لا تعدّ العنصرية في وطننا العربيّ ظاهرةً حديثة البتة، بل هي مشكلة قديمة ظهرت وتجذّرت أكثر وأكثر مع كلّ الأحداث السياسية والإقليمية ودعمتها الاختلافات الطائفية والدينية واللغوية، ثمّ أخيرًا ساهمت الثورات العربية وموجات النزوح والهروب في ظهورها بشكلٍ أوضح وأكثر صراحةً، بحيث لا تكاد تمرّ فترة إلا وتمتلأ صفحات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ بحادثة جديدة تكشف عن الكمّ الهائل من المشاعر العنصرية المكبوتة تجاه “الآخر”.
تُعرّف العنصرية، على كثرة تعريفاتها وتعقيداتها، بأنها المعتقدات أو السلوكيات التي تعلي من شأن فئة ما، بناء على عناصر موروثة مرتبطة بطبائع الناس أو قدراتهم، وتستند أحيانًا إلى لون البشرة أو اللغة أو الثقافة أو العادات أو المعتقدات. وقد شهد العالم العربيّ الكثير من صورها بناءً على هذه المعايير. وقد أصبحت العنصرية بناءً على معيار “اللجوء أو النزوح” تشكّل في السنوات الأخيرة مشهدًا قويًّا يأخذ مساحةً واسعة من مساحة الممارسات والسلوكيات المجتمعية في العديد من الدول العربية.
تقدّم لنا نظريات علم النفس وعلم النفس الاجتماعيّ الكثير من التفسيرات والتوضيحات التي بإمكانها أن توضّح لنا جزءًا من صورة مشهد العنصرية ذلك. وفهمنا للكثير من الجوانب المتعلقة بكيفية تكوّن الصور النمطية وتطوّرها إلى ممارسات عنصرية، أو دور المجتمع والسياسة والإعلام في ظهورها، أو كيف يمكن تغذيتها لضمان استمراريتها، وغيرها الكثير، قد يساعدنا فعليًا على الحدّ من هذه الظواهر والتعامل معها في حال ظهرت وعلى حماية الأجيال القادمة منها ومن تبعيتها.
التحيّز الضمني: هل جميعُنا عنصريّون؟
لنتفق بالبداية أنّ ثمّة ما يُعرف بالتحيّز “الضمني” أو “التحيّز اللاواعي”، والذي يتمثّل في الصور النمطية التي تتشكل في عقولنا وتؤثر على أفعالنا وتصرفاتنا وقراراتنا بطريقة غير واعية، أي أنه قد يصعب علينا في البداية ملاحظة وجودها. ومن هنا جاءت تسميتها بالضمنية، فهي غير واضحة وغير صريحة، لكنها مع مرور الوقت تصبح أكثر رسوخًا وقد تتحوّل لسلوكيات عنصرية بشعة.
ولفهم هذا النوع من التحيّز، يمكننا الرجوع إلى إحدى الدراسات التي قام بها مجموعة من علماء الأعصاب من جامعة بكين ونُشرت في مجلة علم الأعصاب عام 2009، وقد أظهرت بدورها أنّ الدماغ البشريّ يُظهر انحيازات مختلفة في بعض الأجزاء المرتبطة بالإدراك والعاطفة فيه، لا سيّما الجزء المعروف باسم القشرة الحزامية الأمامية “Anterior cingulate cortex”، والذي يلعب دورًا في الوظائف الإدراكية المعرفية مثل اتخاذ القرارات والتحكم في الاندفاع والمشاعر، وبالتالي فهو الجزء المسؤول عن شعورك بالألم أو التعاطف مع ألم شخص آخر.
يتمثّل التحيّز الضمني في الصور النمطية التي تتشكل في عقولنا وتؤثر على أفعالنا وتصرفاتنا وقراراتنا بطريقة غير واعية، أي أنه قد يصعب علينا في البداية ملاحظة وجودها
ما قد يثير اهتمامك من نتائج الدراسة تلك، أنّ المشاركين فيها كانوا متحيّزين في تعاطفهم. تخيّل أنْ ترى أمامك شخصين يعانيان من نفس الألم بنفس الدرجة ونفس الحدّة، لكنّ أحدهما ينتمي إلى مجموعتك، والتي قد تكون مدينتك أو دولتك أو لغتك أو دينك أو غيرها، والآخر ينتمي إلى مجموعةٍ مغايرة. فهل ستتعاطف مع ألم كليهما بنفس درجة التعاطف؟
تخبرنا الدراسة بأنّ الإجابة قد تكون لا. فقد عرضت خلالها عدة مقاطع فيديو تحتوي على وجوه لأشخاص صينيين وقوقازيّين تظهر عليهم علامات الألم أمام طلابٍ من كلا المجموعتين. قام العلماء بإجراء فحوص لأدمغة المشاركين بالدراسة، تبينوا على إثرها أنّ هناك زيادة في نشاط عمل القشرة الحزامية في في أدمغة أولئك الذين يشاهدون التعبيرات المؤلمة على الوجوه التي تنتمي إلى عرقهم أو مجموعتهم الإثنية، وانخفاضًا في نشاطها عند مشاهدة الألم على وجوه أفراد العِرق الآخر، ما يعني أنّ ثمة اختلافًا عنصريًا في الاستجابة التعاطفية مع الألم في الدماغ.
فكرة مُسبقة فوجهة نظر فسلوكٌ عنصريّ
تجارب الانحياز الضمنيّ قد تخبرنا فعلًا بأنّ أدمغتنا تتفاعل مع الأحداث والمواقف والأشخاص من حولها عبر سلسلة متحيّزة من التفاعلات المتحيّزة والعنصرية. لكنّها في الوقت نفسه أيضًا تخبرنا أنّ الدماغ ليس عضوًا سلبيًّا أبدًا، وإنما ينطوي دوره على التفاعل مع المنبّهات التي حدثت وتحدث من حوله وتحليلها للوصول إلى استنتاجٍ أو تنبّؤٍ ما بما هو موجود أمامه وما سيحدث معه لاحقًا.
بكلماتٍ أخرى أكثر بساطة، يتلقى الدماغ الإشارات من حوله ليولّد نظرته للعالم. تخيّل نفسك جالسٌ في بيتك منتصف الليل لتشاهد أحد أفلام الرعب المخيفة، ثمّ فجأة تنتبه أذناك لصوتِ حركةٍ عند الباب الخارجيّ، ستعتقد أنّ ثمّة متسللًا يحاول الدخول للبيت. لكنّ الأمر مختلف تمامًا عن ما إنْ سمعت الصوت نفسه بينما أنت جالسٌ تستمع لموسيقى هادئة وقت الظهيرة. أليس كذلك؟
لافتة رفعت في إحدى البلدات اللبنانية لتحذير السوريين من التجول مساء تحت طائلة المسؤولية
ما يعني أنّك أنتَ من تصنع التوقع أو التنبؤ أو فكرتك عن الأشياء من حولك، كلّ ما لديك هو معلومات أو إشارات مسبقة، وأنتَ تستخدمها لتخرج منها بوجهة نظر معينة. فقد تؤدي رؤية لاجئٍ ما أو سماع لهجته في الشارع أو في أحد المطاعم إلى تنشيط الصور النمطية المتواجدة مُسبقًا عن اللاجئين، سواء التي كوّنتها أنت أو وصلت إليك عن طريق المجتمع، أو قد يؤدي تعاملك السلبيّ مع أحد اللاجئين إلى التفكير بأنّ جميعهم يتعاملون بذلك الشكل السلبيّ، وهكذا.
يُعرف الأمر في علم النفس بمصطلح “الاستدلالات أو الاختصارات العقلية”، وهي الآلية التي يلجأ الإنسان من خلالها لحل المشاكل واتخاذ القرارات بسرعة يمكن أن تؤدي إلى ارتكاب الأخطاء والتحيزات المعرفية “Cognitive Biases“، والتي من خلالها نلجأ لإطلاق الأحكام المُسبقة “Judgments” على الأشخاص والأشياء من حولنا. قد يرجع الأمر إلى كسلنا في التفكير ومعالجة أفكارنا ووجهات نظرنا أو لخوفنا من تغييرها نظرًا لوجود إجماعٍ ما عليها
يؤدي عدم الاستقرار وغياب التوازن في المجتمعات إلى تفشّي الأفكار العنصرية الوطنية والدينية والمجتمعية، إذ غالبًا ما يلجأ الأفراد إلى تكوين الصور النمطية أو الإتيان بممارسات عنصرية نتيجة خوفهم من الآخروعدم شعورهم بالأمان تجاهه
نقطة أخرى مهمة، هي أنّنا نتفاعل مع الجوانب أو الأفكار السلبية بشكلٍ أكثر نشاطًا من تفاعلنا مع الجوانب الإيجابية. لنفترض أنك تعرّضتَ لموقفٍ سلبيّ مع شخصٍ لا ينتمي لمجموعتك، هنا سيبدأ عقلك بربط تلك المجموعة ككلّ مع التصرفات السلبية. خذ على سبيل المثال الفكرة النمطية التي سادت مطوّلًا في أمريكا بأنّ أي فرد أسود أو إفريقيّ هو بالضرورة إنسانٌ عدوانيّ أو مجرم، والتي تمنعك من التعامل مع أيٍّ منهم خوفًا أو احتراسًا، إذ أنّ أول ما يخطر على بالك حال رؤيتك ذلك الشخص هو الفكرة التي يسهل على دماغك الوصول إليها، وهي عدوانية أو سلبية الطرف المقابل، والتي قد تكون نتاجًا لتجربة سابقة أو بتأثيرٍ من المجتمع أو الإعلام أو أيّ عوامل أخرى.
التفرّد الكاذب كوسيلة للخلاص والهروب من الواقع
تعد التقسيمات الطبقية بمثابة الدعامة الأساسية لقوى السياسة والمجتمع. بحيث يمكننا القول أنّ العنصرية لا تنشأ في الكثير من الأحيان حول لون البشرة أو اللغة أو الدين، لكنها تتحوّل إلى معايير قوى وسلطة وامتيازات طبقية ومجتمعية، وجميعها تتسع فجوتها في حالات الأزمات وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في المجتمع.
إذ يؤدي عدم الاستقرار وغياب التوازن في المجتمعات إلى تفشّي الأفكار العنصرية الوطنية والدينية والمجتمعية. لا سيّما وأنّ الخوف والشعور بعدم الأمان يلعبان دورًا كبيرًا، إذ غالبًا ما يلجأ الأفراد إلى تكوين الصور النمطية أو الإتيان بممارسات عنصرية نتيجة خوفهم من الآخر وعدم شعورهم بالأمان تجاهه، على الأقل هذا ما تُخبرنا به نظريات علم النفس التطوّري من جهتها والتي ترى أنّ الإنسان الأول قد طوّر نفسه على تكوين الأحكام المُسبقة على “الآخرين” كوسيلة لتوقّع خطرهم وبالتالي كأسلوبٍ للنجاة والبقاء والاستمرار.
لافتة عنصرية أخرى ضد اللاجئين السوريين في لبنان
ولو نظرنا عن قرب لواقعنا العربيّ في المنطقة، لوجدنا أنّ ثمّة سياسات تعمل على تكريس الأفكار والممارسات العنصرية بوصفها وسيلةً للخلاص بالذات وإثبات تفرّدها وتميّزها عن الآخرين وسط كلّ الأحداث الحاصلة من جهة، ووسيلة تعويض تسلكها الذات لمواجهة الواقع المتأزم تاريخيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا ودينيًا.
أصبحت العنصرية جزءًا من خطابٍ سياسيّ يبحث من خلاله أصحابه عن طريقةٍ لنفخ أناهم وإثبات تميّزهم وتفوّقهم على حساب قضية إنسانية وأخلاقية.
لا سيّما وأنّ المواطن يجد نفسه عاجزًا عن الإلمام بالأسباب الكاملة لسوء الحال وأزماته، أو رغبةً منه بإيجاد أسباب خارجية يُلقي عليها لومه وحنقه وغضبه، فيجد أمامه جموع اللاجئين على سبيل المثال، أو المغتربين الذي سكنوا في مدينته، أو أفراد الطائفة الأخرى. ليصبح السوريون فجأة سببًا في انتشار السرطان في لبنان، لا أزمة النفايات وتلوّث الشطآن على سبيل المثال. ويصبح التدهور الاقتصادي نتيجةً لوجود جمعٍ من اللاجئين في البلد لا بسبب السياسات الفاشلة والعجز الحكومي عن تدارك التدهور والإتيان بالحلول الملائمة. ويصبح فيضان الصرف الصحي نتيجةً للجوء السوريّ في المدينة.
— الرأي – أخبار الأردن (@alrai) October 14, 2018
وهكذا، أصبح اللاجئ في عقلية الآخرين سببًا في الحروب والمشاكل الطائفية والأوضاع الصعبة وتعرّض التوازن الديموغرافي للخطر وأمراض السرطان والتلوّث البيئي وانتشار الأوبئة. وقد أصبح الأمر جزءًا من خطابٍ سياسيّ يبحث من خلاله أصحابه عن طريقةٍ لنفخ أناهم وإثبات تميّزهم وتفوّقهم على حساب قضية إنسانية وأخلاقية.