نتعرض يوميًا إلى آلاف الإعلانات التجارية، فلا نكاد نلتفت يمينًا أو يسارًا دون أن نرى إعلانًا لأحذية “نايك” أو مشروب “كوكا كولا” وإذا دخلنا إلى أحد المجمعات التجارية فلن نرى سوى مزيد من أسماء العلامات التجارية التي تدعونا بإلحاح لشراء منتجاتها والإدمان عليها، إذ يصل بنا الحد أحيانًا إلى التعريف بأنفسنا من خلال استعارة أسمائها.
فعلى سبيل المثال، قد يقول أحدهم “أنا من جماعة آبل”، بينما يقول الآخر “أنا من جماعة سامسونغ”، ما يعني أنه يميل إلى مواصفات ومميزات جهاز معين أكثر من الآخر، والسؤال هنا: ما الذي يربط الأفراد بالعلامات التجارية إلى هذا الحد؟ وهل تنتهي هذه العلاقة في المستقبل القريب؟
كيف تستحوذ العلامات التجارية على عقولنا وجيوبنا؟
قبل 80 عامًا تقريبًا كانت الشركات التجارية ملزمة فقط بتقديم منتج ذي جودة جيدة حتى تضمن نجاحها واستمرارها في السوق، ولكن في منتصف القرن العشرين تغيرت هذه المقاييس واضطرت الشركات إلى البحث عن طرق جديدة لجذب المستهلك والتميز عن منافسيها.
وبالفعل في بداية الخمسينيات بدأت الشركات تتبع نظام “العلامة التجارية”، بعد أن بذلت جهدًا منقطع النظير في تطوير إستراتيجية التسويق من خلال تخصيص قسم خاص فقط بإدارة الإعلانات والعروض الترويجية وتصميم الأغلفة الأنيقة وتأليف الشعارات والعبارات المصاغة بدقة، إلى أن استطاعت في النهاية أن تضيف رابطًا عاطفيًا مبنيًا على الثقة بينها وبين المستهلك.
العلامة التجارية عبارة عن عقد مبرم بين الشركة والمستهلكين، فإذا انتهى هذا العقد بسبب الأداء الضعيف أو سوء التصرف، سيبرم المستهلك عقدًا مع علامة تجارية أخرى
أو كما شبهها سيمون كليفت الرئيس التنفيذي السابق للتسويق في شركة يونيلير، بـ”العقد المبرم بين الشركة والمستهلكين، فإذا انتهى هذا العقد بسبب الأداء الضعيف أو سوء التصرف، سيبرم المستهلك ببساطة عقدًا مع علامة تجارية أخرى”، مع العلم أن هناك نحو 500 ألف علامة تجارية في العالم.
من ناحية علمية، يفسر لنا العلم سبب انجذابنا إلى العلامات التجارية، فتقول مولي رينولدز الكاتبة التسويقية: “عندما نكون أطفالًا فإن عقولنا تشبه الألواح الفارغة الخالية من أي تجارب أو خبرات سابقة، وتطوير المفردات جزء مهم في عملية التعلم، ففي الوقت الذي سنبلغ فيه سن العاشرة سنتعرف تقريبًا على نحو 10 آلاف كلمة، وهي كلمات ذات تأثير سلبي أو إيجابي على أفكارنا ومشاعرنا”.
تضرب رينولدز مثالًا على هذه الدلالات وتقول إذا كانت ذكرياتنا في أيام الطفولة مع قطط الحي جميلة ولطيفة، يعني أن كلمة “قطة” كونت مشاعر إيجابية بداخلنا، أما إذا كانت قطط الحي في ذاك الوقت مؤذية وشرسة، فتصبح كلمة “قطة” مرتبطة بعواطف سلبية مثل الخوف، أي أن كلمة “قطة” لا تجعلنا نفكر فقط في القطط أنفسهم، بل تذكرنا بماذا نشعر أيضًا، وهو ما يُعرف بـ”الارتباط الضمني”.
وتكمل رينولدز: “في الوقت الذي نكون فيه بالغين، فإن الدلالات الإيجابية أو السلبية التي ارتبطنا بها مع هذه الكلمات تصبح متينة جدًا، فنحن إما نحب القطط أو لا نحبها، لم تعد عقولنا فارغة كما كان الحال عندما كنا صغارًا”، وهذا ما ينطبق على أسماء العلامات التجارية أيضًا.
العلامات التجارية ليست فقط إجراءات تسويقية وشعارات فارغة، بل أساس في ضمان استمرار نجاح الشركة
على سبيل المثال، عندما نسمع عن اسم ماركة للمرة الأولى، نعود أطفالًا أدمغتنا فارغة ولا نملك أي تصورات أو دلالات إيجابية أو سلبية عن الكلمة، ولكن إذا سمعنا بكلمة “نايك” مثلًا فبناءً على تجاربنا السابقة معها، سنربط اسم الماركة بمشاعر إيجابية أو سلبية تدفعنا في كل مرة إما لشراء هذه السلعة أو الابتعاد عنها.
وهذا هو السبب في أهمية اسم العلامة التجارية بأنها تمنح المستهلكين فرصة لتعلم كلمة جديدة وإضفاء دلالات جديدة عليها كما لو كانوا أطفالاً، وبهذه الطريقة، يتعلم الناس ربط العلامة التجارية مع الأشياء الجيدة، ما يعني أن العلامات التجارية ليست فقط إجراءات تسويقية وشعارات فارغة، بل أساس في ضمان استمرار نجاح الشركة.
شركات بلا إعلانات ترويجية أو سياسات تسويقية
في عام 1986، نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالًا بعنوان “لا رتوش، لا مبيعات” تتبعت فيه ارتفاع وانخفاض مبيعات المنتجات الخالية من العلامات التجارية والمغلفة بشكل بسيط والمباعة بسعر منخفض، ورأت أن المبيعات تنخفض بسبب عدم ثقة المستهلك بجودتها، إضافة إلى إطلاق العلامات التجارية المنافسة عروضًا على منتجاتها بأسعار مناسبة، فما كان من المستهلكين إلا الرجوع لأصحاب العلامات التجارية، لا سيما أن الناس لم تعد تقضي الكثير من الوقت في التفكير والمقارنة بين أسعار المنتجات.
يضاف إلى ذلك أسباب أخرى، منها أن هذه المنتجات تحافظ على انخفاض أسعارها من خلال تقليص تكاليف التسويق والترويج، ولكن دون إعلانات كيف سيعرف المستهلك بوجود هذه السلعة؟ وكيف سيقتنع بجودتها؟ ولماذا سيختارها بديلًا عن العلامة التجارية المنافسة؟
هذه المنتجات تحافظ على انخفاض أسعارها من خلال تقليص تكاليف التسويق والترويج، ولكن دون إعلانات كيف سيعرف المستهلك بوجود هذه السلعة؟ وكيف سيقتنع بجودتها؟
ومع ذلك، ظهرت بعض الأصوات التي تؤيد الشركات الخالية من الأسماء التجارية والشعارات، على اعتبار أن الشركات التجارية العملاقة لم تعد تهتم بجودة منتجاتها وخدماتها كما تهتم بإستراتيجيات التسويق الذي يستنزف القدر الأكبر من ميزانيتها.
أشارت إلى ذلك الصحفية السياسية نعومي كلاين في كتابها “لا شعار”، قائلة: “الفجوة الهائلة بين تكلفة المواد الخام وقيمة المنتج في السوق ليس لها أي تفسير سوى الجشع، ذلك الجشع الذي يمكن قراءته من التكاليف الهائلة لسياسات التسويق التجاري وإستراتيجيات الترويج للاستهلاك.
منتجات بلا أسماء أو شعارات، فهل يكون لها مستقبل في السوق؟
في عام 1980، تأسست شركة “موجي” اليابانية التي تعتمد على مبدأ “عدم وجود علامة تجارية” على منتجاتها، وتتميز ببساطة تصميمها وتسعى إلى الاستغناء عن المواد السامة والمضرة في تصنيع المنتجات، كما تحاول الاعتماد على إعادة التدوير وتجنب النفايات في الإنتاج والتعبئة، حيث تتراوح منتجاتها بين الأغراض المنزلية والمواد الغذائية والقرطاسية والمكتبة.
بحسب إحصاءات عام 2000، فإنها تبيع أكثر من 7 آلاف منتج، واليوم تملك نحو 800 متجر في العديد من دول العالم مثل أمريكا وبريطانيا وتركيا والسويد وألمانيا والإمارات وفرنسا وإيطاليا والكويت والهند والنرويج والسعودية وقطر والبحرين.
تهدف هذه الشركة إلى توفير منتجات ذات جودة عالية وأسعار معقولة وتصاميم مستدامة، وهذا ما يشير إليه معنى اسمها المختصر من “Mujirushi Ryōhin” الذي يعني “بضائع ذات نوعية جيدة من دون ماركة”، على أساس أن المنتج لن يحمل اسمًا تجاريًا بل سيحمل قيمة دائمة.
شركة “براندليس” الأمريكية تهدف إلى تحقيق ثورة في صناعة المستلزمات اليومية والضرورية من خلال توفير 40% من أموال المستهلكين من خلال التخلص من تكاليف التعبئة والتغليف والتسويق
مثال آخر، شركة “براندليس” الأمريكية التي تهدف إلى تحقيق ثورة في صناعة المستلزمات اليومية والضرورية من خلال بيع نحو 300 سلعة تتراوح قيمتها بين الـ1.50 و5 دولارات، ساعية إلى توفير 40% من أموال المستهلكين من خلال التخلص من التكاليف المرتبطة بالعلامة التجارية من تعبئة وتغليف وتسويق وإعلان.
العام الماضي، حصلت الشركة على تمويل بقيمة 50 مليون دولار أمريكي، ما ساعدها على النمو والانتشار بقوة وثقة والتمسك بمبدأ أن المنتج الجيد لا يعني تكاليف أكثر، لذلك تعمل الشركة على إقناع المتسوقين أنه على الرغم من الأغلفة المتواضعة، فإن منتجاتها تتساوى بالفعل مع أكثر العلامات التجارية الموثوقة التي عرفوها وأحبوها.
لكن المراقبين يعتقدون أنه من الصعب جدًا إقناع المستهلكين بتبديل تفضيلاتهم وخياراتهم لادخار بعض الدولارات، لا سيما أنهم ليسوا متخصصين أو مهتمين بتفاصيل السياسات التسويقية، أما الجانب المثير للسخرية هو اعتبارهم أن احتجاج شركة على العلامات التجارية الكبرى لن يكون ناجحًا إلا إذا تمكنت من بناء علامة تجارية خاصة بها تعمل بشكل فعال وملحوظ، لأن حتى الشركات التي تسعى إلى تعطيل مسيرة العلامات التجارية الشهيرة، لا تزال بحاجة إلى علامة تجارية خاصة بها لتحقيق النجاح.