مدينةُ قامت عليها عدد من الحضارات القديمة، وعلى ضفتيها الشرقية والغربية عاش الإنسان آلاف السنين يروي عن النيلين الأزرق وشقيقه الأبيض القصص والأساطير والخرافات، فيهما يسبح ويستحم، ومن مائهما يشرب فيروي ظمأه، وعلى جانبيهما يزرع الأرض ويسقيها ليحصد خيرات مباركة تتنوع بين فصلي الشتاء والصيف.
تقع مدينة الخرطوم على الضفة اليسرى للنيل الأزرق ممتدة من نقطة التقائه بالنيل الأبيض إلى الشرق ومتسعة إلى الجنوب في الضفة اليمنى للنيل الأبيض، وهي في شكل مثلث رأسه عند التقاء النيلين وقاعدته إلى الشرق مستقرة على النيل الأبيض والأزرق، ونقطة التقاء النيلين تعرف بمنطقة المقرن، أطلق عليها هذا الاسم لأن فيها يقترن النيلين الأزرق القادم من مرتفعات الحبشة مع شقيقه النيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة فكتوريا على حدود تنزانيا وأوغندا وكينيا.
وسط الخرطوم عام 1955
سبب التسمية
اختلفت الروايات بشأن سبب تسمية الخرطوم بهذا الاسم غير الغريب نوعًا ما وعن أصله ومعناه، فهناك من يقول إن التسمية ترجع إلى شكل قطعة الأرض التي تقع عليها المدينة التي يشقُّها النيلان ويلتقيان فيها مع بعضهما في شكل انحنائي يرسمان بينهما قطعة أرض أشبه بخرطوم الفيل بحسب وصف الروائي البريطاني دوجلاس لندن وهو الرأي الراجح.
إلا أن مواطنه الرحالة جيمس جرانت الذي رافق الكابتن جون أسبيك في رحلته الاستكشافية لمنابع النيل ذكر أن اسم الخرطوم مشتق من زهرة القرطم التي كانت تزرع بكثافة في المنطقة لتصديرها إلى مصر لاستخراج الزيت منها للإنارة وقد استخدمها الرومان عند غزوهم لمصر ووصولهم إلى شمال السودان حيث عثروا على زهرة القرطم في موقع الخرطوم الحاليّ واستخدموا الزيت المستخرج من حبوبها في علاج جروح جنودهم، ومنها تحوّر الاسم من القرطم إلى الخرطوم بحسب الرواية.
زهرة مؤنقة يحيط بها النيلان
ورد ذكر مدينة الخرطوم على ألسنة الشعراء والأُدباء والفنانين على مختلف الأزمان وأبرزهم الشاعر الفذ التجاني يوسف بشير في ديوانه المعروف “إشراقة” الذي وصف فيه الخرطوم بالزهرة المؤنقة في قصيدته التي قال فيها:
مدينة كالزهرة المؤنقة تنصح بالطيب عن قطرها
ضفافها السحرية المورقة يخفق قلب النيل على صدرها
تحسبها أُغنية مطرقة نغمها الحسن على نهرها
مبهمة ألحانها مطلقة رجعها الصيدح من طيرها
وشمسها الخمرية المشرقة تفرع كأس الضوء في بدرها
وفي السودان يطلقون على النيل بروافده اسم “بحر”، إذ ترتبط حياتهم به كليةً، ولولا النيل والروافد التي تغذيه لكانت المدن والقرى المتناثرة على ضفافه صحراء جرداء كصحراء الربع الخالي أو الصحراء الكبرى لا توجد بها حياة وغير صالحة للسكن.
رواية “فاتنة المهدي أو استعادة الخرطوم”، رواية غرامية بطلتها الفاتنة الإيطالية فرنشسكا التي يعود أصلها إلى جزيرة صقلية وفدت للسودان مع أسرتها من مصر في عهد الحكم التركي المصري للسودان
وتتكون “الخرطوم العاصمة” من ثلاث مدن هي الخرطوم الأُم والخرطوم بحري وأمدرمان لذلك يطلق عليها اسم “العاصمة المثلثة”، ولكن يجب في الاعتبار التفريق بين العاصمة المثلثة والخرطوم المدينة، فالأولى يُقصد بها التجمع الميتروبوليتي أي المكون من المدن الثلاث وضواحيها، والثانية هي مدينة الخرطوم التي تقع بها غالبية الدواوين الحكومية مثل القصر الرئاسي والوزارات الاتحادية مع وجود مؤسسات مهمة في مدينة أمدرمان التي تحتضن مقر هيئتي الإذاعة والتليفزيون الرسمية، بينما تعد الخرطوم بحري المدينة الصناعية الأولى في البلاد.
فاتنة المهدي.. الخرطوم في رواية تاريخية
ألفها الروائي اللبناني جُرجي زيدان الذي كان مرافقًا للحملة البريطانية التي غزت السودان وفي تلك الفترة نقص عدد سكان السودان من 8 ملايين نسمة إلى 2.5 مليون فقط بفعل الحروب والقتل والجفاف حسبما ينقل الكاتب اللبناني.
ورواية “فاتنة المهدي أو استعادة الخرطوم”، رواية غرامية بطلتها الفاتنة الإيطالية فرنشسكا التي يعود أصلها إلى جزيرة صقلية وفدت للسودان مع أسرتها من مصر في عهد الحكم التركي المصري للسودان وعاصرت الثورة المهدية حيث أسرها جنود محمد أحمد المهدي بعد نجاحهم في الاستيلاء على الحكم.
وقبل أن نسترسل في القصة الغرامية نتوقف مع وصف الخرطوم بقلم الكاتب جرجي، فقد ذكر أنها تقع على مسافة ألفي ميل أو أكثر في قلب إفريقيا، مشبهًا إياها بقسطنطينية المستقبل، واعتبر أنه ليس من السهل أن يصدق الإنسان وجود مدينة تمتد في بقعة رملية على شكل “خرطوم فيل” بين النيل الأزرق والأبيض ترتفع 1200 قدم فوق سطح البحر.
وقد ظلّت الخرطوم – بحسب الروائي ـ طول حياتها مدينة النخيل والحدائق، فترى أشجار النخيل تمتد خطًا طويلًا في الأفق بين النيلين الأبيض والأزرق وهي تظلل مرسى السفن والأماكن التي تورد منها المياه، في حين تدخل القصور تمتد إلى ميلين على شاطئ النيل الأزرق، في أحضان حدائق شاسعة تكتنفها المياه وتمر من أمامها مثل قناة مدينة البندقية.
رواية “رؤيا عائشة” للروائي السوداني الفائز بجائزة الطيب صالح العالمية عمر فضل الله ما زالت تحت الطبع ويتوقع أن تصدر رسميًا خلال مطلع العام 2019 وهي رواية بطلتها عائشة زوجة الإمام المهدي وفترة المهدية الأولى في السودان
ويقول الكاتب عن أمدرمان إنها مدينة ذات تاريخ حافل، تقع وراء مياه النيل الأبيض في جهة الغرب، في حين تقع في الشرق “الحلفايا” التي يصفها بترسانة الأسطول النهري، حيث كانت الخرطوم تضم مرسى كبيرًا للسفن وأسطول من البواخر التي تجري في النهر العظيم الذي يحمل فرعه الشرقي مياه جبال الحبشة بخيراتها بينما يحمل فرعه الغربي مياه بحيرة نيانزا “فيكتوريا” وهما الفرعان اللذان يلتقيان ويتحولان بعدها إلى مجرى واحد في أهم نقطة بمدينة غردون.
زيدان يصف الخرطوم بأنها أكبر مدينة في إفريقيا الاستوائية بفضل ما شهدته من أبنية ودور الحكومة، إلى جانب وجود الحامية المصرية الإنجليزية وما أنشئ فيها من الأندية وامتداد الضواحي إلى الخرطوم بحري وأمدرمان، ويحكي عن وصول اللواء تشارلز غردون باشا إلى الخرطوم في العام 1882م بشكلٍ مبالغ فيه، إذ صوّر الحاكم البريطاني بالمنقذ وأنه استقبل استقبال الفاتحين واتخذ قرارًا بتخفيض الضرائب وإعفاء المعسرين – في انحياز من كاتب الرواية ضد الثورة المهدية – بحسب ما يرى نقاد سودانيون.
وتحدّث الكاتب عن وصول بطلة قصته “فرنشكسا” رفقة أسرتها ضمن بعثة جاءت لمساعدة الحاكم غردون قائلًا إن الجالية الصغيرة من اليونايين والإيطاليين والنمساويين الذين كانوا في الخرطوم سعدوا بوجود امرأتين أوربيتين مليحتين رغم أبواب الحرب والهجمات التي كانت تشنها قوات محمد أحمد المهدي.
الباخرة البوردين التي جاءت لإنقاذ غردون
ولم ينس الكاتب اللبناني أن يصور مشهد اقتحام أنصار الإمام المهدي للخرطوم حتى سقطت في يد الثوار يوم 26 من يناير 1885 الذي قُتل فيه غردون وأسر فيه المئات من البريطانيين واليونانيين وغيرهم من الجاليات الأوروبية، ولكن الكاتب أنصف المهدي والخليفة عبد الله، فقد ذكر في الرواية أن الرجلين لم يتعرضا بسوءٍ لفرنشكسا وأمها التزامًا منهما بتعاليم المهدية إلى أن خَدَعت الابنة، الإمام محمد أحمد فقامت بتسميمه بسُمٍّ خاص كانت تخبئه في يدها وتسبب ذلك السم في وفاة المهدي حسب رواية المؤلف. ثم يروي أن الأم وابنتها تمكنتا من الهرب والتقت فرنشسكا بحبيبها القديم في مدينة أسوان المصرية.
عندما تمطر الخرطوم.. مشاهد حقيقية
رواية جميلة صدرت في العام 2010، سطّر فيها الكاتب الطبيب الفاتح عمر مهدي مشاهد يومية حقيقية لتراجيديا الحياة اليومية المعاصرة في العاصمة السودانية منذ أيام دراسته الطب في جامعة الخرطوم التي كان الطلاب يطلقون عليها لقب “جميلة ومستحيلة” لصعوبة دخولها في الستينيات والسبعينيات، فيقول:
“يا ربيع الدنيا في عينيّ يا نور قلبي يا معنى الجمال
يا أخت روحي يا أماني هواي في دنيا الخيال
كنت أدندن بهذه الأبيات وأنا أدخل كلية الطب وعثمان حسين يشدو في صيدلة الخرطوم، وحسناء وسط مجموعة من الطلاب ذهبت إليها ورددت الأغنية ثم طلبت منها بلغة إنجليزية سليمة قرشًا فأعطتني ريالًا قلت بذات اللغة (قرشًا فقط) قالت وفي عينيها بريق غريب وفي شفتيها المرتجفتين خوف “خذه كله” وطالب آخر أعطاني قرشًا فأعطيته سيجارة والأغنية تتردد فقال أحدهم: “ده مجنون عثمان حسين” وأعطاني بضعة قروش.
ثم ينتقل الفاتح إلى مشهد آخر قائلًا: “داون تاون الخرطوم 80 وشارع الجمهورية يتلألأ بأنواره ولافتاته وطيبة أهله، وبالقرب منه مكتبة للكتب الإنجليزية، اثنان خلف الكاونتر وثلاثة زبائن، لن أصف حالهم وأنا أسألهم عن بعض الكتب لدستوفسكي وتولستوي ومكسيم جوركي، قال “معاك نقود؟ أخذت الكتب وطلبت منه أن يحتفظ بالباقي حتى الصباح وقد كان”.
جامعة الخرطوم.. كبرى الجامعات السودانية
يتحدث الكاتب في الفصل الثالث من روايته “عندما تمطر الخرطوم” عن أيام فترة الامتياز بعد التخرج متحدثًا عن صيدلية مستشفى ابن سيناء الشهيرة في شارع محمد نجيب قائلًا: “كانت تعج بالمرضى ليلًا فطلبت دواء، قال الصيدلي معاك روشتة، قلت طبيب، تناولت قصاصة ورق وكتبت وصفة طبية فأرجعها لي، ناولته بطاقتي فضحك ولم يعطنِ الدواء”.
ولا يمل كاتبنا من المشاهد الساخرة التي كانت تصادفه في العاصمة السودانية فيحكي عن موقف آخر مع الشرطة: “شرطي المرور يعترضني عند مدخل كوبري أمدرمان ناهرًا: دي عربية منو الانت سارقها؟ لا وقت للنقاش وضحكته الساخرة لا تزال ترن في أذني وهو يرى بطاقة نقابة الأطباء وكفٍ على كفٍ عجب”.
رؤيا عائشة.. رواية لم تصدر بعد
رواية “رؤيا عائشة” للروائي السوداني الفائز بجائزة الطيب صالح العالمية عمر فضل الله ما زالت تحت الطبع ويتوقع أن تصدر رسميًا خلال مطلع العام 2019 وهي رواية بطلتها عائشة زوجة الإمام المهدي وفترة المهدية الأولى في السودان.
الروائي السوداني عمر فضل الله
ويمكن القول إن الرواية المرتقبة لفضل الله ستكون الرواية الأولى التي تتحدث بشكل مفصّل عن العاصمة السودانية، ففي أحد فصولها يحكي المؤلف عن طفولة محمد أحمد المهدي وتجواله في الخرطوم قائلًا: “في أحيان كثيرة كان يجلس جهة النهر مقابل صالة الاستقبال الواسعة الأنيقة التي تعتبر “الديوان” الرسمي لحاكم الخرطوم، وتزين جدرانها صور للبحرية.
وفي فنائها أشجار اللبخ التي يستظل بظلها العمال والموظفون العاملون في المديرية، كان يقضي حاجته في حفرة بالقرب من النهر ثم يذهب فيغتسل ويطيل النظرلإسطبل سلاح الفرسان والمدفعية ويمتع ناظريه بالخيول التي يحبها ويعجبه صهيلها، لكن الحراس كانوا يطردونه حين يطيل الجلوس عند مدخل المديرية جهة النهر لأنهم كانوا يظنونه لصًا يتربص بالخيل أو درويشًا متجولًا”.
ويصف المؤلف الخرطوم بأنها مدينة نظيفة خضراء كثيرة الظلال كثيفة الأشجار فيها سبل الراحة والبهجة لكن أخلاقها هي التي كانت قذرة حالكة السواد ومنغمسة في الرذيلة، وفي الوقت نفسه كنت ترى البؤس والإحباط خارج أسوارها، كانت الخرطوم تجمع جبايات القرى والأرياف لتنفقها على الترف والخنا والقصف.
وعن سكان الخرطوم يقول الكاتب على لسان جد المهدي: “الغالبية العظمى من سكان الخرطوم هم من الدناقلة، فقد كان عددهم لا يقل عن ثمانية عشر ألفًا يعمل بعضهم في التجارة المستقرة والمتجولة، إضافة إلى القليل من قبيلة الجعليين والقبائل الأخرى، كانوا يعملون في مجال التجارة المتجولة والمستقرة، فضلًا عن أعراق مختلفة ومختلطة من كردفان ودارفور، وبعضهم يشتغلون بتعليم الصبية القرآن في الخلاوي، بينما بعضهم الآخر من الباعة المتجولين والمعالجين (الشعبيين) وكُتَّاب “المحايات” والتمائم ولا يوجد شايقية في الخرطوم إلا القليل النادر جدًا في الثكنات العسكرية والحي العسكري”.
الخرطوم الحديثة لم يتناولها الأدب الروائي
مع الأسف لم تجد مدينة الخرطوم الحديثة التي نهضت بعد استقلال السودان اهتمامًا كبيرًا من كُتَّاب الروايات، فقد ركزوا على توثيق الخرطوم في عهد المهدية والحكم التركي، أما الروايات المعاصرة فقد دارت أحداث أشهرها في الأقاليم مثل مؤلفات الروائي العالمي الطيب صالح صاحب رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” الشهيرة التي ترجمت إلى عدد من اللغات وغيرها مثل عرس الزين ودومة ودحامد.
بيد أن عدد من الكتب والمؤلفات غير الروائية تناولت العاصمة السودانية بصورة جيّدة مثل كتاب “خط في النهر: الخرطوم مدينة الذكرى” للكاتب جمال محمود الذي أصدره مطلع العام الحاليّ، فقد تحدث عن العاصمة من زوايا عديدة: كيف تبدو من الطائرة، طابعها الكوزموبوليتاني، جغرافيتها، الحي الأوروبي (أيام الاحتلال البريطاني)، فنادقها، بنيتها التحتية، ضوضاؤها، كيف تبدو ليلاً، أهلها، مشكلاتها، أسماء شوارعها، جامعتها وجامعة القاهرة فرع الخرطوم (جامعة النيلين حاليًّا).
مقهى “أثني” في قلب الخرطوم.. قبلة الزوار في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي
وينتقل محجوب من مشهد إلى مشهد آخر، حيث يقول في زاوية ثانية من كتابه: “كل المدن مقدسة، فهي تنهض من الأرض لكي تبلغ عنان السماء”، كأنه يلفت إلى مقولة الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين: إن اللغة أشبه بمدينة قديمة، متاهة من الشوارع والبيوت، قديمة وحديثة، ويختتم محجوب: “ربما كانت المدن قصصًا لم تكتمل، تحاول أن تبتكر لغة تعبر بها عن نفسها، وكتابه مجموعة مفردات تحاول بها العاصمة السودانية أن تعبر عن نفسها”.