جنحت الكويت لرفع مستوى تعاونها الاقتصادي الإستراتيجي متعدد الأقطاب، من خلال الانضمام إلى مشروع الصين الاقتصادي السياسي الإستراتيجي المذكور باسم “حزام واحد ـ طريق واحد”، فأثارت، على الأرجح، غضب النسر الأمريكي الذي ترجم ذلك من خلال سحب منظومة “الباتريوت” من أراضيها.
ولم يلبث الأمر حتى حل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ضيفًا على الكويت، للنظر في ضرورة التوصل إلى تسوية بشأن الحقول المختلف عليها على الحدود المشتركة، ما أثار تحركًا كويتيًا سريعًا نحو سد حالة الفراغ التي صنعها الانسحاب الأمريكي، في سبيل مواجهة أي تحرك عسكري أو أمني من طرف أحد الجيران.
بداية التقارب الملموس الواضح بين الطرفين، كانت في مارس/آذار 2017، حيث حل أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، ضيفًا على أنقرة، تلبيةً لدعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي قلد الأمير “وسام الدولة”، الأرفع في تركيا، وفيما كان التقارب اقتصاديًا من خلال توقيع اتفاقيات تجارية متنوعة، تشمل رفع مستوى التعاون التجاري في مجال الطاقة والبنية التحتية والأيدي العاملة، يبدو أن الطرفين وجدا فائدة في مواصلة وتطوير التعاون الذي يصل اليوم إلى مستوى التعاون العسكري المشترك.
وقعت الاتفاقية بين رئاسة أركان الجيش الكويت ونظيرتها التركية، الأربعاء 10 من أكتوبر/تشرين الأول 2018، بهدف اتباع خطة تعاون دفاعي مشترك خلال عام 2019.
لا شك أن الانسحاب الأمريكي والتخوف من إثارة إحدى الدول الجارة لنزاعات لا تقدر الكويت على مواجهتها وحدها، السببان الأساسيان لظهور هذه الخطوة المهمة في شق مسار تعاون إستراتيجي للسطح
وتعقيبًا على الاتفاقية، أشارت إدارة التوجيه المعنوي في الجيش الكويتي، في بيانٍ صدر عنها، إلى أن توقيع الاتفاق جاء في إطار مواصلة التنسيق العسكري المشترك الرامي لتحقيق المزيد من الانسجام وتبادل الخبرات وتوحيد الجهود، وعلى الأرجح، يقصد البيان في جملة “مواصلة التنسيق العسكري المشترك”، توقيع الاتفاقية بعد عقد 5 اجتماعات للجنة التعاون العسكرية الكويتية التركية.
عوامل التعاون المشترك
لا شك أن الانسحاب الأمريكي والتخوّف من إثارة إحدى الدول الجارة لنزاعاتٍ لا تقدر الكويت على مواجهتها وحدها، السببان الأساسيان لظهور هذه الخطوة المهمة في شق مسار تعاون إستراتيجي للسطح، لكن يبدو أن عوامل أخرى ساهمت في خلق روح المبادرة لدى الطرفين نحو التوجه لشق هذا المسار:
أولًا: تعاون وفقًا للميزة المطلقة
تقوم العلاقات الثنائية بين الدول على مبدأ “تبادل المصالح”، وقد يتم تبادل المصالح بين الطرفين وفقًا “للميزة المطلقة” التي تعني إنتاج كل طرف لمنتجات، أو تملك كل طرف لقدرات غير موجودة عند الآخر، أو “الميزة النسبية” التي تعني إمكان إنتاج الطرفين لذات المنتج أو امتلاكهما لذات القدرات، لكن يتميز كل طرفٍ نسبيًا في أحد المنتجات أو القدرات، لذا يميلان لتحقيق تعاون يقوم على تخصص كل منهما في ميزته النسبية، وبذلك يصلان لتعاون مشترك يحقق تبادل لهذه الميزة.
يتجلّى الارتباط المشترك للطرفين في نقطة المواقع الإستراتيجية، في محاذاتهما للعراق وتشكيلهما منافذ بحرية دولية للعراق نحو الخارج
وفي الحالة الكويتية ـ التركية، يبدو أن “الميزة المطلقة” هي التي دفعت الطرفين لتحقيق التعاون المتبادل الذي يبدو أنه قد يصل لاعتمادية متبادلة وثيقة على المدى البعيد، ففي حين تملك الكويت كميات كبيرة من النفط الخام غير موجودة لدى تركيا، تملك تركيا قدرات عسكرية وأيدي عاملة وقدرات في إنشاء البنية التحتية لا تملكها الكويت، وهذا ما شكل مفتاح التعاون بين الطرفين، إذ يمكن لتركيا من خلال التقارب من الكويت، الحصول على مصدرٍ جديدٍ للطاقة، ويمكن للكويت في ظل توجهها نحو تقليل الاعتماد على المصادر الريعية وخلق استثمارات تنموية وتوفير تعاون اقتصادي وأمني وسياسي متنوع، أن تستفيد من قدرات تركيا المطلقة في ذلك، ما يخلق علاقات تكاملية بين الطرفين.
ثانيًا: المواقع الاستراتيجية
يتجلّى الارتباط المشترك للطرفين في نقطة المواقع الإستراتيجية، في محاذاتهما للعراق وتشكيلهما منافذ بحرية دولية للعراق نحو الخارج، ويجمع الطرفين “مصالح بينية متبادلة” فيما يتعلق بالملف العراقي، حيث يشتركان في نقطتي مواجهة النفوذ الإيراني “الشيعي” المتنامي في العراق، واحتواء الأزمات الفاعلة في العراق الذي يحاذيهما، ويشكّل أهمية كبيرة لأمنهما القومي.
لقد ظهر، بعد زيارة الأمير الكويتي لتركيا في العام الماضي، توجه الكويت نحو إظهار ليونة في التعامل مع الملف العراقي، شمل تقديم مساعدات للمدن العراقية واحتضان مؤتمر إعادة إعماره، وفي الغالب، كان لتركيا دور في إقناع الكويت بإحراز دور فاعل في العراق، كونها جارة إستراتيجية له، فهي تسيطرة على بوابته الدولية المباشرة الوحيدة، وبتعاون الطرفين فائدة متبادلة لاستغلال هذا الموقع في تحقيق مصالحهما المشتركة فيما يخص العراق.
ثالثًا: الاستفادة من البراعة الدبلوماسية بشكلٍ مشترك
للكويت براعة كبيرة في تقريب وجهات النظر واحتواء الأزمات، فقد لعبت دورًا كبيرًا في إنقاذ مجلس التعاون الخليجي من السقوط، عشية احتدام الخلاف السياسي بين الرياض والدوحة عام 2014، جراء اختلاف وجهات نظرهما تجاه قضية عزل الرئيس المصري محمد مرسي، كما أنها برعت في تجنيب قطر عمل عسكري مضاد من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، كان على وشك الحدوث، بحسب ما صرح به أمير الكويت سابقًا.
تفيد هذه الاتفاقية تركيا بتحقيق ترويج دعائي قوي لصيتها العسكري وصناعاتها الدفاعية حول العالم
إلى جانب البراعة الدبلوماسية للكويت، تتجلّى براعة تركيا الدبلوماسية في تطويع عضويتها في حلف “الناتو”، وأهميتها الجيوإستراتيجية بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي، في توجيه كم كبير من التحرك الغربي في المنطقة، تجاه ما يخدم مصالحها وحلفائها، وبتنسيق الطرفين لحراكهما الدبلوماسي قد يحققان الكثير من المصالح المشتركة.
رابعًا: توجه تركي لتأسيس ميزان قوي في الخليج
تتحرك الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والبحرين، بشكلٍ مشترك، نحو تأسيس عددٍ من المعادلات الفاعلة في المنطقة، وفيما بقيّت قطر، بوضوح، خارج هذه المعادلات، حاولت الكويت، دومًا، إظهار موقف معتدل وحيادي منها، لكن يبدو أنها استقت أن الأفضل تحديد موقف قوي ضد أي تحرك قد يصيبها من توجه مثلث البحرين ـ الإمارات ـ السعودية، وبالتقاط تركيا لهذا التوجه، أظهرت، على ما يبدو، توجهًا جادًا لتأسيس ميزان مثلثي قوي في الخليج يجمعها بقطر والكويت، وبالتالي يوازن تحرك المثلث الآخر الذي لا يصب في صالحها.
خامسًا: الترويج للصيت العسكري التركي
تفيد هذه الاتفاقية تركيا بتحقيق ترويج دعائي قوي لصيتها العسكري وصناعاتها الدفاعية حول العالم، لا سيما بعد تأسيسها لقاعدة عسكرية في الصومال وقطر، وتحقيق انتشار فاعل في أفغانستان والعراق وسوريا.
توقيت الاتفاقية
يتزامن توقيت إبرام الاتفاقية مع تعاظم التهديدات بالأمن الاقتصادي والحدودي للكويت من بعض الدول الجارة، ومع وقوع تغييرات جيوسياسية إستراتيجية تخدم أقطاب متعددة، ما جعلها بحاجة ماسة لتعزيز تحركها التحالفي على الصعيدين الدولي والإقليمي، وبإثبات تركيا قدرتها على تحقيق ذلك الأمر إبان الأزمة القطرية، يبدو أنها قد تخدم الكويت في إحراز ما تصبو إليه.
في الختام، تشهد الساحة الدولية تفاقمًا واضحًا في الاتجاه نحو تعدد القطبية والتخلص من القطبية الأمريكية أحادية الهيمنة، وفي إطار ذلك، تسعى عدد من الدول إلى تأسيس ميزان قوى يكفل لها عدم الاعتماد على طرفٍ واحدٍ في مواجهة المخاطر المحيطة بها، وبذلك جنحت لرفع مستوى تعاونها الاقتصادي الإستراتيجي متعدد الأقطاب.