“هل أعود إلى المسالخ هناك، حيث أبحث عن الموت فلا أجده؟” بهذه الكلمات عبر هادي أبو راجي عن رفضه العودة من مدينة طرابلس اللبنانية إلى سوريا تحت ظل حكم نظام الأسد، ورغم عودة الكثير من السوريين إلى بلادهم، ونزوح عدد من اللبنانيين نحو سوريا هربًا من التصعيد الإسرائيلي المتزايد ضد “حزب الله”، يظل أبو راجي متمسكًا بقراره ومؤكدًا “لن أعود إلا محمولًا في نعش”.
يعيش أبو راجي، ابن الـ50 عامًا الذي ينحدر من ريف حلب، وسط المدينة طرابلس اللبنانية منذ 6 سنوات، وهي أفضل مدينة تضم السوريين، حسب تعبيره، ويعمل في قطاع البناء والإنشاءات براتب مقبول، ورغم تعمد مالك بيته رفع أجرة منزله إلى 350 دولارًا بعد ارتفاع إيجار المنازل بسبب النزوح من جنوب لبنان، فإنه وافق دون أي اعتراض.
تحولت طرابلس مؤخرًا لمدينة مكتظة بالنازحين، سوريين ولبنانيين، الهاربين من القصف الإسرائيلي، فامتلأت الصالات والمدارس والحدائق والمحلات التجارية الفارغة، وهي مشاهد باتت مألوفة بالنسبة لأبو راجي الذي يقول لـ”نون بوست”: “لقد عايشنا تجارب أقسى مما عاشه اللبنانيون، فعلى الأقل تقوم إسرائيل بتحذير المدنيين قبل استهدافهم، أما نحن السوريون فكنا نراقب البرميل وهو يسقط علينا ونشاهد الميليشيات وهي تقتل أطفالنا، لذلك أُفضّل الجوع والموت هنا على اعتقالي وأسرتي من قبل النظام”.
وأشار أبو راجي إلى أن عددًا كبيرًا من السوريين، وخاصة الفارين من الجنوب اللبناني، توجهوا نحو المعابر الحدودية للعودة إلى محافظاتهم السورية، غير مهتمين بالمخاطر التي قد يواجهونها، سواء كانت اعتقالًا أم احتجازًا، مشيرًا إلى أن سبب عودتهم الرئيسي هو عدم وجود مكان آخر يلجؤون إليه، كون بعضهم نام في العراء لأيام عدة، حيث غادر الكثير منهم دون أي ممتلكات، وإن عادوا إلى بيوتهم فلن يجدوا شيئًا من ممتلكاتهم، إذ أصبحت بحوزة جيرانهم، في مشهد يحاكي مشاهد النزوح السوري خلال أوج العمليات العسكرية للنظام ضد المدنيين.
ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 96 سوريًا في لبنان جراء القصف الإسرائيلي الذي يطال عدة مناطق لبنانية، في الفترة بين 23 و30 من سبتمبر/أيلول الماضي، وهو رقم يضاف لقائمة “الهولوكوست السوري”، فيما انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع توثّق اعتداءً مفرطًا لمواليّ “حزب الله” على لاجئين سوريين في لبنان دون أي سبب وكنوع من التشفي، مستغلين حالة الفلتان الأمني بعد مقتل زعيم الحزب حسن نصر الله باستهداف جوي إسرائيلي.
عوائق العودة
مع عودة السوريين ودخولهم المنافذ الحدودية الواقعة تحت سيطرة الأفرع الأمنية التابعة لنظام الأسد، تجدد الحديث عن كابوس الاعتقال والاختفاء الذي لاحق المعارضين منهم، إذ وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان عمليات اعتقال واحتجاز تعسفي لما لا يقل عن 206 حالات خلال شهر سبتمبر/أيلول 2024 (بينهم 9 أطفال و17 سيدة)، 128 حالة على يد النظام السوري، و38 حالة على يد فصائل المعارضة المسلحة، و21 على يد قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، و19 حالة على يد هيئة تحرير الشام.
وأشار التقرير إلى أن عمليات اعتقال استهدفت اللاجئين العائدين من لبنان، خاصة عند المعابر الحدودية، بالإضافة إلى حملات اعتقال جماعية في مناطق عدة بتهمة التهرب من الخدمة العسكرية، التي غالبًا ما تكون بهدف الابتزاز المالي لأسر المعتقلين.
كما ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان أن قوات النظام اعتقلت نحو 35 شخصًا على طريق سلمية-الطبقة، بعد عبورهم الحدود اللبنانية-السورية، ووجّهت إليهم تهم التخلف عن الخدمتين الإلزامية والاحتياطية، قبل اقتيادهم إلى جهة مجهولة، حيث لم يكشف عن مصيرهم حتى اللحظة.
وحسب ما كشفت أرقام الأمم المتحدة فإن 60% من إجمالي العائدين إلى سوريا هم دون 18 عامًا، فلا تزال عودة الشباب والرجال محفوفة بالمخاطر لعدة أسباب منها أمنية والخوف من الاعتقال، إضافة إلى الاقتصاد المنهار والخدمات الضعيفة ووجود الأجهزة الأمنية التي تموّل نفسها عبر انتزاع الرشاوى من المدنيين.
ما سبق دفع الكثير من الشباب السوريين إلى معايشة الحرب والتأقلم معها ومواجهة مآلاتها، كونها أفضل بكثير من المرور على الأفرع الأمنية.
وبات السوريون الفئة أكثر تضررًا بسبب جملة من الصعوبات والحرمان، بدءًا من الإقصاء من مراكز الإيواء الجماعي، حيث تم إعطاء الأولوية للبنانيين والفلسطينيين، وصولًا إلى التضييق والطرد من ملّاك العقارات الذين يستغلون الأوضاع الاقتصادية لرفع الأسعار بشكل باهظ، كما أن بعض المناطق أصبحت مغلقة بالكامل أمام السوريين.
وما يزيد من حالة القلق لدى السوريين الخوف من استمرار الحرب في لبنان وما قد يترتب عليها من تغييرات، إضافة إلى التصريحات السياسية من مسؤولين لبنانين الذين اعتبروا عودة اللاجئين السوريين من لبنان دليلًا على وجود مناطق آمنة في سوريا، فقد طالب رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، الأمم المتحدة بإعطاء الأولوية للنازحين اللبنانيين وتوجيه المساعدات للسوريين داخل سوريا فقط، متجاهلًا توثيق ما لا يقل عن 4714 حالة اعتقال تعسفي للاجئين عادوا إلى سوريا منذ مطلع عام 2014 حتى يونيو/حزيران 2024.
تسهيل دخول اللبنانيين
ويواجه السوريون العائدون العديد من المصاعب من حيث تحمل تكاليف باهظة للتنقل والعودة إلى سوريا، بجانب ضرورة دفع مبالغ مالية كبيرة لعبور حواجز الأفرع الأمنية، إضافة إلى الخوف الدائم من بطش النظام السوري، الذي قد يعني لهم الاعتقال أو الاختفاء القسري دون أي ضمانات، ما يشكل هاجسًا مرعبًا يؤرق السوريين.
لكن في المقابل قدم نظام الأسد تسهيلات كبيرة جدًا للنازحين اللبنانيين، لا سيما المنتمين إلى مناطق الجنوب اللبناني ذات الأغلبية الشيعية، ففي حصيلة غير نهائية وحسب صحيفة “الوطن” الموالية، فإن “عدد السوريين العائدين نحو 200 ألف سوري”، ومن لم يستطع تأمين مأوى مؤقت له عند الأقارب والمعارف فقد تاه في شوارع وساحات المدن السورية مفترشًا الأرض وملتحفًا السماء.
أما النازحون اللبنانيون الذين وصل عددهم إلى 72 ألف لبناني، قدمت لهم حكومة النظام تسهيلات كبيرة، إذ أعلنت فنادق دمشق وغيرها من المدن السورية عن خصومات تصل إلى 60% لهم ولمدة شهر، كما أنشأت الحكومة مراكز إيواء قدمت لها كل الخدمات الإغاثية والغذائية والصحية للاجئين اللبنانيين فقط، كمركز الحرجلة والدوير بريف دمشق ومركز إيواء في مشروع دمر شمال غربي دمشق، يتّسع لـ1200 شخص، وتمّ افتتاح المدينة الرياضية وتفريغ مدرستين حكوميتين في اللاذقية، عدا عن تسليم مفوضية اللاجئين محافظة ريف دمشق مواد الإغاثة الأساسية.
ونقل موقع “أثر برس” الموالي، أن الفرق الطبية الموجودة في معابر ريف دمشق وحمص وطرطوس قدّمت خدمات الفحص الطبي والعلاج الإسعافي ولقاح الأطفال وخدمات الصحة الإنجابية للنساء بالإضافة للدعم النفسي لأكثر من 5500 شخص، فيما جرى نقل أكثر من 160 حالة إلى المشافي بالمحافظات.
وحسب معلومات حصل عليها “نون بوست”، توجهت أغلب العائلات اللبنانية، لا سيما الذين يعتبرون من الحاضنة الموالية لحزب الله إلى السيدة زينب جنوب العاصمة دمشق، إضافة إلى قرى وبلدات بريف دمشق خاصة في الغوطة الشرقية كالمليحة ودير العصافير وحتيتة تركمان، حيث تنتشر الكثير من المزارع التي تقع تحت تصرف عناصر ومسؤولين في الحزب، كما يتكفل الحزب بدفع إيجار العائلات في الفنادق السورية أو في الشقق ضمن العاصمة دمشق ولا سيما في حي الأمين ذي الأغلبية الشيعية.
في حديثه لـ”نون بوست”، أكد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني على وجوب اهتمام الدولة برعاياها أولًا، لكن “النظام السوري الذي بلغ مبلغًا كبيرًا في انحطاطه يؤكد دومًا أنه المسؤول الأول عن تهجير السوريين، وأنه يرفض إعادتهم عبر وضع عراقيل عديدة رغم وجود حكومة جديدة قد شكّلت حديثًا، والتي من أولوياتها وضع برنامج يتناول عودة السوريين الراغبين من لبنان”.
وقال عبد الغني: “هذا النظام نظام استبدادي متوحش متفرد بالسلطة لا يقبل أي رأي يخالف منهجيته المتبعة ضد السوريين، وباعتبار أن السوري بات مطرودًا من أي مكان ينزح إليه في لبنان فقد اضطر للعودة إلى سوريا رغم معرفته المسبقة بأنه عرضة للتحقيق الأمني أو التجنيد أو الاعتقال والاختفاء”.
عالقون في حدود داخلية
لا يبدو الوضع في الشمال السوري حيث مناطق سيطرة المعارضة السورية بأفضل حال، فتحت ذريعة الأسباب الأمنية، منعت الشرطة العسكرية التابعة للحكومة السورية المؤقتة إلى جانب قوة عسكرية تركية، دخول العائلات السورية العائدة من لبنان إلى الشمال السوري عند معبر “عون الدادات” الفاصل بين منبج القابعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية وجرابلس الواقعة تحت سيطرة الفصائل.
أحد الصحفيين الناشطين في مدينة الباب بريف حلب أطلق نداء لمساعدته في إدخال شقيقته وابنتها الرضيعة العالقتين في المعبر واللتين تعانيان أوضاعًا متردية، وتقيمان في العراء دون أي خدمات تقدم لهم، إلى جانب عشرات الأسر منذ 3 أيام، قبل أن يتم السماح لهم مساء أمس الخميس بالدخول بعد ضغط شعبي.
وبلغ عدد الذين دخلوا من المعبر 1500 مدني معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن وبينهم مرضى ومن ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث قدمت فرق الدفاع المدني الإسعافات الأولية لنحو 10 عوائل فور وصولهم وإسعافهم إلى المشافي.
وحسب مصادر “نون بوست” فإن الشرطة العسكرية في جرابلس احتجزت هويات عدد من الداخلين، كما تم توقيف عدد آخر بحجة التفييش الأمني والتأكد من أنشطتهم، وسط تجاهل كامل لمعاناتهم وانتظارهم دون أي خدمات أساسية، وصعوبة رحلتهم التي قطعوا بها مناطق واسعة وحواجز أمنية للوصول إلى الشمال السوري.
ويؤكد عبد الغني أنه لا مبرر للتضييق على السوري الذي يمتلك الحق في التنقل بحرية تامة بين المناطق السورية التي يجد فيها الحماية، لا سيما بعد تعرضه للخطر في لبنان، داعيًا المفوضية العليا لشؤون اللاجئين لبذل جهد مضاعف من حيث الاهتمام بهؤلاء السوريين وتأمين مكان آمن لهم أكثر من لبنان وسوريا.
وكان رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا، باولو سيرجيو بينهيرو، أشار في يوليو/تموز الفائت، إلى أن اللاجئين السوريين الذين عادوا بالفترة الأخيرة من البلدان المجاورة يواجهون خطر الاعتقال أو الاختفاء أو أن يجدوا منازلهم ومزارعهم مدمرة ولا سبيل لكسب الرزق في سوريا.
ختامًا، تمثل الأحداث الدموية في لبنان فصلًا جديدًا من فصول المعاناة السورية المستمرة، حيث يُواجه السوريون بالرفض والعداء في كل مكان، وكأن وجودهم غير مرحب به، وفي الوقت الذي تفتح فيه بلادهم أبوابها لاستقبال اللاجئين اللبنانيين، يجد السوريون أنفسهم مُبعدين عن بيوتهم وأرزاقهم، التي باتت مفتوحة فقط للقادمين الجدد، الذين يُرحب بهم دون قيد أو شرط، بينما يُدفع بالسوريين إلى مواجهة مستقبل غامض بعيدًا عن ممتلكاتهم وأحلامهم.