كتب هذه المادة كل من محمود العناني وسمية الكومي
“واحة في قلب صحراء مترامية، في شرقيها تقوم السرايات كالقلاع، وفي غربيها تتجاور البيوت الصغيرة، مزهوة بجدتها وحدائقها الخلفية، تكتنفها من أكثر من ناحية حقول الخضر والنخيل والحناء وغابات التين الشوكي، يشملها هدوء عذب وسكينة سابغة لولا أزيز الترام الأبيض بين الحين والحين في مسيرته الدائبة بين مصر الجديدة والعتبة الخضراء”.
هكذا وصف نجيب محفوظ منطقة العباسية، غرب القاهرة، التي كانت دائمًا البطل الحقيقي لرواياته، تلك القاهرة، المدينة العتيقة التي تمتد جذورها لألف عام أو يزيد، تتنوع الأحياء في قلبها حتى تسفر عن ألف وجه، تلك المدينة ذات التناقضات، الطاهرة، السافرة، تُهجى وتُعشق، ويهاجر لها الجميع، وتُهجَرُ وينزع إليها دائمًا الحنين، على أنقاض مدن أخرى نشأت، واحتلت مكانة حُسدت عليها على مر العصور، مكانة جلبت لها الجيوش من كل حدب وصوب.
قاهرة نجيب محفوظ
رغم أنها لم تكن في ثلاثينيات القرن الماضي “جديدة” بالمعنى المعاصر للكلمة، فإن نجيب محفوظ اختار أن يرويها بهذه الصيغة في روايته “القاهرة الجديدة”، فقد كانت هذه الأيام بداية لانتشار الرشوة والمحسوبية في شتى نواحي المجتمع وأصبحت تلك الأفعال هي السائدة في ظل انقسام طبقي شديد.
كانت القاهرة البطل الدائم في روايات محفوظ كما يتجلى ذلك في “زقاق المدق” التي صورها كمدينة تتلاطم في حاراتها سِيَر الأبطال والجبناء، حيث اختار محفوظ الجانب الروحي منها، وراح في حارات الحسين القديمة يتأمل حكايات الفتوات والمعلمين، ورأى من خلال سيرهم التاريخ الإنساني كاملًا، كما أشار في “أولاد حارتنا” و”الحرافيش”، وأحيانًا كسفينة لا تسير على هدى، هائمة على وجهها بلا قائد في “ثرثرة فوق النيل”، وتارة هي جنة صعبة المنال لا يصل لها قنديل العنابي إلا بشق الأنفس كما في “رحلة ابن فطومة”، وتارة أخرى تمثل غيبوبة الهائمين على وجوههم في “حضرة المحترم” و”الطريق” و”قلب الليل”.
يعد محمد المويلحي من أقدم الأدباء الذين شهدتهم مصر الحديثة، حيث قدم في رائعته “حديث عيسى بن هشام” صورة للقاهرة وهي تودع القرن الـ19
زرع مينا (موحد القطرين) سيفه على مسافة 22 كيلومترًا جنوب القاهرة المعاصرة، وأعلن عاصمته الجديدة منف (الجدار الأبيض) 3200 ق.م. وأطلق الإغريق على ضاحيتها مدينة الشمس (هليوبوليس).
شواهد كثيرة تؤكد أن هذا المكان وهذه البقعة المترامية على ضفتي النيل كانت عاصمة لمصر أغلب فترات التاريخ، فيها تتجاور ثقافات الإنسانية في سلام ووداعة، فالإسلامية والمسيحية واليهودية تتجاور مع الفرعونية، وجاء المسلمون، فنشأت الجوامع والقصور والمزارات من وحي الفن القبطي القديم، وبروح مصرية أصيلة ميزت العمارة الإسلامية في القاهرة عن أي بلد آخر، حتى عن البلد الذي خرج منه الإسلام.
يعد محمد المويلحي من أقدم الأدباء الذين شهدتهم مصر الحديثة، حيث قدم في رائعته “حديث عيسى بن هشام” صورة للقاهرة وهي تودع القرن الـ19، يستغل الكاتب شخصية عيسى بن هشام راوي مقامات بديع الزمان الهمذاني، بأسلوب يشبه أسلوب مقامات الهمذاني، متميزةً بخفة الظل، ليحكي للناس حلمًا رآه في نومه، فيطوف بنا في القاهرة في حكي شيق وبسيط لشرح أخلاق الناس ومعاملاتهم، وطبيعة علاقاتهم في الطبقات الاجتماعية المختلفة، فيرصد نقائص الأخلاق وما يعيبُ الإنسان منها، داعيًا إلى تجنبها، ومؤكدًا على فضائل الأخلاق ومكارمها.
وللقاهرة الحديثة أثواب عدة، أهمها قاهرة المعز وقاهرة محمد علي، عبْرَهما تشكلت القاهرة الموجودة الآن، وعبْرهما تشكلت الشخصية المصرية المعاصرة، فعندما تجد نفسك في شوارع تشبه المتاحف وتحاوطك مآذن عملاقة ومساجد عتيقة وأضرحة الأولياء فاعلم أنك الآن في مصر الفاطمية، حيث المقاهي القديمة تتناثر عبر الطرقات والأزقة الضيقة كأنك دخلت مدينة أسطورية، ففي كل بناء دارت أحداث اختلطت فيها الحقائق بالخيالات، ولكل حجر حولك هنالك حكاية ما.
وتجول جمال الغيطاني في “ملامح القاهرة في ألف سنة” عبر دروب المدينة العتيقة، مُستعيدًا التضاريس الدقيقة لقاهرة المعز وبيوتها الأثرية وروائحها الطيبة وحواريها ومقاهيها القديمة وأزياء القاهرة في حقب مختلفة.
قاهرة الأربعينيات صورها يحيى حقي في “قنديل أم هاشم” مدينة يسيطر عليها الجهل والخرافة
حينما تشعر بالسلام والدفء الذي ندر في حياة المصريين اليومية، وترى الوجوه البسيطة والمهن اليدوية التي أوشكت على الانقراض ورائحة البخور وتجمعات الصوفيين، تأكد أنك بالجزء الروحاني بالقاهرة، “القاهرة الفاطمية”، على عكس قاهرة محمد علي التي تحاوطها القصور والعمارة الشاهقة على طراز العمارة الباريسية القديمة، هناك تتجلى قسوة التصاميم في وجوه الناس، وتجمعات المثقفين على مقاهي وسط البلد.
صارت اليوم قاهرة محمد علي متخمة بأماكن العمل والطرق الواسعة المزدحمة دائمًا، والمصالح الحكومية والهيئات الرسمية، فالقسوة اختبأت وسط الجمال، فيتذكر المارون بها أنهم في الجزء المادي من القاهرة.
لكن قاهرة الأربعينيات صورها يحيى حقي في “قنديل أم هاشم” مدينة يسيطر عليها الجهل والخرافة، فرغم ذهاب “إسماعيل” لتلقي العلوم الطبية في أوروبا فإنه حينما عجز تمامًا عن شفاء مرضاه ولجأ إلى الخرافة واستخدام زيت القنديل في نهاية المطاف.
ومن خلال “الشيخ حسني” و”المعلم هرم” و”يوسف النجار” وفي حي إمبابة، يُرينا الأديب إبراهيم أصلان في روايته “مالك الحزين” المدينة دائمة الحركة التي تزحف نحو الأحياء المهمشة لتجعلها أكثر تهميشًا، هادمين بنيتها القديمة وعلى أنقاضها يقومون بإنشاء المباني التجارية، حيث يتلاعب المقاولون بمصائر الشعب في زمن الانفتاح، لم يكن لهذا الزحف تأثيرًا على الأحياء الشعبية فقط في القاهرة، فأثارت مي التلمساني في روايتها “هليوبوليس” مشاعر الفقد، حيث حي مصر الجديدة الذي تبدل كما تبدلت كل أحياء القاهرة، فصنعت من الشوارع أبطالًا لروايتها.
المركز والقلب
القاهرة التي عاشت رغم 300 حريق خلال 8 قرون جراء عمليات تخريبة أو عسكرية أو قدرية، بداية من حريق الفسطاط في نهاية العصر الفاطمي مرورًا بحريق 52 و71 حتى حريق العتبة 2016 ، ومع ذلك لا تزال حية صامدة، فهي مهد التقاء الأديان الثلاث ومرور الأنبياء ومدفن الصحابة والأولياء.
شهدت القاهرة في القرن الـ20 نزوح الجميع من أقاصي الشمال والجنوب إليها، حاملين أحلامهم وطموحاتهم
إن مركزية القاهرة على مر التاريخ جعلتها المدينة الأكثر حركة بين المدن المصرية، ورغم هذه المركزية رأى علاء الديب في روايته “القاهرة” أنها مدينة باردة تشعرك بالغربة والوحدة وتدفعك للموت أو لارتكاب جريمة قتل.
شهدت القاهرة في القرن الـ20 نزوح الجميع من أقاصي الشمال والجنوب إليها، حاملين أحلامهم وطموحاتهم، ففيها أول جامعة وأول إذاعة وأول مسرح وأول سينما، هاربين من محدودية موارد القرية، فلكم ساعدت القاهرة أشخاصًا ليبلّغوا العالم رؤاهم وأفكارهم وإبداعاتهم، فاجتذبت طه حسين من الصعيد والعقاد من أقصى الجنوب بأسوان، ووقف على مسارحها شعراء وأدباء وفنانين من كل مكان ليس فقط في مصر بل العالم العربي وشمال إفريقيا.
وهو ما دفع يوسف إدريس لوصفها بـ”النداهة” في قصته القصيرة التي تحكي عن فتاة ريفية منبهرة بالمدينة البعيدة، التي تتخيلها طوال الوقت مليئة بالدهشة والسحر لدرجة أنها وافقت على الزواج من “حامد” فقط لأنه سوف يحقق حلمها المنشود ويصطحبها للعيش معه في القاهرة، وعبّر عن السقوط في براثنها بقصته “قاع المدينة”.
حكايات وسط البلد
دائمًا ما كانت منطقة “وسط البلد” محل بحث الأدباء في روايتهم، فتحكي “صالح هيصة” لخيري شلبي عن قاع المجتمع القاهري ومثقفي وسط البلد المهمشين في ظل صراع الاشتركية والرأسمالية، ليأتي علاء الأسواني في “عمارة يعقوبيان” مسلّطًا الضوء على فكر وسلوك المجتمع القاهري بعد الانفتاح من خلال سكان شارع طلعت حرب أحد أهم شوارع المنطقة.
يرى الروائي مكاوي سعيد أن قاهرة محفوظ كانت في معظم ما كتب من روايات هي قاهرة الثلاثينيات، أما قاهرة الألفية الجديدة فقد اتخذت ملامح جديدة وخضعت لتحولات على مستوى الأماكن والبشر، كما تحولت منطقة وسط البلد من ملتقى المثقفين إلى مركز تجمع المهمشين وأطفال الشوارع، وإن ظلت بعض مقاهيها تقوم بدورها القديم في استضافة المثقفين.
عاشت القاهرة أعمارًا من التناقض يعيش فيه سكانها حتى الآن، متأثرين بظروف البلاد السياسية والاقتصادية منعكسة على مناحي حياتهم وتصرفاتهم
أخذت القاهرة مساحة لا بأس بها من أدب إحسان عبد القدوس، فغاص في تحولاتها الاجتماعية في السبعينيات، فعبّر عن حي السبتية ووكالة البلح التي خرج منها عبد الغفور البرعي كمثال للطبقة الجديدة التي جاءت من أقصى الهامش لتصعد على ظهر النفوذ الرأسمالي في القاهرة، وحالف إحسان عبد القدوس الحظ حينما عاصر أول عامين من التسعينيات وعبر عنها على لسان معروف حمامة قائلًا: “زئير في الأحلام، والحياة في أقفاص”.
عاشت القاهرة أعمارًا من التناقض يعيش فيه سكانها حتى الآن، متأثرين بظروف البلاد السياسية والاقتصادية منعكسة على مناحي حياتهم وتصرفاتهم، رواية طويلة تمتد فصولها إلى القرون الأولى من التاريخ، بوجوه وأبطال وأحداث مختلفة، باسم وضاحك وثائر ومُبتئس، وكلما قلبت صفحة تجد حكاية أخرى أكثر إثارة من سابقتها، حتى إذا ظننت أنك فرغت وأغلقت غلافها، ونظرت إلى القاهرة من على حافة جبل المقطم ستجد حكاية أخرى، لم تُسعف الأيام الكاتب أن يدونها، فهي قاهرة الفراعنة واليهود والمسيحيين والمسلمين، قاهرة ابن العاص والمعز ومحمد علي وناصر والثورة، قاهرة كل شيء التي تبقى ببقاء الزمن، عصية على التحريف أو التهميش، تبقى قاهرة الدنيا وأمها.