في 2 من أكتوبر/تشرين الأول اختفى الصحفي السعودي البارز جمال خاشقجي، الذي ينظر إليه باعتباره من المنتقدين للسياسات الجديدة التي تبنتها الحكومة السعودية، بعد زيارته لقنصلية بلاده في تركيا بهدف الحصول على وثائق رسمية للمضي قدمًا في معاملات زواجه المنتظر، وللأسف لم يخرج خاشقجي من القنصلية، وبعد اختفائه ببضع ساعات بادرت خطيبته بالاتصال ببعض المسؤولين التركيين والشرطة، وفي 6 من أكتوبر/تشرين الأول، شرعت السلطات التركية في التحقيق في حادثة اختفاء خاشقجي المفاجئ والادعاءات التي تحيل إلى أنه ذبح في القنصلية السعودية.
إلى حد الآن، تصر المملكة السعودية على أن الادعاءات التي تفيد بأن الرياض أمرت بتنفيذ عملية القتل تعد مجرد “أكاذيب” ولا أساس لها من الصحة، وأنها ترغب بشدة في كشف “الحقيقة الكاملة” وراء اختفاء خاشقجي، في المقابل ادعت السلطات التركية أنها راجعت جميع لقطات كاميرات المراقبة الخاصة بالقنصلية، واكتشفت أن خاشقجي لم يغادر على الإطلاق مبنى القنصلية من بوابات الخروج المعتادة.
على النقيض من ذلك، قال القنصل السعودي إن خاشقجي غادر في الحقيقة القنصلية بعد الانتهاء من تجهيز أوراقه، ولكن حقيقة أن موظفي القنصلية لم يعملوا على مشاركة أي أدلة تثبت مغادرة خاشقجي، عززت الاتهامات بأن الصحفي السعودي قتل أو اختفى بشكل ما في القنصلية، وعلى خلفية الأنباء العاجلة التي تفيد بأن جهاز الاستخبارات التركية يزعم امتلاكه لتسجيل صوتي ومقاطع فيديو لعملية تعذيب خاشقجي (أكد مصدر أمني تركي لـ”بي بي سي” عربي وجود تسجيل صوتي وفيديو)، بلغت الشكوك ذروتها بشأن هذه القضية.
وسط هذه الاضطرابات أثار اختفاء خاشقجي رد فعل قوي على نطاق عالمي، في الأثناء باتت السعودية في مرمى نيران الانتقادات والاتهامات، في حين دعا عدد من السياسيين والصحفيين والشخصيات العامة في شتى أنحاء العالم إلى إجراء تحقيق شفاف بشأن قضية اختفاء خاشقجي.
في الوقت الذي لا تزال فيه الآثار السلبية الكارثية لاختفاء خاشقجي متواصلة على مستويات عدة، أثارت إمكانية سوء استغلال الحصانة التي منحت للقنصل من النظام العالمي للقانون الدبلوماسي بشكل خطير مخاوف وموجة من الجدل في صفوف المحامين الدوليين
على الرغم من أن القنصلية السعودية أعلنت قبولها، ظاهريًا، لأي تحقيق شفاف في الصدد، وأفادت أنها على استعداد لفتح أبواب القنصلية لأي فريق تحقيقات، في 13 من أكتوبر/تشرين الأول صرح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن المملكة العربية السعودية لم تبد أي تعاون مع تركيا إلى حد الآن، فيما يتعلق بالبحث عن خاشقجي.
في أعقاب زيارة الأمير خالد الفيصل لتركيا بهدف التأكيد على أن البلاط الملكي يسعى إلى إيجاد حل عاجل للأزمة الدبلوماسية، وبعد 13 يومًا على اختفاء خاشقجي، وبالتحديد في 15 من أكتوبر/تشرين الأول، سُمح للشرطة التركية أخيرًا بتفتيش القنصلية السعودية.
لكن، ونظرًا لأن إسناد السلطات التركية الإذن بتفتيش القنصلية قد جاء بعد فترة طويلة على اختفاء خاشقجي، وفي ظل تسريب صور تظهر بعض عمال النظافة بصدد دخول القنصلية قبل وقت قصير من وصول الشرطة التركية، ألقت هذه المعطيات بظلالها على مدى فاعلية ونجاعة عملية تفتيش القنصلية.
في الوقت الذي لا تزال فيه الآثار السلبية الكارثية لاختفاء خاشقجي متواصلة على مستويات عدة، أثارت إمكانية سوء استغلال الحصانة التي منحت للقنصل من النظام العالمي للقانون الدبلوماسي بشكل خطير، مخاوف وموجة من الجدل في صفوف المحامين الدوليين، مؤخرًا أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس عن قلقه إزاء تحول عمليات الاختفاء القسرية إلى “أمر عادي”.
في واقع الأمر عمد غالب دالاي، الباحث الزائر في جامعة أوكسفورد والزميل في مركز بروكنجز الدوحة، إلى تسليط الضوء على جميع مخاوف المحاميين الدوليين بشكل دقيق من خلال إحدى التغريدات، وفي هذه التغريدة أورد دالاي “عملية قتل خاشقجي في مقر بعثة دبلوماسية تعتبر قضية فريدة من نوعها في تاريخ الدبلوماسية الحديثة، تمثل هذه الواقعة تحديًا للنظام العالمي القائم على جملة من القوانين كما تمهد الطريق لحالة من انعدام القانون على مستوى العلاقات الدولية”.
تؤمن الحصانة القنصلية حماية مماثلة للحصانة الدبلوماسية، لكن الحماية التي توفرها الحصانة القنصلية ليست شاملة مثل الحصانة الدبلوماسية
في حال تناسينا الأهمية الكبيرة لهذه القضية في إطار السياسات الدولية، تعتبر هذه المسألة مهمة للغاية في علاقة بالقانون الدولي، بناء على ذلك، لا بد من معرفة طبيعة الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الدولة المستقبلة – في هذه الحالة تركيا – ضد أي تحركات غير قانونية محتملة قام بها موظفو القنصلية السعودية، الذين يرجح أنهم قد أساؤوا استغلال الحصانة القنصلية، سنحاول تسليط الضوء على الخيارات المتاحة في هذا الصدد.
الحصانة القنصلية
تؤمن الحصانة القنصلية حماية مماثلة للحصانة الدبلوماسية، لكن الحماية التي توفرها الحصانة القنصلية ليست شاملة مثل الحصانة الدبلوماسية، يكمن المصدر الأول الذي يجب أن نعتمده كمرجعية في اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لسنة 1963، التي تعد كل من المملكة العربية السعودية وتركيا طرفان فيها، ووفقًا للمادة 31 / 2 من هذه الاتفاقية، يسمح لسلطات الدولة المستقبلة دخول قنصلية أي دولة موفدة – المملكة العربية السعودية في هذه الحالة – فقط إذا تم الموافقة على ذلك من الدولة الموفدة، وذلك مع مرافقة القنصل وموظفي القنصلية للسلطات المعنية، أو في حال كان هناك حريق أو أي كارثة أخرى تتطلب اتخاذ إجراءات وقائية فورية، بالإضافة إلى ذلك يمنع انتهاك الحقائب القنصلية.
رفع دعوى جنائية ضد موظفي القنصلية
يمكن القول إن الاختلاف الرئيسي بين اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لسنة 1963، واتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لسنة 1961 التي تعرف بأنها تعنى بموظفي السفارة وليس موظفي القنصلية، يتمثل في أنه من الممكن رفع دعوى جنائية ضد موظفي القنصلية في حين أن المسؤولين الدبلوماسيين لديهم حصانة مطلقة، نتيجة لذلك، في حال كان هناك أدلة جدية لرفع دعوى جنائية ضد موظفي القنصلية، يحق للسلطات الأمنية للدولة المستقبلة إيقافهم واستجوابهم واعتقالهم، كما يسمح بدخول مقر إقامة الموظفين، إذا استوجب الأمر ذلك.
الجدل بشأن المادة 55
تنص المادة 55 من اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لسنة 1963 على “دون تحيز لصلاحياتهم وحصانتهم، من واجب الأشخاص الذين يتمتعون بمثل هذه الصلاحيات والحصانة احترام القوانين واللوائح الأساسية الخاصة بالدولة المستقبلة، ويجب ألا تستخدم مرافق القنصلية بأي شكل من الأشكال التي تخالف تكريس وظيفة القنصلية”.
نظرًا لأن القانون الدولي لم ينص على الحصانة المطلقة لفائدة موظفي القنصلية، توجد بعض الإجراءات التي يمكن للسلطات الأمنية التركية أن تتخذها ضد موظفي القنصلية السعودية
تعد أي قضية قتل، على غرار التي يشاع أنها ارتكبت في حق خاشقجي، من دون شك خرقًا لهذه الأحكام، في المقابل تحيل اللغة المعتمدة في المادة 55 – التي تفتح الباب أمام تفسيرات متعددة – إلى استنتاجات مختلفة في صفوف المحامين الدوليين فيما يتعلق بتبعات خرق هذه الأحكام، يشير الرأي السائد، في هذا الصدد، إلى أن الحصانة التي تتمتع بها مقرات القنصليات والبعثات الدبلوماسية تعتبر من المبادئ المقدسة ضمن القانون الدبلوماسي الدولي، وبالتالي لا يمكن تأويل المادة 55 بشكل يتعارض مع هذا المبدأ، من جهة أخرى يجادل البعض الآخر أنه في حال كان هناك سوء استغلال خطير للحصانة القنصلية، بناء على المنطق الذي تستند إليه المادة 55، يجب أن تعتبر هذه الحصانة لاغية.
بشكل عام، نظرًا لأن القانون الدولي لم ينص على الحصانة المطلقة لفائدة موظفي القنصلية، توجد بعض الإجراءات التي يمكن للسلطات الأمنية التركية إتخاذها ضد موظفي القنصلية السعودية، في حال تمكنت من إيجاد أي أدلة فعلية من شأنها دعم الاتهامات التي تفيد بأن موظفي القنصلية قد ذبحوا خاشقجي داخل أسوار القنصلية.
أخيرًا وليس آخرًا، في حال ثبتت صحة الادعاءات والاتهامات بشأن مقتل خاشقجي، سيعني ذلك، قطعًا، أن الحقوق السيادية للدولة التركية وقع انتهاكها من المملكة العربية السعودية، ووفقًا للقانون الدولي تعتبر أنشطة الدول التي تنتهك سيادة دول أخرى خرقًا للقانون والإجراءات الدولية وتستدعي تحمل تلك الدول للمسؤولية.