لم يكتفِ بالمرة الأولى أو الثانية أو الثالثة، بل تمادى للمرة الرابعة في التوجه نحو “مطالبة بعض الدول الخليجية بالدفع مقابل الحماية”، مشيرًا إلى أن ملوك هذه الدول لا يستطيعون التجول بطائراتهم، ما لم توفر لهم الولايات المتحدة الحماية.
ويبدو أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أخذ الأمر على محمل الجد، معبرًا، في أحد لقاءاته الصحفية عن امتعاضه، بالقول: “نحن نتعامل مع الولايات المتحدة على أساس النفعية المتبادلة، ولا نستورد الأسلحة منها بشكلٍ مجاني”.
وفي تصريح ترامب المهين، ورد ولي العهد المُعبر عن حالة امتعاض كبيرة، إشارات يرغب المتابع للشأن العام في فهمها، متسائلًا ما العوامل التي تدفع الرئيس الأمريكي لإهانة دولة تظهر على أنها حليفة لبلاده؟
ربما هي النظرة الدونية الاحتقارية التي يُشير إليها المُفكر السياسي إدوارد سعيد، حيث يشدد في كتابه “الاستشراق” على دور الخطاب الاستشراقي المُتراكم في صنع القرار الأمريكي المُنطلق من نظرات دونية احتقارية، وبعضها مغلف بالكراهية، للدول العربية عامة والدول العربية الثرية خاصة، ويؤكد سعيد أن الغرب عامةً يرى في نفسه الأجدر بإدارة الموارد الريعية والبشرية، ويرى أنه صاحب “المكانة العليا” التي تؤهله ليصوّر نفسه على أنه الأعرق والأفضل في العالم، وما دونه مُنحط ومتخلف تابع وليس حليفًا، ومن منا لا يلامس نظرة ترامب للعرب بهذه الصورة!
يكاد الدعم الأمريكي عن طريق الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية والشرعية الدولية، وغيرها من الوسائل التي توفرها الولايات المتحدة الأمريكية للمملكة العربية السعودية خصيصًا، في اليمن وسوريا، يُمثل دليلًا واضحًا على علاقة التبعية الاعتمادية الشديدة من الدول الهامشية الطرفية على المركز
ولعلها الطبقية الدولية التي يُشير إليها سمير أمين في نظريته “الرأسماليات المركزية والطرفية”، حيث إن العالم قائم على نظام العمل الرأسمالي الحر المُنفتح الذي يكون فيه دول تحتضن صناعات إنتاجية تتمكن من تحقيق اكتفاء ذاتي شبه مُطلق لكل السلع الاستهلاكية، ومجتمع آخر طرفي هامشي تابع يفعل في صناعة المواد الاستهلاكية غير الإنتاجية، أي صناعات غير تدويرية تربط القطاعات الاقتصادية بعضه ببعض.
كما يُشير أمين إلى انعدام التعاون الاقتصادي المحوري بين الدول ذات المستوى الواحد، ووجود تعاون بين دول في طبقات اقتصادية متمايزة جدًا، ما يخلق مصطلحًا يمكن تسميته “الطبقية الدولية” التي يكون الطرف المُهيمن فيها اقتصاديًا، وبالتالي أمنيًا وسياسيًا، محتقرًا لمن هم في الطبقة الاستهلاكية الاعتمادية الأقل مستوى، وعلى أساس هذه الطبقية يقوم النظام العالمي الحديث؛ بحسب إيمانويل فاليرشتاين صاحب نظرية “النظام العالمي الحديث”.
ويؤكّد بول باران أن البلدان المُتخلفة التي تعتمد على القطاعين الزراعي أو استخراج المواد الريعية، تبقى في حالة تخلف ودونية نتيجة رغبة الطبقة الرأسمالية في العالم الأول في إدامة حالة التخلف في بلدان العالم الثالث، من خلال استنزاف قدراتها الاقتصادية، وتصدير أفكار تنموية غير فاعلة، واستلاب إرادتها وقرارها السياسيين، وتقريب مصالحها إلى مصالح الطبقة الطفيلية البيروقراطرية والبرجوازية التي تُهيمن على القرارات الاقتصادية والسياسية في العالم الثالث الذي يبقى متخلفًا في إطار طبقة دولية تراه دونيًا، وتُبقي فائضه الاقتصادي المديد مدفوعًا للمركز، وإن لم يكن الواقع هكذا، فلماذا يطالب ترامب هذه الدول دومًا بالدفع؟
وفي إطار علاقة التبعية والمركز، تبقى الدول الهامشية بحاجة ماسة لدعم المركز دبلوماسيًا وعسكريًا، ويكاد الدعم الأمريكي عن طريق الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية والشرعية الدولية، وغيرها من الوسائل التي توفرها الولايات المتحدة الأمريكية للمملكة العربية السعودية خصيصًا، في اليمن وسوريا، يُمثل دليلًا واضحًا على علاقة التبعية الاعتمادية الشديدة من الدول الهامشية الطرفية على المركز.
الرئيس ترامب يتمتع بصراحة فجة تكشف للمواطن حقيقة التركيبة العالمية القائمة على مركزيّة الولايات المتحدة مقابل هامشية وتابعية دول العالم الثالث
ولا يمكن إغفال بالطبع الشخصية التجارية لترامب الذي يرغب في تحقيق خدمات بأكبر سعر ممكن، لا سيما في ظل سعيه لتأسيس ميزان قوى خاصٍ ببلاده عبر الاعتماد على نظام الحمائية الاقتصادية الذي يعني رعاية نفقات البلاد قدر الإمكان، مقابل رفع دخلها قدر الإمكان أيضًا، ولعل الصفات السلوكية لشخصية ترامب القائمة على الغرور الذي انعكس على هوية البلاد بكل وضوح، فلا يُعقل أن يفصل التحليل السلوكيات الشخصية عن توجه تصريحات وتحركات مؤسسات البلاد.
هل هناك توجه مقصود من ترامب للناخب الأمريكي؟
بلا أدنى شك، فتكراره لذات الجمل في أكثر من ولاية، يؤكد ذلك بما لا يدع مجالًا للشك، وبالأخص في ظل اعتبار أن الخطاب يدغدغ مشاعر الأمريكيين على جميع العناصر الأساسية للخطاب السياسي، التي تقوم على مخاطبة التوجهات المثالية والعاطفية والعقلانية.
فعند الحديث عن أن الولايات المتحدة تحمي المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول، فهذا يدغدغ العاطفة المثالية للمواطن الأمريكي الذي يرى بلاده عظيمة قوية قادرة على توفير الحماية له ولمواطنين دول أخرى تقع ما وراء البحار، وعند الحديث عن ضرورة دفع هذه الدول مقابل حمايتها، فبذلك يُخاطب التوجه العقلاني للناخب الذي يرى أن إدارة ترامب الجمهورية تُحافظ على موارد البلاد لصالح التنمية الداخلية التي تعود عليه بالفائدة.
وأخيرًا، عند إصدار ترامب مثل هذه التصريحات، فإنه يُضفي حالة سعادة ودهشة لللاوعي الجمعي الخاص بعدد كبير من المواطنين الأمريكيين، ولا ريب في أن أهمية هذه الخطابات، تزداد في ظل توجه الولايات المتحدة نحو إجراء انتخابات الكونغرس خلال الشهور القليلة القادمة.
في الختام، منذ قدومه لسدة الحكم، والرئيس ترامب يُثير الغرابة تارة والدهشة تارة أخرى، نتيجة تصريحاته الإعلامية غير المألوفة، لكن الحقيقة أن الرئيس ترامب يتمتع بصراحة فجة تكشف للمواطن حقيقة التركيبة العالمية القائمة على مركزيّة الولايات المتحدة مقابل هامشية وتابعية دول العالم الثالث التي تبقى متخلفة نتيجة تقديم طبقتها الحاكمة مصالحها الشخصية والحزبية على حساب المصالح الوطنية.