في قصيدته الشهيرة “المدينة” قال شاعر الإسكندرية الكبير قسطنطين كفافيس، أو كونستانتينوس بترو كفافيس، المصري اليوناني: “سأذهب إلى أرض ثانية، وبحر آخر، إلى مدينة آخرى، أفضل من تلك المدينة؛ كل محاولتي مقضي عليها بالفشل، وقلبي دفن كالميت هنا”، هكذا أوجز تعلقه بالمدينة بكلمات بسيطة كتبها قبل مغادرته الحياة عام 1933، وجعل منها وصية لعائلته ليدفن في الإسكندرية التي تتعلق بها القلوب، ولا يستطيع من يأتيها زائرًا الابتعاد عنها، سواء بتكرار العودة إليها أم بالإقامة الدائمة فيها.
قسطنطين كفافيس.. علامة إبداعية في التاريخ الأدبي للإسكندرية
كانت الإسكندرية طوال تاريخها ميدانًا للتأليف والأدب، في جميع عصورها كانت مقرًا دائمًا للأجانب بجميع أجناسهم التي توافدت عليها، ومنها خرجت العديد من الروائع في عصرها القديم والحديث، ويقف عند رأسه الشاعر المصري اليوناني قسطنطين كفافيس الذي سحرته المدينة، وجعلته غير قادر على الابتعاد عنها حيًا وميتًا، رغم عشقه لبلده الأصلي وكتاباته الشهيرة عن كلاسيكية اليونان، مدينة الروايات التي يجرفها التيار دائمًا كما عرفها الأديب البريطاني الكبير لورانس جورج داريل.
والإسكندرية معروفة بين المصريين، وجميع من يأتي إليها، أنها تستقطب كل من عاش بين أحضانها حتى لو شهرًا واحدًا، وتسحره للبقاء فيها للأبد، خاصة لو كان كاتبًا أو أديبًا وشاعرًا أو على صلة بالفكر والثقافة وحب الحياة.
قسطنطين كفافيس
كان قسطنطين كفافيس علامة إبداعية ضخمة في التاريخ الأدبي للإسكندرية، ولد وعاش ومات بها، فكتب عن الماضي اليوناني البعيد للمدينة بلغة ساحرة، ومزج بينه وبين حداثة الحاضر، سرد الأحداث من شرفة منزل أسرته في شارع شريف باشا أحد أرقى شوارع الإسكندرية وأكثرهم اتصالًا بالتاريخ، خاصة أنه يحمل اسم شريف باشا أبو الدستور المصري وواضع دستوري عام 1879 وعام 1882 كأول الدساتير في المنطقة والعالم بأسره، ولا يزال الشارع يحمل عبق التاريخ رغم تغير اسمه – بعد قيام حركة الضباط الأحرار – إلى صلاح سالم المعروف به حاليًّا، بعدما حافظ على نشاطه كسوق تجاري نخبوي يضم البنوك والعديد من المؤسسات التجارية العالمية، وبورصة القطن التاريخية التي خطب منها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر خطاب تأميم قناة السويس عام 1956.
استمر كفافيس طول السنوات الـ7 بعد قدومه للإسكندرية من جديد، وتوسع في قراءة الأدب البيزنطي والهليني
شكلت الأحداث التي مرت بالإسكندرية شخصية كفافيس الأدبية، فابن العائلة الأرستقراطية الذي نشأ بين كبار رجال القطن والبيزنس الذين ينحدرون من قوميات وأعراق مختلفة، تغير وعيه فجأة على ضرب الإنجليز للمدينة عام 1882، لترحل أسرته على الفور إلى الأستانة، ولكن نداهة الإسكندرية لم تجعلهم يصمدون أمامها إلا أشهر معدودة، وعادوا لها من جديد، ولكن العائلة أبقت على كفافيس وشقيقته لعدة أعوام أخرى خارجها حتى تستقر الأوضاع، ليعود هو الآخر بعد 3 أعوام إلى مدينته ليجدها محتلة بالكامل من الإنجليز، بما يعني تغير مراكز القوى الذي لن يسمح لليونانيين السكندريين بالعودة لمراكزهم القديمة التي كانوا عليها.
تأثر كفافيس بالوضع الجديد، في ظل طمس المعالم القديمة للإسكندرية، وأفرط في الاكئتاب، وظهر ذلك بشكل واضح على قصائده القديمة عن الإسكندرية، ويقول في إحداها التي أسماها “البحر في الصباح”:
“فلا أقف هنا.. وأرى الطبيعة مليا
شاطئ بحر رائع.. أزرق أصفر.. في صباح سماؤه صافية
كل شيء جميل مفعل بالضياء.. فلا أقف هنا ولأخدع نفسي بأني أرى هذه حقًا
ولا أرى خيالاتي ومتعة وهمية”
استمر كفافيس طول السنوات الـ7 بعد قدومه للإسكندرية من جديد، وتوسع في قراءة الأدب البيزنطي والهليني، ليعرف أدب البيزنطيين السكندريين القدامى من أمثال سيمونديس وكيوس وكاليماخوس، ونشر عام 1904 كتابًا فريدًا من نوعه في ذلك التوقيت، وكان يضم 14 قصيدة، وذاع صيته في دوائر المثقفين وانتقلت شهرته للعالمية بعد 6 أعوام، ونشر كتابه الثاني الذي ضمنه القصائد الـ14 التي نشرها في الكتاب الأول إضافة إلى 12 قصيدة أخرى، ولم ينشر أي مجموعات بعد ذلك، وكان حريصًا دائمًا على أن يستوحي في أعماله روح الإسكندرية وعالمها الخاص.
محطة الرمل 1930
لورانس داريل.. الأب الشرعي لأدباء الإسكندرية
يقال إن روح المكان تتجلى دائمًا في الأعمال التي تكتب تحت سمائه، لذا كانت العديد من الروايات التي تناولت الإسكندرية نفسها تتخذ من عروس البحر المتوسط، كما يحلو للعالم تسميتها، مسرحًا للأحداث، فالروائي البريطاني الكبير لورانس داريل أحد أعظم شعراء وكتاب أدب الرحلات في العالم، كتب فيها “رباعية الإسكندرية”، وكانت بوابته للصعود عالميًا ومن خلالها وضع نفسه على طريق المجد في الأدب الإنجليزي الحديث.
رواية “جوستين” لداريل والمعروفة بـ”رباعية الإسكندرية” التي صنفت في العديد من المحاكي الأدبية كواحدة من أهم الروايات التي كتبت في هذا القرن، كانت لها أبعاد خاصة على المصريين وغيرهم من متذوقي الأدب، لذا اعتبرت محط إلهام لكتابة عشرات الروايات الأخرى التي صنفت أيضًا ضمن أفضل الكتب المهمة في تاريخ الأدب وتحدثت عن الإسكندرية.
كانت “جوستين” كما كتب عنها عشرات السطور في نقدها، بداية انتهاء زمن الكتابة التقليدية المستقرة، لا سيما أنها فتحت الباب لخوض مغامرات فنية في القص ما زالت أصداؤها يومًا بعد الآخر، وكان للرواية لمحات وهوية مصرية وعربية، تتحدث عن هموم تلك المرحلة التي كتبت فيها، فبطلة الرواية :جوستين” يهودية متزوجة من رجل مصري يدعى نسيم، وفجأة تهرب إلى فلسطين لكي تعمل هناك، وتدور أحداث شيقة جذبت العالم بأكمله لتفاصيلها.
جورج داريل
إدوارد مورغان فورستر.. الدليل الجغرافي والتاريخي لعروس البحر
جذبت رباعية الإسكندرية واحدًا من أهم الروائيين البريطانيين، وهو إدوارد مورغان فورستر، للكتابة عن الإسكندرية بشكل آخر، وأصدر كتابًا أصبح وثيقة عالمية تاريخية أسماه “الإسكندرية تاريخ ودليل”، حكى فيه عن خريطة الأماكن التي يجب زيارتها للمهتمين والمولعين بالتفاصيل الساحرة التي روتها رباعية داريل، وسريعًا أصبح الكتاب الجديد وثيقة معتمدة للغربيين، وبصفة خاصة الأدباء منهم.
وزع كتاب فروستر على نطاق واسع في عشرينيات القرن الماضي، بداية من الإسكندرية مرورًا بأمريكا وبريطانيا، والعديد من دول العالم المهتمة بالأدب والفكر والثقافة، وخط مقدمته جورج داريل نفسه تقديرًا منه للإسكندرية وتوثيقًا للعمل الجديد.
كتب فروستر: “الإسكندرية تاريخ ودليل” خلال وجوده بعروس البحر كأحد متطوعي الصليب الأحمر الدولي إبان الحرب العالمية الأولى، وحكى تاريخ المدينة الذي استطاع معرفته وتوثيقه على مدار أكثر من 2250 عام من وجودها، وحاول فورستر ربط شواهد المدينة الحضارية بماضيها القديم، وطُبع الكتاب في الإسكندرية مطلع عام 1922 وظل يطبع طبعات جديدة حتى عام 1938.
إدوارد مورغان فورستر
صدر الكتاب من جديد في الولايات المتحدة عام 1961، ولم يصدر في بريطانيا حتى ثمانينيات القرن الماضي، ومع ضم الطبعة الجديدة في الولايات المتحدة لنص مترجم لقصيدة كفافيس “الإله يتخلى عن أنطونيو”، وهي نفس القصيدة التي أشار إليها داريل في رباعية الإسكندرية، لتسعى إليها على الفور دور النشر البريطانية بعد أكثر من 60 عامًا على نشر طبعتها الأولى.
إسكندرية فروستر كما صورها في الكتاب الذي يضم 340 صفحة من القطع المتوسط، مدينة هائلة من الأطياف المختلفة، وتكمن في أعماق الحلم المشترك للأدب، وعبر 8 فصول تحدث فروستر عن مسارح الأحداث التاريخية في المدينة، ولم يكتف بذلك، بل إنه غاص في بحر الإسكندرية ليتحدث عن الآثار المطموسة التي كانت البعثات الأوروبية في ذلك التوقيت تنقب فيه عن الآثار الغارقة، وخط فروستر سطور كتابه بروح روائي كبير يجعل جميع من يقرأ له أمام حالة شعرية تاريخية لمدينة الوجوه المتعددة كما سماها.
أدباء الإسكندرية.. على درب داريل
يمكن القول إن الكثير من أدباء المدينة تأثروا بجورج داريل وطريقته في سرد واقع الإسكندرية بكل ما يحتويه من تفاصيل وزخم وتشابك وتداخل في العلاقات الإنسانية، وأنتجوا الرواية المعاصرة بحرفية عالية، وخاصة الروائيين الكبار الذين صنعتهم المدينة، مثل إدوارد الخراط وإبراهيم عبد المجيد ومحمود عوض عبد العال وسعيد بكر ومصطفى نصر، وجميعهم بمجرد بدء القراءة لهم ترى بصمات داريل واضحة على أعمالهم من سطوة المكان.
تأثر الادباء السكندريين بالنص الرباعي المعقد الذي يتحدث عن المدينة والصراعات السياسية والاجتماعية الدائرة فيها، لذا كان أغلبهم يتمركزون وينطلقون من النص الرباعي المعقد، وكان قريبًا من نفس التأثير نجيب محفوظ عملاق الرواية العربية وصاحب نوبل، وتظهر هذه المسلمات واضحة في رواية ميرامار التي أطلق عليها الكثير من النقاد رباعية الإسكندرية الجديدة.
نجيب محفوظ
في الرواية تحدث محفوظ عن صاحبة البنسيون العجوز اليونانية التي بقيت من آثار الاستغلال الأجنبي كما صورها، وكان المكان نفسه شاهدًا على مرحلة فاصلة في التاريخ المصري وقتها بزيف شخصياته والأجانب الذي يعيشون على ماضيهم الأثير في المدينة، حرص نجيب على استخدام 4 تكوينات للرواية كما فعل داريل في رباعيته الشهيرة، ولم يقف استخدام محفوظ لسردية الرباعية على ميرامار وحدها، بل كرر نفس النمط في روايتي أفراح القبة والمرايا، بينما كتب رواية السمان والخريف تأثرًا بأجواء عروس البحر التي كان يعيش فيها طوال الصيف.
بنسيون ميرامار ما زال كما هو منذ تصويره بنفس الديكور
وكما تأثر نجيب محفوظ بأدب جورج داريل، تأثر فتحي غانم صاحب أشهر الروايات العربية “الرجل الذي فقد ظله” التي رصدت 4 أشخاص فقراء في مجتمع رأسمالي متوحش، ويحاول كل منها التسلق والهروب لإيجاد مكان له تحت الشمس، وتشابهت إلى حد كبير مع خلطة داريل وصراعات أشخاصه في رباعية الإسكندرية.
الأديب السكندري محمد جبريل ربما كان أكثر وضوحًا في تأثره بداريل في رائعته “رباعية بحري”، ولكنه هنا عمد إلى إظهار وجه الإسكندرية الأصيل، وحوت روايته حواديت الحب والرومانسية وكتبها بشكل بانورامي رحب، يحمل دلالة الأحداث المرتبطة لديه بصور من الطفولة والصبا، بجانب الروح الصوفية للمدينة، فذكر الأولياء الإمام أبو العباس والشيخ البوصيري وعلي تمراز، وهم رؤوس وأعلام تصوف المدينة في تاريخها الإسلامي.
الكاتب محمد جبريل
إدوار الخياط الروائي السكندري الكبير استمد روح الرباعية أيضًا في رواياته، وركز فيها على الشخصية السكندرية وطبيعتها وخاصة القبطية منها، وكانت رائعته “المدينة الرخامية البيضاء” خير مثال على ذلك، واستدعي فيها روح طفولته والتاريخ القبطي في مخيلته لها، وتداعيات الزمن والرموز المرتبطة به وقصص ألف ليلة وليلة وترانيم الأحد.
الروائي إدوار الخياط
وكما سار الخياط، أثرت الإسكندرية في الروائي مصطفى نصر الذي وضع بصمته في أعماله من الحارة السكندرية، ومن منطقة غربال العتيقة التي لم يذهب إليها داريل، رغم استخدام نصر أيضًا للرباعية في أعماله، وتجسدت بشكل واضح في راوية “الصعود فوق جدار أملس” التي نشرت في مراحل لاحقة تحت عنوان شارع ألبير.
كانت الإسكندرية على مدار تاريخها محل إلهام للكثير من النصوص السردية التي اتخذت من المكان شخصية خصبة لما يدور في فلكها، من أحداث تجسد توجهاتهم وواقعهم ورؤاهم تجاه الذات والآخر.