ممّا لا شكّ فيه، أن التفاصيل المرعبة التي تسرّبت عن قتل الصحفي السعودي “جمال خاشقجي”، من أنّ مدير الطب الشرعي في الأمن العام السعودي كان قد طلب من زملائه تشغيل الموسيقى والاستماع إليها أثناء كلٍ من عمليتي القتل وتقطيع ونشر الجثة، ليست خيالية أو مستوحاةٍ من أساطير قديمة أو رواياتِ رعبٍ، أو حتى من واحدة من تلك الأفلام السايكوباثية التي صوّرت لنا كيف يمكن لمجرمٍ أو مضطرب نفسيّ أن يستمتع بأفعاله الإجرامية على صدى وأنغام الموسيقى.
فقد شهد التاريخ البشريّ عدة حالاتٍ تقاطعت فيها الموسيقى، أحد أجمل الأشياء التي خلقها الإنسان، فعليًا وبشكلٍ غريب مع العديد من الأفعال الإجرامية واللا أخلاقية والمعتلة نفسيًا، أي مع أسوأ الأشياء التي قام بها وصنعها الإنسان على الإطلاق.
تقول التفاصيل المسرّبة لقناة الجزيرة إذن بأنّ الجريمة استغرقت حوالي سبع دقائق فقط، طلب خلالها مدير الطب الشرعي “صالح الطبيقي” من زملائه الاستماع للموسيقى أثناء قيامهم بها. أما صحيفة “يني شفق” التركية فتستفيض قائلةً بأنّهم في البداية بدأوا بتقطيع أصابع خاشقجي، ومن ثم قطع رأسه قبل أن يُكملوا عملية التقطيع.
عاجل | مصادر تركية مطلعة للجزيرة: مدير الطب الشرعي بالأمن السعودي صلاح الطبيقي طلب من زملائه الاستماع للموسيقى أثناء تقطيع جثة خاشقجي
— الجزيرة – عاجل (@AJABreaking) October 16, 2018
ما يعني أنّنا هنا أمام جريمةٍ أشبه ما تكون بالسينمائية. اختطافٌ فقتلٌ فتقطيع الجثة على وقع وأنغام الموسيقى. ولعلّ محبّي السينما فعليًا قد جال ببالهم بادئ ذي بدئٍ مشهد “أنتوني هوبكنز” في فيلمه “صمت الحملان“، حيث أدّى أحد أقوى أدواره مجسّدًا دور “هانيبال ليكتر”، الشخصية الروائية الخيالية آكلة لحوم البشر. على الأقل، ما نعرفه أنّهم اكتفوا بتقطيع جثة خاشقجي دون أنْ يأكلوها.
أنتوني هوبكنز في دور هانيبال ليكتر في فيلم “صمت الحِملان”
مشهد قتل خاشقجي وإن تخيّلناه، لن نجده بعيدًا أبدًا عن مشهد أدولف هتلر وجنوده النازيّين، فقد عُرف عنه حبّه للأوبرا والموسيقى الكلاسيكية لا سيّما تلك التي ألّفها ملحّنه المفضّل وملهمه الموسيقي “ريتشارد فاغنر”. إذ ذكر هتلر في كتابه “كفاحي” من أنّ جلّ مصروفه في سنوات المراهقة كان يذهب لحفلات الأوبرا التي يؤلفها فاغنر الذي بدأ لاحقًا بتأليف العديد من المقطوعات الموسيقية التي وظّف فيها الكثير من الأساطير الألمانية التي غذت أفكار هتلر.
أمّا الروايات فتخبرنا من أنّ هتلر كان فعليًا يستمتع بالموسيقى الكلاسيكية أثناء قيام جنوده بأفعالهم النازية والوحشية. عوضًا عن أنه أمر بتخصيص أوركسترا خاصة لمعسكرات الاعتقال، تعزف ألحان باخ وبيتهوفن وفاغنر لتسلية وإمتاع الجنود القائمين على تعذيب المساجين. كما كانت تلك الألحان تُبثّ عبر مكبّرات الصوت في ساحات الإعدام والقتل الجماعي. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، نشأ في ألمانيا جيلٌ كاملٌ ارتبطت الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية في عقله الجَمعي بالقتل والتنكيل والتعذيب.
أدولف هتلر في أحد حفلات “ريتشارد فاغنر” الكلاسيكية
تمامًا كما صوّرت السينما العديد من مشاهد القتل والإجرام وأخرى لأشخاص مضطربين عقليًا على أنغام الموسيقى الكلاسيكية؛ فهناك بيتهوفن في فيلم ستانلي كوبريك “برتقالة آلية” وفيلم “بؤس“، وموزارت وباخ في فيلم “صمت الحملان“، وألفريد هتشكوك في فيلم “سايكو“، وغيرها الكثير. ولعلّ الموسيقى الكلاسيكية من أكثر أنواع الموسيقى قدرةً على بثّ المشاعر المتنوعة في النفوس، ما بين الاسترخاء والرعب وإثارة الفزع والخوف والترقّب. إضافةً إلى دورها الحقيقيّ أحيانًا في إضفاء الجانب الإنسانيّ لتلك الشخصية الإجرامية أو المتوحّشة.
تخيّل قاتلًا أو مُغتصبًا يستمع لموزارت أثناء قتله أو اغتصابه. حسنًا، هذا ما تجده في تلك الأفلام وغيرها. ففي أحد مشاهد “صمت الحِملان”، يظهر “هانيبال ليكتر” كما هو عليه، ذلك القاتل المتسلسل المتعلّم والمثقف والمحبّ للموسيقى الكلاسيكية، محاولًا الهرب من حجزه في السجن بعد ضربه لأحد الحراس وأكل وجهه على أنغام معزوفة باخ الشهيرة “Goldberg Variations: Aria”.
مشهد من فيلم “صمت الحِملان” على موسيقى يوهان سباستيان باخ
التعذيب بالموسيقى: شكلٌّ سايكوباثيٌّ آخر
قد تستغرب للوهلة الأولى من مصطلح “التعذيب بالموسيقى” ويعجزون عن تخيّله أو فهمه، فلطالما ارتبطت الموسيقى بتلك الأصوات النقية التي تبعث في النفس جلالةً ورهبة. لكن ما لا يعرفه الكثيرون أيضًا أنّ العديد من الدول تستخدم الموسيقى كشكلٍ من أشكال التعذيب الذي يُمارس يوميًا على السجناء لإخضاعهم وكسر إرادتهم نفسيًا ومن ثمّ إجبارهم على الاعتراف والإدلاء بالمعلومات المطلوبة.
ولا نعرف بالتحديد متى ظهر هذا النوع وكيف تطوّر، لكن على ما يبدو أنّه أسلوب ناشئ من فكرة التعذيب بالصوت العالي والذي كان الأفراد يلجأون إليه قديمًا مثل أصوات الطبول والصفّارات. كما يمكننا أيضًا اعتبار ما كانت تفعله ألمانيا النازية في معسكرات التعذيب من تشغيل موسيقى الأوركسترا الألمانية كنوعٍ من أنواع التعذيب أيضًا، فكلّ ما كانت تهدف إليه هو تحطيم اليهود معنويًا وإيصال رسائل وشعارات نازية لهم.
وفي فيلم “القيامة الآن Apocalypse Now“، يشغّل سربٌ من المروحيات الأمريكية على مكبّرات الصوت أنغامًا كلاسيكية لريتشارد فاغنر بينما تقوم بمهاجمة إحدى قرى فيتنام كشكلٍ من أشكال الحرب النفسية.
مشهد من فيلم “القيامة الآن” حيث تُستخدم الموسيقى الكلاسيكية كشكلٍ من أشكال التعذيب النفسيّ
في السنوات الأخيرة، قامت السجون الأمريكية والإسرائيلية ومن قبلهم الاتحاد السوفييتي باتباع هذا النهج، أي تعريض السجناء والمعتقلين إلى الموسيقى الصاخبة لأوقات طويلة من أجل إبقائهم مستيقظين لفترات طويلة من الزمن، ونحن هنا لا نتحدث عن ساعاتٍ أو أيام، بل يصل الأمر إلى عدة أسابيع وربما أشهر. أمّا جوهره فيقوم على فكرة أنّ الألم الجسدي يمكن تحمّله أو الاستعداد له، لكن من المستحيل أنْ يتحمّل المرء الألم النفسيّ.
بعيدًا عن السينما: هل يحبّ السايكوباثيون والقتلة الموسيقى حقًا؟
يقول علماء النفس إنه على عكس ما يجسّده “أليكس” في فيلم “A Clockwork Orange” و”هانيبال ليكتر” في فيلم “Silence of the Lambs”، فإنّ المضطربين أو المعتلين نفسيًا ليسوا من المعجبين بالموسيقى الكلاسيكية كما تصوّرهم تلك الأفلام ووسائل الإعلام الأخرى. لكنّهم في الوقت نفسه يمتلكون ذائقة وتفضيلات موسيقية خاصة بهم، تدور معظمها حول الجاز والراب، قد تمكّن العلماء من دراستها لتحليل شخصياتهم ودوافعهم في حال تمّ تحديدها فعليًا.
لا نستطيع أبدًا أنْ نجزم أو نتنبّأ بنوع الموسيقى التي طلب مدير الطبّ الشرعي السعودي تشغيلها أثناء قتل وتقطيع خاشقجي، لكننا بكلّ تأكيد نستطيع القول أنّ هكذا فعلٍ لا يمكن أنْ يصدر إلا عن شخصٍ سايكوباثيّ ساديّ وربما أكثر
وبالرغم من أن الأبحاث والدراسات المتخصصة في هذه القضية ضئيلة للغاية، إلا أنّ ثمّة محاولة أُجريت قبل عامٍ تقريبًا، حاول فيها عدد من علماء النفس في جامعة نيويورك لدراسة التفضيلات الموسيقية التي يمكن لها أنْ تلقى استحسانًا لمن يتصفون بالاضطراب أو الاعتلال النفسي، أو الشخصية السايكوباثية بتعريفٍ آخر.
ما خرجت به الدراسة كان عبارة عن مجرّد افتراضات. الشخصية السايكوباثية لا تميل كثيرًا إلى موزارت وباخ وبيتهوفن كما تصوّرها الأفلام. لكنها أكثر ميلًا للاستماع لأغاني البوب الشعبية والراب والميتال الثقيلة، عوضًا عن كونهم يفضّلون الاستماع للموسيقى البحتة على استماعهم للأغاني ذات الكلمات.
لكن ممّا لا شكّ فيه فنحن أمام فعلٍ صادرٍ من شخصٍ غير سويّ نفسيًا، وإنما يعاني من أعراض الاعتلال النفسي أو السايكوباثية، والذي يصنّف وفقًا للدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للاضطرابات العقلية (DSM-5) تحت بند “الااضطرابات الشخصية المعادية للمجتمع”، والتي يمكن أنْ تظهر في صورة الإنسان العاقل وربما جذابة، لكنّها تتصف بالعدوانية والميل إلى الاحتيال والخداع والاستهتار بسلامة النفس والآخرين.
كما يمكن للشخصية السايكوباتية أيضًا أن تتسم بالسادية، أي الاستمتاع بتعذيب الآخرين جسديًا أو عاطفيًا بهدف المتعة أولًا وإثبات السيطرة ثانيًا. وبذلك، لا نستطيع أبدًا أنْ نجزم أو نتنبّأ بنوع الموسيقى التي طلب مدير الطبّ الشرعي السعودي تشغيلها أثناء قتل وتقطيع خاشقجي، لكننا بكلّ تأكيد نستطيع القول أنّ هكذا فعلٍ لا يمكن أنْ يصدر إلا عن شخصٍ سايكوباثيّ ساديّ وربما أكثر.