بينما يتصاعد الضغط الدولي على الرياض على خلفية قضية اختفاء الصحفي جمال خاشقجي، وسط مطالب بفرض عقوبات وإعادة النظر في مستقبل العلاقات، خرجت بعض الأصوات المحسوبة على النظام السعودي لترد على التهديدات الغربية لا سيما الأمريكية التي وصلت إلى حد التلويح بإنزال “عقوبات شديدة” حسبما جاء على لسان الرئيس دونالد ترامب.
تركي الدخيل مدير قناة “العربية” وأحد أبرز المقربين من ولي العهد محمد بن سلمان، استعرض في مقال له أمس، قائمة الردود التي من الممكن أن ترد بها المملكة على أمريكا حال فرض عقوبات على بلاده، مستبقًا بذلك ما ستسفر عنه التحقيقات من نتائج، ملوحًا أنه في حال قيام الإدارة الأمريكية بترجمة تلك التهديدات إلى قرارات واقعية فإن “واشنطن تطعن نفسها” على حد قوله.
الدخيل وإن تراجع نسبيًا عما أورده في مقاله بدعوى أن ما كتبه يمثله شخصيًا وليس شرطًا أن يمثل الموقف الرسمي للسعودية، إلا أن قائمة التهديدات أثارت الكثير من الجدل خاصة أنها تتضمن انقلابًا واضحًا في مرتكزات المملكة الثابتة تاريخيًا، كالعداء مع إيران وحزب الله، هذا بخلاف التلويح بفتح الأبواب على مصراعيها لروسيا والصين كبديلين للولايات المتحدة.. فهل تستطيع الرياض تنفيذ مثل هذه التهديدات؟
30 إجراءً سعوديًا
ألمح الدخيل في مقاله إلى 30 ردًا من الممكن أن تتخذهم السعودية حال فرض عقوبات أمريكية ضدها، معظمها يتعلق بقرارات اقتصادية قد تلجأ إليها المملكة ما قد يتسبب في إحداث كارثة اقتصادية من الممكن أن تهز العالم بحسب تعبير الإعلامي المقرب من ابن سلمان.
القرار الأول يتمثل في قطع إمدادات النفط، فبحسب الكاتب “الرياض عاصمة وقود العالم”، لافتًا إلى أن بلاده قد لا تلتزم بإنتاج 7.5 مليون برميل نفط يوميًا، و”إذا كان سعر 80 دولارًا للبرميل قد أغضب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فلا يستبعد أحد أن يقفز السعر إلى 100 و200 دولار وربما ضعف هذا الرقم”.
اختتم مدير قناة “العربية” قائمة التهديدات بأن السعودية قد توقف شراء الأسلحة من الولايات المتحدة، وتصفي أصولها واستثماراتها لدى الحكومة الأمريكية التي تبلغ 800 مليار دولار – حسب قوله –
فيما جاء القرار الثاني بفتح صفحة جديدة في العلاقات مع روسيا، إذ أشار أنه لا يستبعد بهذه الحالة إنشاء قاعدة عسكرية روسية في تبوك شمال غربي المملكة “في المنطقة الساخنة لمربع سوريا و”إسرائيل” ولبنان والعراق” وأن تتحول حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني من عدوين إلى صديقين.
أما القرار الأخطر الذي لوح به الدخيل فكان التهديد بالارتماء في أحضان إيران، إذا رأى أن فرض عقوبات أمريكية “سيرمي الشرق الأوسط بل العالم الإسلامي في أحضان إيران التي ستكون أقرب إلى الرياض من واشنطن”، وتابع “التعاون الوثيق في المعلومات بين الرياض وأمريكا ودول الغرب سيصبح جزءًا من الماضي”.
علاوة على ذلك فإن العقوبات الأمريكية حال فرضها قد تدفع الرياض إلى خيارات أخرى، قالها الرئيس ترامب بنفسه قبل أيام، إن روسيا والصين بديلتان جاهزتان لتلبية احتياجات الرياض العسكرية وغيرها.
واختتم مدير قناة “العربية” قائمة التهديدات بأن السعودية قد توقف شراء الأسلحة من الولايات المتحدة، وتصفي أصولها واستثماراتها لدى الحكومة الأمريكية التي تبلغ 800 مليار دولار – حسب قوله – وأن تحرم الولايات المتحدة من السوق السعودية، مذيلاً مقاله بأن “واشنطن بفرض عقوبات على الرياض ستطعن اقتصادها في مقتل وهي تظن أنها تطعن الرياض وحدها”.
تراجع كبير مستشاري السفارة السعودية بواشنطن فيصل بن فرحان، عما أورده الدخيل في مقاله قائلاً: “المقال لا يمثل الحكومة والقيادة السعودية”
رد واستدراك
قائمة التهديدات التي أوردها الدخيل في مقاله جاءت بعد ساعات قليلة من بيان صادر عن مسؤول في الخارجية السعودية لوح فيه هو الآخر إلى إجراءات قاسية قد تتخذها المملكة حال فرض عقوبات ضدها، حيث جاء في البيان الذي بثته وكالة “واس” الرسمية: “تؤكد المملكة أنها إذا تلقت أي إجراء فسوف ترد عليه بإجراء أكبر، وأن لاقتصاد المملكة دور مؤثر وحيوي في الاقتصاد العالمي، وأن اقتصاد المملكة لا يتأثر إلا بتأثر الاقتصاد العالمي”، مؤكدًا أن “الاتهامات الزائفة لن تنال من المملكة ومواقفها الراسخة ومكانتها العربية والإسلامية والدولية، ومآل هذه المساعي الواهنة كسابقاتها هو الزوال”.
من الواضح أن لغة التهديد التي استخدمها الدخيل في مقاله ومن قبلها بيان الخارجية جاءت استجابة للضغوط الدولية ولغة الوعيد التي استخدمتها بعض العواصم وأثارت حفيظة الشارع السعودي ما وضع النظام في ورطة وموقف حرج دفعه للرد حفاظًا لماء وجهه بعدما تثاقلت عليه الإدانات الحقوقية والدولية غير المتوقعة في ظل تأرجح وغموض موقف المملكة حيال التعاون مع التحقيقات الجارية بشأن القضية.
فبعد ساعات قليلة من بيان الخارجية السعودية الحازم في لغته، الذي أثار إعجاب الداعمين للمملكة في الداخل والخارج، تراجعت سفارة الرياض في الولايات المتحدة عما جاء فيه، قائلة في تغريدة لها على حسابها في “تويتر”: “نؤكد رفضنا التلويح بفرض عقوبات اقتصادية أو استخدام ضغوط، والمملكة تجدد رفضها لأي تهديدات ومحاولات للنيل منها”، معربة عن تقديرها للدول التي “لم تقفز إلى الاستنتاجات مباشرة خلال إجراء التحقيق بقضية خاشقجي، بما فيها الولايات المتحدة”.
To help clarify recently issued Saudi statement, the Kingdom of Saudi Arabia extends it appreciation to all, including the US administration, for refraining from jumping to conclusions on the ongoing investigation. https://t.co/AhcsVkn7Cy
— Saudi Embassy USA (@SaudiEmbassyUSA) October 14, 2018
كذلك تراجع كبير مستشاري السفارة السعودية بواشنطن فيصل بن فرحان، عما أورده الدخيل في مقاله قائلاً: “المقال لا يمثل الحكومة والقيادة السعودية”، فيما كتب الدخيل نفسه على حسابه في “تويتر”: “لاحظت أن البعض ربط مقالتي هذه بموقف الحكومة السعودية الرسمي، وهذا غير صحيح، بل هو رأي شخصي فقط”.
Except this article in no way reflects the thinking of the Saudi leadership https://t.co/xlqtElQWkA
— فيصل بن فرحان (@FaisalbinFarhan) October 14, 2018
https://twitter.com/TurkiAldakhil/status/1051503938225262593
تأرجح سعودي
التأرجح في مستوى رد الفعل السعودي حيال الاتهامات الموجهة إليها التي جسدتها الفوضى في التصريحات الصادرة عن مسؤوليها يعكس حالة القلق والترقب لما يمكن أن تسفر عنه نتائج التحقيقات التي تشير مؤشراتها الأولية إلى ضلوع الرياض في جريمة اختفاء خاشقجي.
ورغم الروايات المتضاربة التي تبنتها وسائل الإعلام السعودية الداعمة للنظام التي حملت في كثير منها تركيا مسؤولية ما حدث، متهمة إياها بالتآمر لإحراج المملكة والضغط عليها، فإن القيادة السعودية الحاكمة لم تجد بُدًا من طرق أبواب أنقرة لتخفيف حدة التوتر بعد الأنباء المتداولة بشأن قرب إعلان نتائج التحقيقات التي أجرتها الشرطة التركية.
“لا أريد الاستغراق في فرضيات لأننا لا نعلم الحقائق حتى الآن لكننا واضحون تمامًا في أنه إذا ثبت صحة تلك الروايات فإن (الأمر) مروع للغاية وسيكون علينا التفكير في الطريقة المناسبة للرد في تلك الحالة” – جيرمي هانت وزير خارجية بريطانيا
العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، أجرى بالأمس اتصالاً بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أعرب فيه وفق ما نقلته “واس” عن “شكره لفخامته على ترحيبه بمقترح المملكة بتشكيل فريق عمل مشترك لبحث موضوع اختفاء المواطن السعودي جمال خاشقجي”.
سلمان في اتصاله أكد “حرص المملكة على علاقاتها بشقيقتها تركيا بقدر حرص جمهورية تركيا الشقيقة على ذلك وأنه لن ينال أحد من صلابة هذه العلاقة ـ بإذن الله ـ”، فيما نقلت الوكالة السعودية عن أردوغان “تثمينه للعلاقات الأخوية التاريخية المتميزة والوثيقة القائمة بين البلدين والشعبين الشقيقين وحرصه على تعزيزها وتطويرها”.
اتصال هاتفي من العاهل السعودي للرئيس التركي بشأن الأزمة يحمل إشارات كثيرة
تصاعد الضغوط الدولية
ردود فعل دولية قاسية ضد السعودية بشأن أزمة خاشقجي، تصاعدت معها لغة التهديد والوعيد والمطالبة بفتح تحقيقات موثقة لمعرفة الحقيقة وكشف ملابسات الحادث، حيث دعت بريطانيا وفرنسا وألمانيا، السلطات السعودية والتركية، أمس الأحد، في بيان مشترك إلى إجراء “تحقيق موثوق به” في اختفاء الصحافي السعودي، قائلة إنها تتعامل مع هذا الحادث “بأقصى درجات الجدية” مطالبة بضمان محاسبة المتورطين في هذه الجريمة.
البيان أضاف: “تشاطر ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا آخرين الشعور بالقلق العميق الذي أعربوا عنه – بمن فيهم الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا مورغيني، والأمين العام للأمم المتحدة أنتونيو غوتيريش – وتتعامل مع هذه الحادثة بجدية قصوى، لا بد من إجراء تحقيقات ذات مصداقية للتأكد من حقيقة ما حدث وكذلك – إن كان مناسبًا – تحديد المسؤولين عن اختفاء جمال خاشقجي وضمان محاسبتهم”.
وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت، قال تعليقًا على الحادث إن بلاده سيكون عليها النظر في وسيلة الرد الملائمة إذا ثبت أن السعودية كانت وراء اختفاء خاشقجي، مضيفًا في حديث لتليفزيون بلاده: “لا أريد الاستغراق في فرضيات لأننا لا نعلم الحقائق حتى الآن لكننا واضحون تمامًا في أنه إذا ثبت صحة تلك الروايات فإن (الأمر) مروع للغاية وسيكون علينا التفكير في الطريقة المناسبة للرد في تلك الحالة”.
فيما طالب وزير الخارجية الإسباني جوزيب بوريل بـ”فتح تحقيق عاجل لكشف مصير خاشقجي”، بينما رفضت طهران التعليق على الحادث لحين كشف الحقيقة، أما سام كيلي محرر الشؤون الدولية لشبكة “سي إن إن” الإخبارية فأشار أن القصة لم تنته عند هذا الحد، وأن اختفاء أو قتل خاشقجي سيكون له توابع سلبية على علاقة السعودية بالدول الغربية في المستقبل القريب.
مطالب أمريكية متواصلة للسعودية بالدفع مقابل الحماية
مساعٍ للتسوية
تراجع الرياض عن لغة التهديد التي تضمنها بيان خارجيتها ومقال كاتبها المقرب من ولي العهد، والاتصال الذي أجراه العاهل السعودي مع الرئيس التركي وتغير لغة الخطاب الإعلامي الموجه لأنقرة، فضلاً عن التشكيك في فرض عقوبات أمريكية ضد السعودية خشية خسارة صفقات السلاح المقدر قيمتها بـ110 مليارات دولار حسبما جاء على لسان ترامب، دفع البعض إلى الحديث عن تسوية محتملة للقضية بالاتفاق بين الأطراف الثلاث.
هذا الرأي عززه وصول رئيس الاستخبارات السعودية خالد الحميدان، إلى تركيا، أمس الأحد، ولقاءه بمسؤولين أتراك لمناقشة الملف، في ظل الغموض الواضح المحيط بالقضية، التي لم يتكشف منها حتى كتابة هذه السطور سوى مؤشرات غير رسمية من بعض المصادر ووسائل الإعلام الدولية.
الرئيس الأمريكي الذي اعتاد ابتزاز المملكة ما بين الحين والآخر مطالبًا إياها بالدفع مقابل الحماية، وجد في قضية خاشقجي فرصة سانحة لإنعاش خزائن بلاده قبيل الانتخابات التشريعية المقررة في نوفمبر
الخسارة التي منيت بها الرياض منذ بدء الأزمة في الـ3 من أكتوبر الحاليّ، الذي تجسدت في انهيار البورصة السعودية بنسبة 7% وهي الخسارة الأكبر للأسهم منذ عام 2014، فضلاً عن التداعيات السلبية لمكانة المملكة على خريطة الاستثمار الدولي، كذلك المخاوف السياسية من رفع الغطاء الغربي لا سيما الأمريكي عن نظام ابن سلمان، كل هذا قد يدفع السعودية إلى فتح باب التسوية لغلق هذا الملف بأسرع وقت وبأي ثمن استباقًا لما تسفر عنه نتائج التحقيقات.
الرئيس الأمريكي الذي اعتاد ابتزاز المملكة بين الحين والآخر مطالبًا إياها بالدفع مقابل الحماية، وجد في قضية خاشقجي فرصة سانحة لإنعاش خزائن بلاده قبيل الانتخابات التشريعية المقررة في نوفمبر التي يعول عليها في حصاد حزبه على الغالبية العظمى واستعادة شعبيته المفقودة خلال الفترة الأخيرة ما يؤهله لولاية ثانية.
ورغم الضغوط الداخلية من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء ضد إدارة ترامب لاتخاذ موقف عملي ضد السعودية، فإن المكاسب الاقتصادية المحتملة لا شك أنها ستكون حاضرة وبقوة في تقييم الموقف النهائي من الأزمة، وهو ما ألمح إليه الرئيس الأمريكي بنفسه في تصريحاته الأخيرة التي حرص فيها على الحفاظ على صفقات التسليح مع المملكة، وهو ما يتفهمه السعوديون جيدًا لذا كان التراجع سريعًا عن بيانات التلويح بالرد على التهديدات الأمريكية.