سرعة فائقة يسير بها قطار أزمة اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي، دون التقاط الأنفاس، متجاوزًا بذلك العديد من المحطات التي كان يجب أن يتوقف عندها ولو قليلاً، ليدخل نفقًا جديدًا من الإثارة والغموض وذلك بعد المغادرة المفاجئة للقنصل السعودي في إسطنبول محمد العتيبي، أمس، وتوجهه إلى الرياض قبيل وصول المحققين لتفتيش منزله وجمع أدلة تتعلق بالقضية.
الرحيل المفاجئ أثار الكثير من الشكوك ودعم الروايات التي تدين المملكة، خاصة بعدما كشف مصدر تركي مطلع على مجريات التحقيق في القضية أن “فرق التحقيق التركية تمتلك تسجيلات توثق تفاصيل عملية قتل خاشقجي بحضور العتيبي”، مشيرًا إلى أن عملية الاغتيال استغرقت دقائق محدودة، وجرى تقطيع الجثة بعد تعرضها للضرب والحقن.
الرياض باتت في موقف لا تحسد عليه، ورطة حقوقية وسياسية كبيرة، ليس بسبب قتل صحفي معارض فحسب، لكن تعاطيها مع الأزمة منذ البداية وإصرارها على الإنكار ثم التراجع وإبداء المرونة ثم العودة مرة أخرى بعد الاتفاق مع الجانب الأمريكي على تسوية القضية، يضع سمعتها الخارجية على المحك، هذا بخلاف تشويه صورة نظامها الحاكم داخليًا وهو ما دفع الأخير إلى اتخاذ بعض الإجراءات في محاولة لتسكين الرأي العام السعودي وإلهائه عن القضية التي قد تحمل أول مسمار في نعش نظام ابن سلمان ما لم يتم غلقها بالطرق الأخرى.
تفنيد الرواية السعودية الأمريكية
الأوتار التي تم العزف عليها سعوديًا خلال الأيام الأربع الأخيرة تمحورت حول تصدير الرواية الخاصة بتبرئة ساحة ابن سلمان من الجريمة، خاصة بعد تصاعد المطالب التي تنادي بتفعيل “قانون ماجنيتسكي” الذي يمكن الإدارة الأمريكية من الملاحقة الدولية للمتورطين في قضايا حقوق الإنسان، وهو الذي استند إليه 22 عضوًا بمجلس الشيوخ الأمريكي في رسالتهم للرئيس دونالد ترامب التي طالبوه فيها بفتح تحقيق سريع في القضية.
وبينما يجيش الإعلام السعودي أذرعه في الداخل والخارج لإخراج ولي العهد من دائرة الشكوك، كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أن عددًا من المشتبه بتورطهم في اغتيال خاشقجي بقنصلية بلاده في إسطنبول لهم صلات بمحمد بن سلمان.
وأضافت الصحيفة أنه إذا صح ما سربته السلطات التركية من كون 15 سعوديًا قدموا إلى إسطنبول في نفس يوم اختفاء خاشقجي بقنصلية بلاده (2 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ) وتورطوا في قتله، فإن ذلك يجعل ابن سلمان على صلة مباشرة بالقضية، وسيكون من الصعب تبرئته منها.
المعلومات التي أوردتها الصحيفتان في تقريرهما تضعف وبشكل كبير الرواية التي حاولت السلطات السعودية والرئيس الأمريكي دونالد ترامب ترويجها بشأن هذه القضية، ومفادها أن عملية قتل خاشقجي نفذها “قتلة مارقون” دون علم السلطات السعودية
الصحيفة اعتمدت في تقريرها على معلومات جمعتها عن المشتبه بهم من خلال صور وتسجيلات سابقة لأنشطة رسمية لولي العهد إضافة إلى تقارير إخبارية سعودية ووثائق سعودية مسربة وقاعدة بيانات هاتفية وشهادات شهود في السعودية وفي بعض الدول التي زارها ابن سلمان.
وخلص التقرير أن تسعة من المشتبه بهم على الأقل يعملون في الأمن والجيش والحكومة السعودية، منهم ماهر عبد العزيز مترب الذي كان يعمل دبلوماسيًا بالسفارة السعودية في لندن وسافر كثيرًا مع ابن سلمان وربما كان من حرسه الخاص، كما أنه كان برفقته في أثناء زيارته الأخيرة إلى أمريكا، ورحلاته إلى باريس ومدريد.
كذلك المشتبه به عبد العزيز محمد الحساوي الذي قالت عنه الصحيفة إن فرنسيًا عمل مع الأسرة السعودية المالكة تعرف عليه وقال إنه من الفريق الأمني الذي يسافر مع ابن سلمان، فيما تشير تقارير إخبارية سعودية تحدثت عن أن المشتبه به ثائر غالب الحربي رقِّي العام الماضي إلى رتبة ملازم في الحرس الملكي السعودي “لبسالته وشجاعته في الدفاع عن القصر الملكي الذي تعرض لهجوم في مدينة جدة”، وأن المشتبه به محمد سعد الزهراني هو الآخر عضو في الحرس الملكي.
فيما كشفت 3 مصادر مطلعة على القضية، في تصريحات خاصة لـCNN، أن “العقل المدبر” الذي نظم وأشرف على العملية التي استهدفت خاشقجي هو ضابط رفيع المستوى في جهاز “رئاسة الاستخبارات العامة السعودية”، وأضاف أحدهم أن الضابط رفيع المستوى مقرب من الدائرة الداخلية لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
الرياض باتت في موقف لا تحسد عليه، ورطة حقوقية وسياسية كبيرة، ليس بسبب قتل صحفي معارض فحسب، بل لتعاطيها المضطرب مع الأزمة منذ البداية وإصرارها على الإنكار ثم التراجع
المعلومات التي أوردتها الصحيفتان في تقريرهما تضعف وبشكل كبير الرواية التي حاولت السلطات السعودية والرئيس الأمريكي دونالد ترامب ترويجها بشأن هذه القضية، ومفادها أن عملية قتل خاشقجي نفذها “قتلة مارقون” دون علم السلطات السعودية، وهو ما تهرول الرياض لإثباته.
التحقيقات التركية أثبتت بالأدلة تورط السعودية في قتل خاشقجي
مساعي الخروج من المأزق
بعد مرور ما يقرب من أسبوعين على اختفاء خاشقجي إثر دخوله قنصلية بلاده في إسطنبول، تزداد القناعات داخل الأوساط السياسية والإعلامية لا سيما الغربية بمسؤولية ابن سلمان عن مقتله، فيما تتصاعد خلال الساعات الأخيرة تكهنات البحث عن “كبش فداء” تفكر المملكة في تقديمه لإنقاذ ولي عهدها.
الصحف الأمريكية لا سيما “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” نقلت أكثر من مرة عن مصادر خاصة بها، مسؤولية محمد بن سلمان عن عملية الإخفاء ومن بعدها القتل، هذا بخلاف ما كشفته جهات التحقيق التركية، الذي تأكد بصورة أو بأخرى بعد تفتيش مقر القنصلية السعودية في إسطنبول.
ولا يزال البحث عن “كبش فداء” لتحمل مسؤولية الحادث بعدما أثير بأن تقريرًا تعده الرياض الآن يتناول اعترافًا بقتل خاشقجي بالخطأ، فيما كشفت بعض المصادر أن هناك قرارًا بالإطاحة بوزير الداخلية السعودي عبد العزيز بن سعود بن نايف ورئيس المباحث العامة عبد العزيز بن محمد الهويريني، وذلك بعد اتهامهما بالمسؤولية عن القتل غير المتعمد خلال التحقيق، حسبما نقل موقع”عربي21“.
السعودية وضعت في حسابات أمريكية مبلغ 100 مليون دولار بدعوى دعم الجهود الأمريكية في سوريا، وذلك يوم أمس الثلاثاء، وهو اليوم نفسه الذي وصل فيه بومبيو إلى الرياض
فيما ذكر الكاتب الصحفي المقرب من دوائر الاستخبارات العالمية، ديفيد إجناتيوس ، في مقال له في “واشنطن بوست” أن اللواء أحمد العسيري، نائب رئيس المخابرات السعودية، قد يكون كبش الفداء القادم، وأضاف نقلا عن أحد المصادر المطلعين على تقارير المخابرات الغربية أن العسيري قد تواصل مع بن سلمان أكثر من مرة بشأن التعامل مع خاشقجي وإحضاره للمملكة.
يذكر أن ترامب خاطب ابن سلمان مساء أمس الثلاثاء للاستيضاح بشأن القضية، قائلاً: “ولي العهد أبلغني أنه بدأ بالفعل وسيوسع على نحو سريع نطاق التحقيق في اختفاء خاشقجي”، مشيرًا إلى أن ابن سلمان نفى تمامًا معرفته بما حدث في قنصليتهم بتركيا، وذلك بعد يوم واحد فقط من اتصاله بالعاهل السعودي الذي نفى هو الآخر معرفته بما جرى للكاتب السعودي، وهو ما دفع ترامب إلى التلويح بأن “قتلة مارقين” قد يكونون وراء الجريمة.
زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للرياض أمس حملت هي الأخرى خريطة طريق للسعودية للخروج من الأزمة، خريطة تتضمن الاعتراف بارتكاب موظفين أمنيين سعوديين جريمة قتل خاشقجي بطريقة غير متعمدة، ثم محاولة تغييب الجثة، وتشير بعض المصادر إلى أن زيارته لتركيا المقررة اليوم الأربعاء ستأتي في محاولاته لتمرير هذه الخطة.
جدير بالذكر أن السعودية وضعت في حسابات أمريكية مبلغ 100 مليون دولار بدعوى دعم الجهود الأمريكية في سوريا، وذلك يوم أمس الثلاثاء، وهو اليوم نفسه الذي وصل فيه بومبيو إلى الرياض، حسبما كشفت “نيويورك تايمز” في تقرير لها.
خريطة طريق حملها بومبيو لإنقاذ الرياض من مأزقها
ماذا عن السعوديين؟
تعامل الشارع السعودي مع الأزمة في أيامها الأولى بنوع من اللامبالاة والسخرية والتقليل من وقعها، في ظل إنكار السلطات للتهم الموجهة للمملكة، معتبرًا أنها لا تعدو كونها جزءًا من المخطط الذي يستهدف السعودية والنيل منها، لكن مع مرور الوقت وتطور الأحداث بهذه الصورة السريعة وكشف النقاب عن العديد من الأدلة عن تورط المملكة فعلاً في عملية الاختفاء ثم القتل، تغير الوضع نسبيًا ما أثار الكثير من التساؤلات على ألسنة السعوديين.
حالة من القلق المتواصل من تأثر صورة ولي العهد أمام شعبه، خاصة وهو الذي أكد في تصريحات سابقة أن خاشقجي خرج من القنصلية بعد دقائق من دخوله
ومع تبدل موقف الرياض من الإنكار التام للحادثة إلى تشكيل لجنة تحقيق مشتركة مع تركيا وفتح قنوات التواصل مع الولايات المتحدة لتسوية القضية عبر اعتراف ضمني بعملية القتل وإن كان دون علم سلطات المملكة، حسبما أشارت بعض المصادر، باتت صورة السعودية على المحك، وسمعتها في خطر، ومن ثم كان لا بد من التحرك داخليًا لتسكين الرأي العام وتخديره قبل تفاقم الأوضاع.
القلق من تأثر صورة ولي العهد أمام شعبه، خاصة وهو الذي أكد في تصريحات سابقة أن خاشقجي خرج من القنصلية بعد دقائق من دخوله، وهي التصريحات التي تم تفنيدها بصورة كلية بالأدلة، فضلاً عن اللجوء إلى ترامب – وهو الذي صعد خلال الأيام الأخيرة من لهجة السخرية والابتزاز ضد المملكة مخاطبًا إياها بضرورة الدفع مقابل حمايتها وإلا فلن يكمل العاهل السعودي في منصبه أكثر من إسبوعين – لحلحلة الأزمة وتسويتها، دفع الإدارة السعودية إلى البحث عن سبيل لتهدئة الرأي العام الداخلي.
الشحن المتواصل عبر منصات الإعلام وداخل أروقة المدارس والجامعات وفي الملتقيات المجتمعية بالوقوف خلف القيادة السعودية تزامنًا مع بعض المغريات على غرار إعادة العلاوات السنوية الملغاة يشي إلى قلق وخوف ما ينتاب الرياض
بالأمس أفادت وسائل إعلام سعودية بصدور تعليمات عليا بإعادة العلاوة السنوية لموظفي الدولة اعتبارًا من العام المقبل، وذلك في قرار مفاجئ لم يسبق الحديث عنه، وبذلك تلغي الرياض قرار إلغاء العلاوة الذي اتخذته أواخر 2016 وذلك تزامنًا مع تراجع أسعار النفط آنذاك.
القرار فسره البعض بأنه مغازلة ملكية للسعوديين لتوجيه أنظارهم عن الورطة التي باتت فيها المملكة، فيما شحنت قطاعات الدولة كافة جهودها لمؤازرة السعوديين لبلادهم في مأزقها الحاليّ، وهو ما حرصت عليه هيئة كبار العلماء وغيرها من الجهات الأخرى مؤكدة وقوف الشعب خلف قيادته ومع حكومته ضد أي تهديدات خارجية، فضلاً عن عزف وسائل الإعلام السعودية على هذا الوتر.
الشحن المتواصل عبر منصات الإعلام وداخل أروقة المدارس والجامعات وفي الملتقيات المجتمعية بالوقوف خلف القيادة السعودية ورفضها أي تهديدات خارجية تزامنًا مع بعض المغريات على غرار إعادة العلاوات السنوية الملغاة يشي إلى قلق ما ينتاب الرياض وهو ما دفعها لبذل الجهد لتسكين الشارع لديها، خاصة مع قرب الانتهاء من التحقيقات التي تذهب معظم مؤشراتها إلى إدانة كاملة للسعودية.
وتبقى الساعات القليلة القادمة حبلى بالعديد من المفاجآت في القضية الأكثر إثارة في تاريخ السعودية منذ حادثة الحادي عشر من سبتمبر 2001، ويبقى مصير ولي العهد وكبار رجالات الدولة مرهونًا بتسوية باهظة الثمن وسط دعوات دولية لاتخاذ عقوبات حازمة ضد المتورطين أيًا كانت مناصبهم.