وأنها لتطالعك منها مآذن وقباب فتقول حاضرة الإسلام الأكبر بالغرب الإسلامي ويطيب لك التيه في أزقتها القديمة والتضوع برائحة بخور العطارين قرب الجامع الأعظم وارتشاف شايها المضمخ بالياسمين، وتود لو تحفظها نصًا عبقريًا في رواية لتعود بها زادًا لسفر بعيد أو هدية لصديق بعيد سمع ولم ير، لكنك لا تعثر عليها في الرواية إلا نتفًا لا تبني صورة واقعية أو مشتهاة، فالكتاب التونسيون يكتبون عيوب مدينتهم لسبب من اثنين إما رغبة في تغييرها نحو الأفضل كما يرونه أو استنقاصًا من تاريخها ونفورًا من أهلها.
صورة استشراقية للمدينة
قبل أن يصير للتونسيين تراث روائي كان هناك قلم استشراقي أقرب إلى الاستعمار منه إلى المعرفة كتب المدينة وأساء إليها، مر كتاب كثر يكتبون بقلم فرنسي فرأوا المدينة بعين الرسام دولاكروا صاحب اللوحة المشهورة عن نساء الجزائر، مدينة كأنها حرملك عثماني فركزوا على حياة القصور الباذخة حيث يمكن مصادفة جوار منعمات في الحرير، لذلك رسموا الحريم ومجلس اللهو وحضر العود والنارجيلة وسلة الغلال والوصيفة الزنجية، مدينة من المخمل مطابقة لشهوة الأوروبي الباحث عن لذة غريبة، فإذا خرجت الريشة أو القلم من القصر رسمت مشربيات مواربة توحي بوجوه شبقة تنتظر اللذة خلف خصاص النوافذ.
لم تكن تلك الصورة الوحيدة، فقد كتبت ورسمت صورة أخرى للأزقة الضيقة والأسواق الشعبية حيث تتكدس مزابل ودواب وبشر بلا ملامح يكسوها سخام، فصام في مدينة واحدة من طبقتين لا رابط بينهما، الغنى والفقر الرفاه والشظف النظافة والقذارة والحضر والبدو، ابن خلدون مقلوبًا.
لم تكن رواية غوستاف فلوبير عن صلامبو بعيدة عن هذه الثنائية وإن اتخذ لها مدينة قرطاج القديمة موطنًا روائيًا، وستتبنى الدولة الحديثة خطة معمارية تستضعف نفسها أمام رواية فلوبير فتطلق أسماء قرطاجنية من الرواية الفرنسية على أحياء المدينة وتصير صلامبو حيًا راقيًا في مواجهة حي بوسلسلة الشعبي أو حي 5 ديسمبر العمالي بالكرم المجاور لقرطاج، حيث تتكدس طبقة عمالية مهمشة تسترزق الآن من جمع قوارير الماء البلاستيكية ضمن مجهودات رسكلة الفواضل التي تعتز بها تونس بصفتها رائدة السياسات البيئية.
في أدب اليسار التونسي الحديث لم تكن المدينة صورة وتراثًا حيًا يتنفس بالناس وللناس بقدر ما كانت معبرًا لصور الذات المهمومة بالمبادئ الكبرى ورهق الإنسان فيها
لقد رأت الدولة الحديثة عاصمتها بعيون فرنسية ومهدت نفسها للسياحة وإبراز وجهها الغرائبي (الأكزوتيكي)، فلم تحرك حجرة رثة من مكانها حرصًا على مشهدية سياحية تحب أن تتيه في البازار التركي الكبير (بتخيله في كل مكان) كما صورته أقلام المنبهرين بالرفاه السلطاني في حاضرة الخلافة حين كان السكن على ضفاف الدردنيل بغية كل أرستقراطي غربي أو فرنسي بالتحديد.
تفاصيل صغيرة
أزعم أنني كتبت المدينة العاصمة وما شابهها في روايتي تفاصيل صغيرة المنشورة سنة 2010 عن دار الجنوب للنشر بتونس، لكن عيني اتجهت إلى نواقص المدينة أكثر مما انتبهت إلى جمالها، لفقد رأيتني أهرب من استعادة الوجه السياحي (الأكزوتيك) فلم أر القذارة في الأسواق الشعبية ولكنني رأيت فقر النساء يقلبن أكداس الملابس القديمة بحثًا عن كساء ساتر بثمن مستطاع، ولم أر كأس الشاي بالياسمين في مقاهي العاصمة القديمة بقدر ما رأيت ساعي المقهى يفتك البقشيش بالقوة من الزبون السياحي وغير السياحي، كان يحدوني لحظة الكتابة أمل أن أرى مدينة جميلة وأصيلة وعلى خلق نبيل، فلم أوسع النظر إلى تراث المعمار والروائح.
روائح المدينة العفنة هي ما رآه الأستاذ حسين الواد (الجامعي والناقد والروائي) الذي طاف حول سجون المدينة وروائح مجاريها وبواليعها التي تنفجر كل شتاء في وجه سكان ما زالوا يتكدسون في أحيائها الشعبية فلا تستوعبهم أي خطة عمرانية، حتى إن القارئ ليشم المدينة في ثنايا الرواية كأنه يتجول بين البواليع.
صور أخرى في القصة والرواية، لكن لا تتخذ المدينة إلا مجال حركة متجه إلى فعل مختلف، فخليفة الأقرع بطل البشير خريف يتجول فوق الأسطح لكن القارئ لا يرى مشهدًا بانوراميًا للمدينة بل ينتظر معه محبوبته ويسمع نواحه العاطفي دون أن يهتم بمنظر المدينة من فوق لأن خليفة المسكين مشغول القلب بمن تحت السطح لا بالسطح نفسه وأي سطح يكشف مدينة؟ فالسطح مغلق كقلب الحبيبة.
بين الإعجاب والاستقذار يتيه النص الأدبي التونسي عن لحظة جمال في المدينة فيزدريها هاربًا من استشراق يتسلل عبر الجمل
في أدب اليسار التونسي الحديث لم تكن المدينة صورة وتراثًا حيًا يتنفس بالناس وللناس بقدر ما كانت معبرًا لصور الذات المهمومة بالمبادئ الكبرى ورهق الإنسان فيها وبها لذلك احتلت بعض المقاهي والحانات موقعًا أكبر من كل ما في المدينة وصارت قهوة باريس وقهوة الكون (L’UNIVERS) في شارع بورقيبة معالم روائية وقصصية دون أن تخرج إلى رؤية الأرواح الهائمة، فنجد وصف زجاجات النبيذ عند جلول عزونة ولا نجد وصف معاناة الفلاحة التي جنت العنب.
الأدب التونسي لا يرى المدينة بعين الرضا
يقول لك السائح المصري في تونس أن تونس مدينة يطيب فيها العيش، فهو يراها بعين القاهري الذي يعيش “وسخ” القاهرة وزحامها، ويقول لك السائح التركي القادم من نظافة مدينة إسطنبول مدينتك قذرة ويغرس سكين النقد في قلبك: كيف تكونون مسلمين ولا تؤمنون بالنظافة، وبين الإعجاب والاستقذار يتيه النص الأدبي التونسي عن لحظة جمال في المدينة فيزدريها هاربًا من استشراق يتسلل عبر الجمل فيقف عند المشربيات القديمة أو مشهد نساء الأزقة ملتفات بالسفساري الحريري الأبيض أو بمشهد الحرفي يصنع الشاشية في الأسواق القديمة منكبًا على حرفة قديمة بحماس لا ينقطع.
لم تتحول المدينة إلى نص خالص بعد
السببان المذكوران أعلاه وجها الكتابة، فإما رغبة عارمة في رؤية مدينة مثالية لا تجد بغيتها أو رغبة عارمة في النقد لا تجد قدرة على الإصلاح فلا تجد فيها إلا العيوب، لذلك ذهب حسنين بن عمو إلى وصف مدينة سابقة في أدبه بالعامية التونسية، فعنده نجد تونس القديمة ولا نجد أثرًا لعاصمة الدولة المستقلة، ربما نجد في بعض السينما أكثر ما نجد في الرواية، والسينما نفسها لم تنج من الدخول في التفاصيل كي تجتنب الصورة المكبرة والكاشفة لمدينة ذات تاريخ عريق، لذلك تأخذ ضاحية مثل ضاحية حلق الوادي حيث تأخذ المطاعم والحانات مكانة أكبر من نهج جامع الزيتونة حيث تعبق المدينة بروائح التاريخ، فهذا تاريخ لا يروق لسينما الحداثة ذات المعين الفرنسي ذوقًا وصناعة.
هل شوّهت الرواية التونسية المدينة التونسية؟ إذا افترضنا حسن النية عند الكتابة وهو افتراض غير نقدي فإن الأدب التونسي غير راض عن المدينة لذلك لم يبنها روائيًا، ولم يعد بناءها في مخيال جمالي يوجه المعمار والسياسة، فإذا أضفنا إلى ذلك الدرس التقني الخالص الذي يتلقاه المهندس والمعماري الذي يبني المدينة وهو خالي البال من التاريخ والثقافة المعمارية فإننا نكتشف مدينة من المربعات الإسمنتية الفاقدة لكل روح، مدينة بلا روح بناها مهندس يعرف أن يقيس الزوايا الحادة فلا يخطئ في الحساب فينسي أن يوسع لحديقة بين العمارات.
قرأنا عن دمشق في عيون كتابها وشربنا أدبًا قاهريًا طاف بنا القاهرة القديمة كأننا عشنا مرحلة بنائها بيتًا فبيت، ولقد كشفت لدليل سياحي قاهري معرفتي بالقاهرة القديمة حتى توقف عن إرشادي واكتفى بمرافقتي إلى أماكن أسميها له فيتهجاها بعيني، لكن قراء الأدب التونسي من غير أهله لن يجدوا تونس في الرواية إلا نتفًا لا تسمح لهم ببناء صورة كاملة، أو لعلها تقودهم إلى أسوأ ما في تونس، ربما يحتاج المرء في تونس إلى عين مختلفة لتكتب له هذه المدينة التي تتيه عن تاريخها.