كتب الصحفي والروائي البريطاني جورج أورويل، ذات يوم: “الصحافة هي طباعة ما لا يريد أحدهم له أن يطبع، كل ما عدا ذلك يدخل في خانة العلاقات العامة”، تشكل مقولة أورويل هذه الفارق بين الصحافة الرسمية وصحافة المواطن التي تتسع يومًا بعد يوم بالتزامن مع ظهور منصات التواصل الاجتماعي.
ففي العصر الذي نعيش فيه الآن، لم يعد التعتيم الإعلامي ممكنًا، حيث يستطيع غالبية الأشخاص نقل معلومات عما يدور حولهم بسهولة وبسرعة قد تتزامن مع الحدث نفسه، فالعديد من منصات التواصل الاجتماعي التي نستخدمها تخدم هذا الغرض، حيث تسأل منصة تويتر مستخدميها باستمرار عن “ماذا يحدث؟” ليجيبوا عما يدور حولهم في كل مرة يغردون بها، كذلك الأمر في فيسبوك ويوتيوب اللذين يمكنان المستخدمين من البث المباشر للأحداث حولهم وكثيرًا ما سبقت هذه الصور وسائل الإعلام الرسمية في نقل الخبر.
وبذلك شكلت منصات التواصل الاجتماعي العلامة الفارقة في أسلوب وطريقة نقل المعلومات والأحداث، فمن خلالها لعب المواطن دورًا أساسيًا فيها لإيصال المعلومة بشكل مباشر بعد أن كان دوره يقتصر فقط على تلقيها من خلال وسائل الإعلام التقليدية (التلفاز والصحف والإذاعات)، وهذا ما بات يعرف بـ”صحافة المواطن”.
المواطن كمصدر
أصبح المواطن مصدرًا موثوقًا للبعض في زمن لم تعد فيه بيانات السلطات الرسمية عن الأحداث تقنع إلا من يدورون في فلك هذه السلطة، وقلت ثقة المواطنين بوسائل الإعلام التقليدية التي لم يعد يخفى على أحد أنها تمول من جهات لها أجندتها السياسية في نهاية الأمر سواءً كانت دولًا أم أفرادًا وجماعات.
يعتبر فيلم “سفارة الموت” الذي عمل عليه البيقاوي أول تجربة عربية في العمل على تحقيق استقصائي بجهود فردية، واعتبر نقلة نوعية في “صحافة المواطن”
في ديسمبر 2004 وعندما انتهت أحداث تسونامي، تناقلت وسائل الإعلام موادًا مصورة بواسطة مواطنين وأفراد حالفهم الحظ ونجوا بأنفسهم في ذلك الحين، واعتمدت وسائل الإعلام في تغطية أحداثه على الروايات التي نقلها من عاشوا الحدث في ظل غياب الرواية الرسمية، وفي حينها أرسلت وسائل الإعلام مراسليها ومصوريها إلى أماكن لجوء المنكوبين من الزلزال لا إلى مواقع الأحداث لتسجيل روايتهم على ما حدث، يقال إن هذه كانت بداية صحافة المواطن في زماننا الحديث.
تجربة فريدة
نشر المدون الفلسطيني أحمد البيقاوي تحقيقًا استقصائيًا في سبتمبر الماضي عن اغتيال القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عمر النايف داخل سفارة فلسطين في العاصمة البلغارية صوفيا في فبراير 2016، استمر العمل عليه لمدة عام ونصف من جمع المعلومات والمقابلات مع الأشخاص ذوي العلاقة، وكان أغلب العمل من خلال التواصل على الإنترنت. يعتبر فيلم “سفارة الموت” الذي عمل عليه البيقاوي أول تجربة عربية في العمل على تحقيق استقصائي بجهود فردية، واعتبر نقلة نوعية في صحافة المواطن.
في الوقت الذي حاول البعض إنهاء قضية اغتيال عمر النايف داخل سفارة بلاده دون معرفة القاتل، عمل البيقاوي بجهود فردية وبمساعدة أصدقائه من الصحفيين والفنيين حتى يخرج العمل بهذه الجودة التي تليق بالمعلومات الحصرية التي حصل عليها.
يقول البيقاوي في حديثه لـ”نون بوست”: “تعتبر صحافة المواطن مظلة إعلامية مثلها مثل باقي مظلات المواقع والتليفزيونات والوسائل الإعلامية المختلفة، بل تتميز في بعض القضايا بحرية وسقف تحريري أعلى” .
جيل واسع من الشباب تمكن من امتلاك الهواتف الذكية المزودة بكاميرا للتصوير وإمكانية الولوج إلى الإنترنت، ساعد هذا الأمر في نشر المعلومات والمحتوى البصري على الإنترنت بشكل أوسع
وعن ظروف العمل على التحقيق الاستقصائي “سفارة الموت”، يقول: “عملت على التحقيق مع قرار مسبق بعدم نشره في وسائل إعلامية أخرى سوى صفحاتي على منصات التواصل الاجتماعي؛ الأمر الذي ساعدني على النأي بالجهد والعمل عن حالة الاستقطاب السياسي الموجود بالمنطقة العربية بين الوسائل الإعلامية، مما ساعد في توسيع دوائر المتعاونين في العمل وتطوع بعضهم فيه حرصًا منهم على المساهمة في ذلك، فصار الشاهد على الحدث شريكًا في العمل”، ساعد هذا الأمر في توسيع دوائر النقاش والجدل عن القضية بعد نشر التحقيق.
تحديات التحقق من المحتوى
رغم انخفاض نسب الدخل في غالبية الدول العربية، فإن جيلاً واسعًا من الشباب تمكن من امتلاك الهواتف الذكية المزودة بكاميرا للتصوير وإمكانية الولوج إلى الإنترنت، ساعد هذا الأمر في نشر المعلومات والمحتوى البصري على الإنترنت بشكل أوسع بكل أنواعها حتى لو كانت مشاجرة بين مجموعة أشخاص، فنجد جانبًا من المتفرجين لا يفعلون شيئًا سوى تصوير المشاجرة ليشاركوها بعد ذلك على منصات التواصل الاجتماعي، فأصبح كل هؤلاء بمثابة صحفي متنقل بين الأماكن والأحداث بوعي أو دون وعي لذلك.
تحدثنا إلى حسام يحيى، وهو مقدم برنامج “هاشتاق” المعني بما يتداوله الناس على منصات التواصل الاجتماعي في قناة الجزيرة مباشر، وسألناه عن التحديات التي تطرحها صحافة المواطن أمام الصحفيين العاملين في المؤسسات الإعلامية الرسمية، فأجاب: “معايير القصص التي تأتي من منصات التواصل الاجتماعي لا تعتبر مرتفعة وتواجه غرف الأخبار تحدي التحقق من محتواها، لا سيما زمان ومكان تصوير هذه القصص”.
يضيف يحيى: “لكن في نفس الوقت لا يمكن تخطي هذا المحتوى وتستخدم وسائل الإعلام الكثير منه بشكل يومي، والصور العالقة في ذاكرة الناس عن الأحداث من حولنا كان غالبيتها من تصوير المواطنين، على سبيل المثال، كاميرا الهاتف كانت البطل في نقل أحداث الثورات العربية”.
وبين الإقبال على صحافة المواطن والخوف من ملاحقة السلطات، يستمر مستخدموا الإنتزنت في العالم العربي بنشر محتوى الأحداث من حولهم علنًا أو خفية وبشتى الوسائل المتاحة، مواكبين حالة التطور التكنولوجي أولًا بأول، أملًا في تغيير الواقع من حولهم.