب والشمال الإسرائيلي، إضافة إلى البيئة الجغرافية التي تتميز بالتضاريس الجبلية الوعرة، والتي يجيد مقاتلو “حزب الله” التعامل معها بشكل جيد، ما يمنحه الأفضلية في المواجهات المباشرة مع قوات الاحتلال، إضافة إلى حرب العصابات التي اعتادوا عليها على مدار سنوات وحققوا خلالها انتصارات عدة.
لكن على الجانب الآخر، يمتلك جيش الاحتلال قدرات تسليحية ربما تكون الأقوى في الشرق الأوسط، ورغم ما تعرض له على مدار عام كامل من الحرب في غزة من استنزاف لمعظم تلك القدرات، فإن أسراب الدعم الأمريكي والغربي لم تتوقف منذ اليوم الأول للمعركة، وهو ما يساعده على الاستمرار لأطول فترة ممكنة.
وفي الأيام الأخيرة أعلنت كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا عن دعمها الكامل عسكريًا لجيش الاحتلال في معركته مع “حزب الله”، وهو ما سيكون له ارتداداته بطبيعة الحال على المواجهة ميدانيًا، خاصة بعد خروج طهران بعيدًا عن حلبة المواجهة المباشرة مع الاحتلال، ما يمنح الأخير أريحية كاملة في التعامل دون أي ضغوط خارجية.
ماذا عن العملية البرية؟
كشفت اشتباكات اليوم الأول من المواجهات بين “حزب الله” وجيش الاحتلال أن العملية البرية في جنوب لبنان لن تكون نزهة خلوية كما كان يتخيل الإسرائيليون، وأن الحزب رغم ما تعرض له من ضربات ما زال يمتلك الحد الأدنى من القدرات التي تؤهله للتصدي والمواجهة.
ثمة مؤشرات تذهب باتجاه أن العملية البرية في الجنوب لن تكون معركة خاطفة، تنتهي في غضون أيام، كما ذهب محللون استنادًا لمؤشرات الأسبوعين الأخيرين، إذ من المرجح أن تمتد لفترة طويلة، ليس شرطًا أن تكون سيناريو مكرر للحرب في غزة التي شارف عامها الأول على الانتهاء، يتوقف ذلك على عدد من العوامل:
أولها: أداء “حزب الله”.. يحدد الأداء السياسي والعسكري للحزب الكثير من مستقبل تلك المعركة، فإذا استطاع لملمة أوراقه مرة أخرى وترتيب البيت من داخله وابتلاع الضربة الأخيرة واستعادة التوازن سريعًا، مستندًا إلى ما تبقى لديه من ترسانة تسليحية، فإن الأمر قد يكون صعبًا على الاحتلال في حسم تلك المواجهة سريعًا، وبالأحرى يمكن القول إن أداء الحزب هو الترمومتر الذي سيقيس بشكل دقيق مستوى التحرك الإسرائيلي.
مع الوضع في الاعتبار أن اشتباكات اليوم الأول ونجاح الحزب في التصدي لمحاولات التوغل البري في الجنوب، رغم ما تعكسه من مؤشرات عامة، فإنه لا يمكن اعتبارها معيارًا دائما لتقييم المشهد، فالمعركة طويلة وتحتاج للاستمرار على ذات الأداء والتصدي وإيقاع الخسائر في صفوف الاحتلال، حينها قد تتغير المعادلة ويجد نتنياهو نفسه، وأمام ضغوط الجيش والشارع والنخبة، مجبرًا على إعادة تقييم المشهد.
ثانيها: موقف جبهات الإسناد الأخرى.. منح الاحتلال الأريحية الكاملة في الاستفراد بـ”حزب الله” والجنوب اللبناني قد يسهل من إنهاء العملية في ظل الفوارق العسكرية الشاسعة، لكن انضمام جبهات الإسناد الأخرى في اليمن والعراق وغزة وربما إيران بشكل غير مباشر، قد يشتت من قوة جيش الاحتلال ويربك حساباته كما فُعل الأمر في غزة.
ثالثها: الضغوط الدبلوماسية.. وهذا منوط بدول الطوق والقوى الإقليمية وما إذا كانت ستكثف من تحركاتها وجهودها للضغط على حلفاء “إسرائيل” من أجل وقف إطلاق النار وفرض التهدئة وتجنيب المنطقة حربًا واسعة ليست في صالح أحد، وذلك بالعودة إلى بوصلة المشهد وقاعدة ارتكازه الأساسية، الحرب في غزة، وضرورة التوصل إلى اتفاق يُنهيها بشكل كامل بما يترتب عليه تهدئة كل الجبهات.
رابعها: الجبهة الداخلية الإسرائيلية.. وهذا يعتمد على العوامل الثلاث الأخرى، فإذا ما تحركت بشكل متوازن ومتوازي، فإنها في النهاية ستحول الجبهة الداخلية الإسرائيلية إلى منصة ضغط إضافية على نتنياهو وحكومته، استنادًا إلى أن جنوب لبنان ليس قطاع غزة، و”حزب الله” ليس حماس، ومن هنا قد تشكل تلك الجبهة ورقة ضغط قوية إذا ما استشعر الشارع الإسرائيلي خطورة الوحل اللبناني.
وفي الأخير.. من المبكر جدًا تقييم مآلات المعركة البرية في الجنوب اللبناني، رأسيًا وأفقيًا، في ضوء تعدد الخيوط وتشابكها، وإن كانت المؤشرات التي تعكسها مواجهات اليومين الأوليين تذهب باتجاه أن العملية لن تكون سهلة، وأنها مختلفة شكلًا ومضمونًا عن التصورات التي فرضها النجاح الاستخباراتي الناجم عن اغتيال نصر الله، فقد تكون الجولة الأخيرة في حسم نتنياهو لتلك المعركة، أو الفخ الذي يطيح به وحكومته خارج المشهد.